في 1955، اتخذ الرئيس المصري الشاب، ثاني رؤساء الجمهورية المصرية الوليدة، جمال عبد الناصر، خطوة جريئة بعقد صفقة سلاح مع تشيكوسلوفاكيا. كان العالم آنذاك يعيش مناخا من الحرب الطاحنة بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. وبالرغم من أن الحرب، التي استمرت من 1949 إلى 1989، سميت بالحرب الباردة، ربما لأنها لم تشهد إطلاق نار في مسرحها الأصلي، المسرح الأوربي، فإنها تسببت في صدامات دموية وباهظة التكاليف، وإن بصورة غير مباشرة، في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. حتى ذلك الحين، صنفت مصر منطقة نفوذ غربية، واعتمدت في تسليحها بصورة أساسية على بريطانيا، القوة الإمبريالية المسيطرة على مصر منذ 1882. ولكن سلسلة من الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة، الذي أصبح منطقة إدارة مصرية منذ 1948، كشفت ضعف تسليح الجيش المصري وحاجته الملحة إلى سلاح جديد، خفيف وثقيل معا. ولأن عبد الناصر أدرك أنه لن يستطيع الحصول على ما يريده من بريطانيا، ولا من فرنسا التي بدأ يدعم جبهة التحرير الوطني الجزائري في مواجهتها، وأن الولايات المتحدة كانت وافدا جديدا إلى الساحة الدولية، فقد قام بفتح خط اتصال مع السوفيات عن طريق الصين. ولحسابات سوفياتية دقيقة، تقرر أن تقوم تشيكوسلوفاكيا، وليس الاتحاد السوفياتي، بتقديم السلاح الذي طلبته مصر. الآن، وبعد مرور هذه السنوات الطويلة، لم يعد ثمة شك في أن ذهاب مصر إلى الكتلة الشرقية لم تفرضه متطلبات التسلح الملحة وحسب، بل ورغبة عبد الناصر في توكيد استقلالية بلاده وفتح أبواب الخيارات الدولية أمامها، أو ما سيسمى بعد ذلك ب»سياسة عدم الانحياز»، وبناء توازن عسكري بين مصر والدولة العبرية. في الأسابيع القليلة الماضية، عاشت المنطقة العربية مناخا دفع عددا من الكتاب والمعلقين العرب، ولاسيما ذوي ما يعرف أحيانا ب»الخلفية القومية أو الناصرية»، إلى استدعاء ذكرى 1955 التي افتتحت طريق علاقة استمرت ما يقارب العقدين. لبعض من هؤلاء، بدا وكأن زيارة وزيري دفاع وخارجية روسيا لمصر وانطلاق مفاوضات أولية حول صفقة سلاح روسي -تتضمن أنظمة مضادة للطائرات ومعدات مضادة للدبابات وصواريخ بحرية وقطع غيار وتحديث لسلاح سوفياتي قديم لدى مصر، بقيمة 2 مليار دولار- تصديق حي للكيفية التي يعيد بها التاريخ نفسه. ولكن، وإلى جانب أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا بصورة هزلية، كما قال ماركس، هذه بعض الأسباب التي تقترح التريث في قراءة الدفء المستجد في العلاقات العربية الروسية، قبل أن تستبدل الوقائع الصلبة لموازين العالم بالأوهام: أولا: لا يعيش العالم في 2013 حربا باردة، وليس ثمة توازن رعب بين كتلتين عالميتين إيديولوجيتين، ولا سباق تسلح، ولا صراع النفوذ كذلك الذي عرفه العالم بين الخمسينيات والثمانينيات من القرن العشرين. منذ 1989، ذهب حلف وارسو أدراج الرياح، وزحف حلف الناتو والاتحاد الأوربي، معا، في أوربا الوسطى والشرقية حتى لامسا حدود روسيا الاتحادية، بينما تكافح روسيا من أجل تأمين الممرات الاستراتيجية إلى السهول الروسية في شمال القوقاز وآسيا الوسطى وأوكرانيا. وبالإضافة إلى أن روسيا الاتحادية ليست الاتحاد السوفياتي، بأي صورة من الصور، فإن التراجع الحثيث في سكان روسيا والتخلف الروسي التقني الفادح، قياسا بدول أوربا الغربية والولايات المتحدة، يجعل روسيا قوة عالمية من الدرجة الثانية. وقد تخلت روسيا منذ زمن بعيد عن الإيديولوجيا الشيوعية، وعن الحافز التبشيري الإيديولوجي الذي سوغ التصور السوفياتي للعالم، حيث لم يعد يتميز الاتحاد الروسي عن الرأسماليات الرئيسة في العالم سوى بدور أعلى نسبيا للدولة في المجال المالي الاقتصادي ونزعة قومية روسية حذرة، تراوح بين ضرورات وجود هوية مركزية للدولة ومتطلبات الحفاظ على استقرار اتحاد متعدد القوميات. لم تنته الحرب الباردة، بالطبع، بهزيمة عسكرية ساحقة للاتحاد السوفياتي، وهذا ما سمح لروسيا بأن تحافظ على مستوى تسلح نووي وتقليدي عاليين، عززه الارتفاع الهائل في أسعار النفط والغاز في السنوات القليلة الماضية، وجعل منها قوة معتبرة في الساحة العالمية. مستوى التسلح وصناعة السلاح، من جهة، والنزعة القومية لنظام حكم مركزي قوي ومسيطر، من جهة ثانية، والطبيعة السائلة للنظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يدفع روسيا إلى المنافسة المحدودة في جوارها القريب، ليس مع الولايات المتحدة، وحسب، بل ومع القوى العالمية الأخرى، أيضا، مثل الصين واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا. ولكن هذه ليست سوى منافسة محدودة، مشروطة، من ناحية، بحاجات روسيا وأمنها الاستراتيجي في مداخل حدودها الواسعة، بالغة الهشاشة، وحاجتها، من ناحية أخرى، إلى التقنية الغربية، والتحاقها الحثيث بالسوق الرأسمالي العالمي الذي لم يزل تحت سيطرة غربية أطلسية. بخلاف الاتحاد السوفياتي، لا يستطيع الاتحاد الروسي تمويل مناطق نفوذ حول العالم، وليس لديه أصلا الحافز لمثل هذا التوجه؛ وتعامل دول خارج نطاق ما يعرف روسيا بالخارج القريب، مثل جورجيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا، مع روسيا الاتحادية لا يختلف إلا قليلا عن التعامل مع فرنسا أو ألمانيا أو الصين. تركيا، مثلا، التي هي إحدى دول الناتو، تكاد توقع عقدا لشراء نظام دفاع جوي صيني، وليس أمريكيا، بعد أن قدمت الشركة الصينية المنتجة شروطا أفضل من الشركة الأمريكية المنافسة. وفي صورة مشابهة، تشهد العلاقات الدولية الآن تقاربا إسرائيليا فرنسيا وسعوديا فرنسيا، على حساب علاقة كل من الدولة العبرية والسعودية مع الولايات المتحدة، بعد أن برزت فرنسا باعتبارها الدولة الأكثر تشددا بين الدول الغربية في مفاوضات الملف النووي الإيراني وفي الموقف من نظام الأسد. هذا نظام دولي متعدد الأقطاب، وإن اختلفت أحجام وأوزان أقطابه، يشهد قدرا من المنافسة متعددة الأوجه، وليس انقساما بين معسكرين كما كان حال الحرب الباردة؛ ثانيا: تعيش روسيا بوتين هاجس الزيادة النسبية، والمستمرة، في تعداد مسلمي أقليات الاتحاد الروسي، على حساب الأرثوذكس الروس. وإلى جانب الطبيعة السلطوية لنظام بوتين، تتسم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي بالانحياز إلى الأنظمة التسلطية في العالم، والقوى المناهضة لتوجهات الإحياء الإسلامي، ليس في سورية الأسد وحسب، بل وفي دول عربية وغير عربية أخرى، بمعنى أن سياسة روسيا الحالية مناهضة للديمقراطية أو، على الأقل، غير مكترثة لها ومتوجسة من الإسلام والإسلاميين؛ بينما كانت سياسة الاتحاد السوفياتي في إطارها العام أكثر انحيازا إلى الشعوب وحركات التحرر الوطني، وتوجهات الاستقلال في دول العالم الثالث. العلاقة بالاتحاد السوفياتي كانت تعبيرا عن إرادة التحرر من سيطرة الإمبرياليات الغربية التقليدية وتوكيد الاستقلال الوطني؛ أما العلاقة بروسيا الاتحادية اليوم فتستبطن البحث عن ضمانة، ولو صغيرة، لامتلاك الشروط الضرورية للحفاظ على نظام الاستبداد والسيطرة؛ ثالثا: لا يقتصر التوجه نحو روسيا على مصر، صاحبة الدور التاريخي في انفتاح الاتحاد السوفياتي على دول العالم الثالث غير الشيوعية، بل هو أصلا سعودي، بصورة أولية، وإماراتي، بصورة ثانوية. السبب الرئيسي خلف التوجه السعودي الإماراتي نحو روسيا هو الأزمة السورية، وليس أي سبب آخر؛ وإن صحت التقارير التي تفيد بأن السعودية تعهدت بتمويل صفقة السلاح المصرية الروسية، فلا بد من البحث عن صفقة موازية حول مستقبل سورية، والسياسة الروسية في سورية، التي يعتبرها العرب المؤيدون لإسقاط نظام دمشق صاحبة المساهمة الرئيسة في دعم الأسد وبقائه منذ اندلعت الثورة السورية قبل ما يقارب الثلاثة أعوام. السلاح الروسي لمصر، وما يشاع عن التخطيط لمناورات بحرية مشتركة، روسية مصرية وروسية سعودية، لا يستهدف بناء توازن قوى مع الدولة العبرية، كما كان هدف عبد الناصر في 1955، بل إن الحفاظ على حالة السلم مع الدولة العبرية بات هدفا رئيسا للدول العربية التي تبادر الآن إلى التوجه نحو روسيا. هدف التقارب مع روسيا هو شيء آخر مختلف كلية. يعود تفاقم الأزمة السورية إلى الطبيعة الانتقالية وغير المستقرة للخريطة الجيوسياسية للمشرق العربي الإسلامي، التي ولدتها حركة الثورة العربية، من جهة، وتغير أولويات الولايات المتحدة، من جهة أخرى. استشعر عدد من الدول العربية الخطر من رياح الثورة، ووقف ضد عجلة التغيير؛ ولكن هذه الدول نفسها تقف بقوة خلف الجهود لإطاحة نظام الأسد، ليس تعاطفا مع الثورة الشعبية السورية وطموحاتها إلى الحرية والديمقراطية، بل كراهية لإيران وخشية من سيطرتها على حزام الجزيرة العربية الشمالي، من البصرة إلى اللاذقية. ولأن الشرق الأوسط لم يعد أولوية استراتيجية أمريكية، وأن الولايات المتحدة لم تجد لها من مصلحة في التدخل في الأزمة السورية، برزت روسيا بصفتها القوة الدولية الأكثر تأثيرا في الأزمة. هذا، في البداية، ما أثار امتعاض دول مثل السعودية من السياسة الأمريكية، ثم ما لبثت الخلافات أن تراكمت في علاقات البلدين، من الموقف الأمريكي من البحرين، إلى مصر، إلى مباحثات الملف النووي الإيراني. الذهاب إلى روسيا قصد به توجيه رسالة غضب وعتاب إلى الحليف الأمريكي. ولكن المشكلة أن هذه الرسالة لن تجدي نفعا إن توصلت الولايات المتحدة وإيران إلى حل للملف النووي الإيراني، وتطورت العلاقات الأمريكية الإيرانية إلى ما يشبه طبيعتها السابقة على الثورة الإسلامية؛ رابعا: وأخيرا، حتى والولايات المتحدة تنسحب جزئيا، وبصورة ملموسة، من الشرق الأوسط وتفقد اهتمامها بنفط المنطقة ودولها، فإن علاقات الولايات المتحدة بحليفاتها العربيات أعمق بكثير من الخلافات السياسية الراهنة: علاقات شخصية وتعليمية، اقتصادية ومالية، ثقافية وأمنية وعسكرية. الولايات المتحدة، باختصار، متغلغلة في شرايين هذه الدول، والتحرر من هذه العلاقة يتطلب إرادة من نوع مختلف، وزمنا طويلا. والبديل عن هذه العلاقة ليس الذهاب إلى روسيا، بل بناء نظام إقليمي جديد كلية. وليس ثمة مؤشر على أن الأنظمة العربية الحالية من النوع الذي يمكن أن يذهب هذا المذهب. بشير موسى نافع