اليوم هو الخميس عاشر أبريل 2014، موعد افتتاح معرض فلسطين الدولي للكتاب برام الله. ينتظم في دورته التاسعة، ويستغرق عشرة أيام، ما يفيد أن المعنيين به يريدونه مناسبة ثقافية كبرى بحق. يشغل المعرض مساحة تقدر بثلاثة آلاف متر، بين أرضية وتحتية، وأطراف موازية، ومن الناحية الإدارية يقام في تراب بلدية البيرة، وهي متاخمة لبلدية رام الله، فتتمازج المدينتان، ولا توجد عمليا حدود فاصلة، فارزة بينهما، شأن اختلاط محافظة القاهرة ومحافظة الجيزة. تشرف على تنظيم المعرض وزارة الثقافة التابعة للسلطة الفلسطينية بإشراف مباشر من وزيرها الدكتور أنور أبوعيشة، خريج السوربون، أشهد أني ما تعرفت على مسؤول أكثر تواضعا وبساطة واهتماما من الرجل في موقعه، هو مناضل لا وزير، تابعته يمارس كل المهام ولا عن واحدة يتكبر. نجح في جلب مائة وخمسين دار نشر عربية، وتمثيليات أجنبية، زيادة على عديد دور مُثلت وعرضت كتبها وكالة من دور أخرى. إنه ولا شك عدد مهم وملفت، خاصة لسلطة تحت الحصار والتضييق الإسرائيلي الخانق. وبالضبط، فتنظيم المعرض يعد حقا تحديا بلا نظير، استمراره وانتظامه ترسيخ لهذا التحدي، خاصة إذا عرفنا ما يجابه به من صعوبات في كل عام، ومثلها وأقل منها لا تنجح دول عربية تنعم بالسيادة ووفرة ذات اليد في تخطيه، تتخبط فيه عاما بعد عام. المثال أقوى من أي كلام، أوله أن الاحتلال الإسرائيلي يعرقل ما أمكنه انعقد المناسبة، بادئا، أولا، بتسويف وتقليص عدد ما يسمح به من تصاريح للدخول إلى أراضي السلطة الفلسطينية إلى أدنى حد، علمنا أن عدد الطلبات بلغ 197 طلب تصريح لم يُلبَّ منها إلا 90، بين كتاب مدعوين وهيئات ثقافية وناشرين ممثلين، يمنحونها مُقطرة وبعد عَنت شديد، وبعد الإلحاح من مكتب الارتباط الفلسطيني المنسق معهم، وانتظار وعود ونكثها، وقد عشنا نحن الوفد المغربي أوقات انتظار طويلة، نترقب فيها وصول ما ينقص من تصاريح لأعضاء منا، بقوا ينتظرونها أياما في عمان، ونحن نتابع صباح مساء مع مضيفينا ليزفوا لنا بشرى قدومهم الوشيك، عبثا تفاءلنا، وهم مثلنا يتحسّرون، نحس أن أعضاء مبتورة من جسدنا المشترك، ولا نجد تبريرا أو تفسيرا، كما لا يفهم أحد بأي مقياس يوافقون ويمنعون، سمعت وقيل الإسرائيليون مزاجيون، وما أحسب إلا أنهم بنيّة مبيتة يتصرفون لإفساد العرس الثقافي للفلسطينيين، وإمعانا في إظهار أنهم أصحاب الحل والعقد، والعرب، المقيم والزائر، تحت رحمتهم، في المبتدأ والخبر. تتحول المأساة أحيانا إلى ملهاة من طول عشرتها، أو للتخفّف من بلائها، فكما ظللنا نتعقب صاحبنا العماني بتخويف إرجاعه إلى عمان قبل الأوان، ألم يشتبه فيه جندي الحدود بسيما وفعل الإرهاب، أصبح يعيش هذا الرُّهاب، كذلك حاصرنا زميلا من الأدباء العرب، عوّل على مرافقة أديبة من بلده، يحمل لها من المشاعر أكثر من أن يتحمل فؤاده المكلوم، لكن سلطة الرقيب الإسرائيلي أبت إلا أن تزيد في ظلم الزمن الغشوم، فمنعتها من الدخول، صرنا نتندّر عليه، بطيبة طبعا ومواساة ماكرة كلما «اشتد عليه الحال»، أن «انتظرها! انتظرها!» اقتباسا من مقطع في قصيدة شهيرة للراحل الكبير محمود درويش هذا، مطلعها: « بكأس الشراب المرصع باللازورد/ انتظرها/على بِِركة الماء حول المساء وزهر الكولونيا/ انتظرها..» ووالله لم ييأس المغبون، وظل ينتظر؛ أحسبه ما زال! تمثل حدث المعرض الحالي في اختيار وحلول المغرب ضيف شرف، بوفد يترأسه وزير الثقافة السيد محمد أمين الصبيحي، ومدير الكتاب بالوزارة الشاعر حسن الوزاني، وأديبات وأدباء وباحثون حظي بالحضور منهم أخيرا الأدباء محمد برادة، وعبد الرحيم بنحادة، وعبد الصمد بن الشريف، وعبد الرحيم بن عرفة، ويوسف فاضل، وإدريس الملياني، وكاتب هذه السطور. وفي تمثيلها الفني فرقة أرابيسك تقودها سميرة القادري، وبالناشرين دار الأمان، ودار توبقال، إضافة إلى منشورات الوزارة، وتمثل الكل في عرض أزيد من 4000 عنوان بين الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، نفد مبيعها في أيام، وتبرعت الوزارة للمؤسسات الثقافية الفلسطينية بقسط مهم منها. قدمنا برنامجا حافلا، متعدد الاهتمامات، بين الجلسات النقدية، عن (مسارات الرواية المغربية والفلسطينية)؛ (فلسطين في عيون المغاربة/ المغرب في عيون الفلسطينيين)؛ (مغاربة القدس)، والعروض الفنية غناء وسينما، ولقاءات للحوار مع الأدباء والمثقفين المشاركين، وجلسات مع القراء المتعطشين من جمهور حضر من مدن فلسطينية متباعدة، ورحب بالمشاركة المغربية، وجد فيها مساندة وتضامنا ووقفة شجاعة، فجاءت، كما وصفها وزير الثقافة المغربي في خطاب افتتاح المعرض: « تكريسا وترسيخا للأواصر التاريخية والثقافية التي تربط المملكة المغربية بفلسطين الشقيقة، وتعميقا للرؤى المشتركة لمختلف القضايا والانشغالات التي يتقاسمها المغرب مع الأشقاء الفلسطينيين». لا بد أن تبدي إعجابك بمعرض الكتاب هذا، لغناه، وتنوعه، وكثافة تمثيل دور النشر العربية فيه، ومشاركة الهيئات الثقافية والمدنية الفلسطينية من كل الجهات والانتماءات والأديان بتكافؤ، وهل ننسى التلقائية وروح التطوع السارية بين شباب يثيرون الإعجاب، تعي أنهم تلقوا تربية نضالية، وأبناء شعب مكافح، ولعملهم هنا له معنى وطني، أهم من أي جيش من الموظفين والإداريين في أي معرض. إنه عيد، توفقَ مَن وضع له شعار: «القرار والإصرار». هكذا بدا وزير الثقافة الفلسطيني أنور أبو عيشة ملتهبا بالحماس، ومعقولا بجسامة المهمة في آن، وهو يلقي خطاب الافتتاح في قاعة ضاقت بالحضور والمشاعر، بما رحبت، وتدفقت الخطب شلالات هادرة لعديد مراتب، حسبناها لن تنتهي، وسيجرفنا سيلها نحو ما لا ندري، والعرب يحبون مجاملة بعضهم، ومن لم تشر إليه تصريحا فأنت غفلته، أو «تقصّدت وبغَيْت»، من لم يصعد إلى المنصة عند نفسه وفي نظر غيره خامل الذكر، وكيف تلبي التنافسَ الحار لصعود المنصة، في هذه المناسبة العزيزة، والنصال تتكسر على النصال، والفلسطينيون، كبارا وصغارا في مذهبهم، وهذا حقهم، كلهم أبطال، وبطلات أيضا من جميع الفئات، فكيف بفصيل الشعراء والكاتبات، منهن واحدة بالذات، لم يقرّ لها قرار طوال جلسة الافتتاح سوى انتقاد الأقوال، والانتقاص مما حولها من حال، واهتزت كم مرة في مقعدها تحسب كل صيحة عليها هي السِّحر والسؤال، وفي رمشة عين قفزت إلى الرُّكح كالأرجوز، أطلقت العنان بالشكر للثورة، للنساء والرجال، وأخيرا قالت لا فُض فوها، إنها، وهذا ما لم يخطر على بال، لا تنسى أن تشكر نفسها، فهي قدوة للكاتب المناضل عبر كل الأجيال، وحضورها في هذا اليوم التاريخي، لعمرها، خير مثال! كنا وبقينا صبورين، والوزير الطيب أنور أبو عيشة، والروائي الحكيم يحي يخلف، صنديدان لا يأبهان، وهما يتصبران، ولأسرّي عن نفسي من هذا «الوبال»، التفتت إلى الخلف فلمحت الأديب مجروح الفؤاد عينُه إلى الباب يترقب، أنشدت: «ولا تتعجّل، فإن أقبلتْ بعد موعدها /فانتظرها»!! أحمد المديني