أصدر الدكتور محمد مرسي، رئيس جمهورية مصر، إعلانا دستوريا زاخرا بالمواد التي عصفت بالسلطة القضائية، وقيدت حركتها ومنعت المحاكم من التصدي لصحة تشكيل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور. ولكنه لم يقنع بذلك؛ وفي إجراء غير دستوري لا سابقة له، قرر بإرادته المنفردة تحصين قراراته في الماضي والحاضر والمستقبل، ومنع رفع أي دعوى قضائية للاحتجاج عليها. وأضاف إلى كل هذه المواد المضادة للمبادئ الدستورية المستقرة والقواعد القانونية الراسخة، حقَّه في اتخاذ إجراءات استثنائية في حالة تعرض الثورة للخطر أو أمن الوطن للتهديد. وفي مواجهة هذا الإعلان الدستوري الديكتاتوري، انتفض ملايين المصريين من كل الاتجاهات السياسية ما عدا جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين، وتظاهروا لإسقاطه. ويكفي للتدليل على هذا الرفض الشعبي واسع المدى مشاهدة الحشود بمئات الآلاف في ميدان التحرير، تقودها الرموز السياسية الثورية والليبرالية واليسارية، إضافة إلى الصحافيين والكتّاب والأدباء والمثقفين بوجه عام، مطالبين بإلغاء الإعلان الدستوري الذي حوّل رئيسا للجمهورية منتخبا إلى ديكتاتور جمع كل سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية في يده. وللمرة الأولى في تاريخ القضاء المصري، أجمعت الجمعيات العمومية لمختلف المحاكم، وعلى رأسها محكمة النقض ومحاكم الاستئناف، على تعليق أعمالها احتجاجا على الإعلان الدستوري الذي سمح لمصدره رئيس الجمهورية بالتغول على السلطة القضائية بصورة لا سابقة لها في عهود مصر السياسية جميعا. والواقع أن هذا الإعلان الدستوري يعد الحلقة الأخيرة من حلقات الانقلاب السياسي الذي قامت به جماعة الإخوان المسلمين مستخدمة في ذلك أدوات الديمقراطية العتيقة السياسية، والتي تتمثل في نتائج صندوق الانتخابات. واستخدمت الجماعة والتيارات السلفية، بحكم تغلغلها في الشارع، الدعاية الدينية وسيلة رئيسية لتزييف وعي الجماهير العريضة التي تسودها الأمية (معدلها 40 في المائة) والفقر الشديد (أكثر من 20 مليون مصري تحت خط الفقر). والدليل على ذلك الدعاية الدينية المزيفة التي صاحبت الاستفتاء الدستوري الذي نظمه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في بداية المرحلة الانتقالية، وكان السؤال الرئيسي المطروح هو: هل نبدأ بالدستور أولا أم بالانتخابات؟ وحشدت جماعة الإخوان المسلمين كل قوتها لتدفع الجماهير غير الواعية إلى الموافقة على خيار الانتخابات أولا، على أساس أن من يجيب بذلك سيدخل الجنة! وأجريت الانتخابات، بالفعل، في سياق يتميز بتشتت القوى الثورية والليبرالية واليسارية، وبالتنظيم الحديدي لجماعة الإخوان المسلمين والذي سمح لها بأن تحصل على الأكثرية، متحالفة في ذلك مع حزب النور السلفي، في مجلسي الشعب والشورى. ثم تقدمت جماعة الإخوان المسلمين بمشروعها للانقلاب السياسي على الدولة المدنية تحت شعار «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع»، واستطاعت بمجهود صعب إنجاح مرشحها الدكتور محمد مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة، لكي يصبح رئيسا للجمهورية بفارق ضئيل للغاية عن خصمه الفريق أحمد شفيق. ومنذ تلك اللحظة، بدأ المخطط الإخواني لأخونة الدولة عن طريق دفع كوادر الجماعة للنفاذ إلى مفاصل الدولة والمؤسسات المختلفة بها. غير أن أحكام القضاء الدستوري والإداري وجهت ضربات ساحقة إلى الجماعة، أبرزها على وجه الإطلاق حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب نتيجة عوار قانوني في القانون الانتخابي الخاص به؛ والحكم الثاني الذي أصاب الجماعة في مقتل هو حكم محكمة القضاء الإداري بحل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور لأن تشكيلها كان مخالفا للقواعد المقررة. وكان حل مجلس الشعب أخطر ضربة وجهت إلى الجماعة، لأنه رغم أدائه السلبي والباهت كان هو الأداة الرئيسية للجماعة للبطش بخصومها عن طريق إصدار تشريعات غير قانونية. وحاول الدكتور مرسي الالتفاف حول حكم المحكمة الدستورية العليا بعد أن أطاح بقيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأصدر قرارا جمهوريا بعودة مجلس الشعب، إلا أن المحكمة الدستورية العليا وقفت له بالمرصاد وحكمت ببطلان قراره واضطر إلى سحب هذا القرار المعيب، ولم ينسَ مرسي أبدا للمحكمة أنها أحرجته إحراجا شديدا أمام جماعته وأمام الشعب. ورغم أن محكمة القضاء الإداري أبطلت الجمعية التأسيسية للدستور، فإن جماعة الإخوان المسلمين أعادت تشكيلها وحرصت على أن تكون الغالبية لأعضائها وللسلفيين، حتى تهيمن على عملية صوغ الدستور في مواجهة الليبراليين والعلمانيين. وشهدت هذه الجمعية في فترتها الأخيرة انسحابات متعددة لعشرات من أعضائها احتجاجا على طريقة إدارة المناقشات في الجمعية، وعلى نصوص متعددة بدا فيها الخلط المعيب بين الدين والسياسة. ولأن المحكمة الدستورية العليا كانت معروضة أمامها قضيتان: الأولى خاصة بإبطال مجلس الشورى والثانية متعلقة بإبطال الجمعية التأسيسية، فقد حاول الرئيس محمد مرسي استباق هذه الأحكام المتوقعة وأصدر، بغير سند قانوني، الإعلان الدستوري الذي نصّ فيه على تحصين كل من مجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور ومنع أي دعاوى قضائية ضدها. وحضّ الرئيس الجمعية التأسيسية للدستور على الإسراع في الانتهاء من مسودة الدستور، مما أدى برئيسها وأعضائها إلى أن يصلوا الليل بالنهار حتى يقدموا إلى رئيس الجمهورية مسودة الدستور، والتي تسلمها من رئيس الجمعية في احتفال علني حاشد، وقرر أن يصدر في المساء قرارا جمهوريا بدعوة الناخبين إلى الاستفتاء على الدستور. وهكذا، تحولت الأزمة السياسية العميقة التي أحدثها الإعلان الدستوري الباطل، والذي حوّل الرئيس إلى ديكتاتور مطلق السلطات، إلى أزمة مزدوجة لأن الدعوة إلى الاستفتاء على مسودة الدستور في غياب التوافق السياسي عليه تعد في الواقع محاولة لاغتصاب الشرعية السياسية باستخدام آليات الديمقراطية دون إعمال لقيم الديمقراطية الأصيلة التي تقوم على الحوار والحلول الوسط في ظل الحوار السياسي الضروري لاستمرار العملية الديمقراطية. وقد امتنع القضاة عن الإشراف على إجراء الاستفتاء كما تقرر ذلك القواعد الدستورية، ولكن رئيس الجمهورية قرر المضي قدما في مخططه لاغتصاب الشرعية السياسية ضاربا عرض الحائط بالانقسام السياسي الخطير للمجتمع السياسي، والذي تؤكده التظاهرات المليونية المضادة والتي رفعت شعارات الثورة في بدايتها «الشعب يريد إسقاط النظام»! وفي تقديرنا أن الرئيس محمد مرسي، الذي فشل في أن يكون رئيسا لكل المصريين وأثبت أنه مجرد ممثل لجماعة الإخوان المسلمين، قد فقد شرعيته الرئاسية نتيجة الفشل الذريع لجماعة الإخوان المسلمين في الإدارة السياسية لشؤون البلاد، مما يجعلنا نؤكد أن محصلة الصراع الدائر الآن هي الهزيمة الكاملة لمشروع الإخوان المسلمين بالمعنى التاريخي للكلمة! لقد رفعت الجماعة منذ سنوات طويلة شعار «الإسلام هو الحل»، وقد سبق لنا أن انتقدناه وقلنا إنه شعار فارغ من المضمون، لأن الإخوان لا يمتلكون مشروعا فكريا. والدليل على ذلك أنه بعد أن واتتهم الفرصة التاريخية لحكم مصر بعد ثورة 25 يناير، أثبتوا أنهم لا يصلحون لإدارة البلاد لافتقارهم إلى الكوادر المدربة، وقبل ذلك لغياب الرؤية الاستراتيجية!