لم تَعُد الجامِعَة اليوم، في نفس ما كانتْ عليه من قبل. إذا كانت الجامعات الكُبرى تحرصُ على تجديد نفسها، وعلى مواكبة ما يجري من ابتكارات علمية وتقنية، وتستعمل كل الوسائل المُساعِدَة على رفع مستوى التعليم والتَّكْوين، فالجامعة، في المغرب، تعيش في وضع حَرِجٍ. فأنا لا أتحدَّث هنا عن الجُهود الشَّخْصِيَة لبعض الأساتذة الذين يعتمدون في تكوين أنفسهم على إمكاناتهم الذاتية، ويحرصون على مواكبة العلوم والمعارف المختلفة، مما يَخْدُم تكوينهم، وتخَصُّصاتِهم، فهؤلاء هُم من كانت الجامعة تتغذَّى من خبراتهم، وكانوا هُم من يرفعون التعليم والتكوين في الجامعة إلى مستوياته التي أفْرَزَت نُخَباً من الأطر، في مختلف التَّخَصُّصات، بل أتحدَّث عن نظام التعليم في الجامعة، وما واكَبَهُ من «إصلاحات»، كانت، في جوهرها، هي ما ساهم في هذا التَّراجُع الكبير، والانْحِسَار الذي تعرفه الجامعات المغربية اليوم.. اسْتَنْفدتِ الجامعة أغلب أُطرِها، وأجيال من هذه الأطر، إمَّا تقاعدوا، وإما غادروا الجامعة، في ما كانت حكومة التناوب أتاحَتْه لهم من «مغادرة طوعية»، ومنهم من اختار التدريس في بعض الجامعات الخليجية، رغبة في تحسين وضعه المادي، أو إتمام ما له من مشروعات، لا علاقة لها بالتعليم والتكوين.. هذا الوضع كانت له نتائج سلبية على ما تعرفه الجامعة من تراجع، وقد ساعَدَ «الإصلاح» في مضاعفة هذا الوضع، مما ترتَّب عنه، في كليات الآداب والعلوم الإنسانية، غياب وضوح في الرؤية، وفي مناهج التدريس والتكوين. فالشُّعَب تعمل، في أكثرها، بشكل منفرد، دون التفكير في طبيعة العلاقات التي يمكن أن تكون بين هذه الشُّعَب، وما يمكن أن تُضفيه على بعضها البعض من إضافاتٍ، أو تفتحُه من آفاق في التكوين، وفي اكتساب الخبرات والمعارف. فمن غير الممكن أن يبقى الطالب في شعبة الدراسات الإسلامية، التي اسْتُحْدِثَت كرد فعل على الفلسفة وعلم الاجتماع، معزولة، تعمل بطُرُق يغلب عليها الماضي، وبعلوم لم تعد تكفي في تجديد وتحيين الخطاب الديني. نفس الأمر يمكن تعميمه على شعبة الدراسات الأدبية، وعلاقتها بشعب اللغات الأخرى، مثل شعبة الأدب الفرنسي، والأدب الإنجليزي والإسباني والألماني، باعتبارها شُعباً تعمل في نفس السياق، ويمكن الاستفادة من مناهجها الحديثة، ومما تُتِيحُه من إمكانات في الانفتاح على المعنى الكوني للمعرفة الأدبية، التي ليست هي تاريخ الأدب، أو الاكتفاء بتدريس مفاهيم ومناهج، ربما، أصبحت في حاجة للمُراجعة، والنقد، باعتبار ما يحدث في المعرفة الإنسانية اليوم، من انتقالات، ومن علوم ومعارف، تقتضيها طبيعة المرحلة. فالعلوم الحقَّة، أو الصِّرفة، ليست في منأًى عن هذا اللقاء، لأنَّ الكثير من المدارس الأدبية الحديثة تجدَّدت، وتطوَّرت، واستقلَّتْ، بنفسها، ربما، لأنها، اسْتَمَدَّت، دَمها، وحيويتَها، من بعض إنجازات هذه العلوم، ومفاهيمها الدقيقة.. هل المدرسة المغربية هيَّأَتْ لنا ذلك الطّالب الذي له الاستعداد المعرفي لينخرط في مثل هذا النوع من التكوين، إذا وُجِدَ؟ وهل الأستاذ، بدوره، هيَّأ نفسَه لِما يطرأ من متغيِّراتٍ، ويتَّسِم باليقظة المعرفية، التي تجعله منفتحاً على مُحيطه المعرفي، وعلى ما يجري عند غيره في الثقافات الأخرى، القريب منها والبعيد؟ ليس لي جواب، لكنني أعرف أنَّ وضع التعليم عندنا، لا يشي بحُدوث مثل هذا، وأنَّ ما يجري في الجامعة اليوم، هو غير ما جرى بالأمس، وأنَّ الرغبة في المعرفة والتكوين تقلَّصَت لصالح الرغبة في التأهيل، أي للتفكير في سوق الشُّغل، وهذا من بين ما حوَّل الجامعة إلى فضاء كبير للتأهيل المهني، ليس أكثر.