«شكون انت؟» هكذا خاطب ادريس البصري الصحافي خالد الجامعي سنة 1993. بعد 20 سنة توجه إليه «المساء» نفس السؤال، مع اختلاف الغرض والسياق. يعترف الجامعي لأول مرة بأنه «جامعي مزور» وأن أصول جده من اليمن، وأن والده بوشتى الجامعي اعتقل في القنيطرة حيث كان والد عباس الفاسي قاضيا مواليا للاستعمار ويكتب قصائد المدح في هتلر وبنعرفة. يحكي عن صراعات الوطنيين بعد استقلال المغرب، وكيف تكلف سعيد بونعيلات، المقرب من الفقيه البصري والمهدي بنبركة، بقتل والده، وكيف جاء بونعيلات يخبر والدته ليلا بأنه سيقتل زوجها في الصباح. كما يؤكد أن عائلة والدته مقتنعة بأن بنبركة متورط في دم خاله احمد الشرايبي، أحد مؤسسي منظمة الهلال الأسود، المقاومة للاستعمار. فوق كرسي اعتراف «المساء»، يحكي خالد الجامعي عن طفولته بدرب السلطان بالدار البيضاء، وانخراطه في النضال التلاميذي، واهتماماته المسرحية والفنية التي قادته إلى وزارة الثقافة ثم إلى الصحافة، واعتقاله. ويقف طويلا عند كواليس تأسيس حزب الاستقلال للاتحاد العام لطلبة المغرب، لإضعاف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وكواليس صراع عبد الرزاق أفيلال وشباط حول نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب. كما يتطرق إلى علاقته بكل من ادريس البصري وأندري أزولاي وفؤاد عالي الهمة، ويقارن بين سلفيي الحركة الوطنية «المتنورين» والسلفيين في وقتنا الراهن. - تتبعتَ، كصحفي في «لوبينيون»، وقائع حملة التطهير لسنة 1996؛ ما الذي تذكره عن هذه المرحلة؟ قبل أن تتم إثارة قضية الصيدلاني منصف بنعبد الرازق (اتهم بإدخال عيّنات دم ملوثة بفيروس السيدا والتهاب الكبد من الخارج وحكم عليه بتسع سنوات سجنا)، بلغني من بعض الصحفيين أن السلطات عثرت على دم ملوث بالفيروس المسؤول عن فقدان المناعة المكتسبة (السيدا) بالدار البيضاء. ارتبتُ، بدايةً، في هذا الخبر ووجدت أن الأمر لا يخلو من غموض. لاحقا، سوف يتضح لي أن الخبر تم تسريبه إلى الصحافة في سياق التحضير للضجة التي ستثار حول هذا الموضوع. - هل نشرت الخبر؟ قلت للصحافيين الذين أبلغوني به إنني لست مقتنعا بما يقولونه، وإنه لو كان صحيحا لوصلنا بطرق أخرى. بعدها بفترة وجيزة، تلقيت اتصالا من كاتبة وزير المالية آنذاك محمد القباج، أخبرتني خلاله بأن الوزير يريد مقابلتي. إلى حدود تلك المكالمة، لم يكن بيني وبين الوزير أي اتصال سابق.. كسر القباج الحواجز بيننا وهو يخبرني، أثناء استقباله لي، بأنه سبق أن كان نائبا برلمانيا عن دائرة اولاد جامع (قبيلة والد خالد الجامعي) ثم راح يحدثني عن صداقته لعائلة الجامعي المعروفة بالدار البيضاء، ظنا منه أنهم أقاربي. فجأة، اتخذ مكانا بجانبي على الأريكة، واقترب مني وبدأ يتحدث عن حملة التطهير والخطر المحدق بالبلاد. كانت الحملة حينها في أوجها، والاعتقالات جارية بوتيرة مكثفة؛ ثم أضاف أنه قابل الحسن الثاني قبيل بداية الحملة، وأنه كان مرفوقا بمدير الجمارك، وأنهما -القباج ومدير الجمارك- أخبرا الملك بأن ثمة تجاوزات يقوم بها بعض الأشخاص في مجال الاستيراد المؤقت، قبل أن يسلماه لائحة من 30 اسما ويقترحا عليه تحذير أولئك المستوردين عن طريق إنذارات كتابية أو بواسطة عناصر الأمن، مع منحهم مهلة سنة ليقوموا بحل المشاكل المتعلقة بنشاطهم الاقتصادي، لكن الملك أجابهما بأن المعنيين بالأمر لن يردّوا على الإنذارات الكتابية ولن يولوها أي اعتبار، وأضاف أنه من الأحسن أن تستعين وزارة المالية وإدارة الجمارك بالسلطة، ثم أحالهما على ادريس البصري. - هنا دخل ادريس البصري على الخط لترتبط حملة التطهير باسمه؟ بالضبط، هكذا سيدخل البصري على الخط ليستغل مسألة ضبط الاستيراد المؤقت من أجل تصفية حسابات شخصية. وعلى ذكر حملة التطهير، فأنا في الحقيقة لم أكن أسميها كذلك، بل سمّيتُها «الحْرْكَة»، لأن المخزن كان بحاجة إلى المال فكانت تلك فرصته للحصول عليه، كما أن الدولة كانت تريد تصفية الحسابات مع رجال الأعمال، لأن الأخيرين كانوا قد بدؤوا آنذاك يعون أهمية إقرار ديمقراطية اقتصادية في المغرب، والتي لا تعني غير إيقاف احتكار الملك وأقاربه للاقتصاد، وهذا لا يمنع من أن تكون لهم حصة في الاقتصاد الوطني، في إطار من الشفافية والديمقراطية، وهو ما سيحتم خلق قانون ينظم المنافسة ويلزم كل الجهات المستفيدة من الاقتصاد بتأدية الضرائب. تلك كانت أول مواجهة يدخلها رجال الأعمال مع المخزن. وهنا أستحضر عبد الرحيم الحجوجي (الرئيس السابق للاتحاد العام لمقاولات المغرب CGEM) الذي تلقى تربية وطنية ديمقراطية، إذ كان والده من رجال الحركة الوطنية وصديقا حميما لوالدي السي بوشتى الجامعي، وقد حكى لي عبد الرحيم أن المرة الوحيدة التي يذكر أن والده ضربه فيها كانت بفعل أنه لم يُقبّل يد والدي عندما زارهم مرة في بيتهم. وأستحضر أن عددا من رجال الأعمال ممن كانوا ينحدرون من عائلات وطنية أصبحوا مقتنعين، في تلك الفترة، بأن الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة لتحصيل المال بشكل قانوني، لذلك كان من الطبيعي أن تحدث مواجهة بينهم وبين سياسة المخزن التي كانت قائمة على احتكار الثروة، أضف إلى ذلك أن وسط رجال الأعمال كان قد عرف حينها تغيرا على المستوى السوسيولوجي، لأن الآباء كانوا قد تنحوا عن تولي الأعمال، ليخلفهم أبناؤهم القادمون من أمريكا وأوربا، وهؤلاء كانوا قد درسوا الاقتصاد بالخارج، وعادوا بنِيّة تنمية الاقتصاد الوطني عبر تطوير أعمالهم، وقد أخبرني عبد الرحيم الحجوجي أن البصري قال له مباشرة: «غادي نُورّيكم اشنو هو المخزن». - ما هي خلاصة لقائك بوزير المالية حينها محمد القباج؟ لقد كان القباج جريئا في نقده ونقمته على حملة التطهير، بل أكثر جرأة مما كنت أكتبه أنا حينها في «لوبينيون»، لذلك استدرت نحوه في لحظة وقلت له: يجب أن تقول هذا لوزير الداخلية.. ها وزارتو حداك، جوج خطوات وتكون عند البصري». ومن بين الأشياء التي كان القباج يريد أن يلفت انتباهي إليها أن ادريس البصري كان يستهدف، من ضمن من كان يستهدفهم، ادريس جطو، وزير التجارة والصناعة حينها. - كيف ذلك؟ لقد كانت لدي معلومات مفادها أن البصري يحتفظ فوق مكتبه بملف فيه من الحقائق بقدر ما فيه التدليس عن ادريس جطو، وأنه كان ينتظر اللحظة المناسبة ليرسل الأخير إلى السجن، بل وكان يريد أن يرسل حتى القباج إلى السجن. وعندما سألت القباج عن الأمر أكده لي بالتلميح وأضاف قوله: «البصري باغي يضرب لفوق.. وباغي يمشي بعيد». - ما سبب العداوة التي كان يحملها البصري لهؤلاء؟ البصري كان يريد أن يعطي درسا للبرجوازيين الذين فكروا في الخروج من تحت جناحي المخزن الاقتصادي، ومن خلالهم كان يريد أن يستعرض قوة المخزن، و«ما فيها باس يجمع شويا د الفلوس».