ولاية أمن طنجة تدخل على خط "فيديو" يوثق اشهار شرطي سلاحه الوظيفي لتوقيف أحد مستعملي الطريق    أشجار عتيقة تكشف السر الذي جعل العام الماضي هو الأشد حرارة منذ 2000 عام    "إف بي آي" يوقف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بالمطار ويحقق معه حول مواقفه من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي    تصفيات المونديال.. طاقم تحكيمي مغربي يقود مباراة موريتانيا والسنغال    السيد هلال: السفير الجزائري يترك جانبا مسؤولياته العربية في مجلس الأمن لخدمة أجندته حول الصحراء في كاراكاس    من أجل خارطة طريق لهندسة الثقافة بالمغرب    مدريد في ورطة بسبب الإمارات والجزائر    نسخة جديدة من برنامج الذكاء الاصطناعي لحل المعادلات الرياضية والتفاعل مع مشاعر البشر    طقس الخميس: الحرارة مستمرة رغم بعض الرياح    هنية: إصرار إسرائيل على عملية رفح يضع المفاوضات في مصير مجهول    منتدى عربي أوروبي لمكافحة الكراهية    محكي الطفولة يغري روائيين مغاربة    أكاديمية المملكة تُسائل معايير تصنيف الأدباء الأفارقة وتُكرم المؤرخ "هامباتي با"    بروكسيل.. معرض متنقل يحتفي بمساهمة الجالية المغربية في المجتمع البلجيكي    زيلنسكي يلغي زياراته الخارجية وبوتين يؤكد أن التقدم الروسي يسير كما هو مخطط له    المغربي محمد وسيل ينجح في تسلق أصعب جبل تقنيا في سلوفينيا    فتح بحث قضائي حول تعرض بعض المواطنين المغاربة للاحتجاز من طرف عصابات إجرامية ناشطة بميانمار    أخنوش يلتقي الرئيس العراقي والارتقاء بعلاقات البلدين في صدارة المباحثات    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    الأمم المتحدة تفتح التحقيق في مقتل أول موظف دولي    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    الجيش والمولودية يكملان ركب المتأهلين إلى نصف نهائي كأس العرش    الحسيمة.. درك النكور ينهي نشاط مروج مخدرات مبحوث عنه وطنيا    تعزيز التعاون القضائي محور مباحثات السيد الداكي مع نائب وزير العدل الصيني    يعالج حموضة المعدة ويقي من الاصابة بالسرطان.. تعرف على فوائد زيت الزيتون    النيابة العامة تدخل على خط احتجاز مغاربة بميانمار    "بلومبيرغ": المغرب يُثبت أسعار الفائدة بينما يُواجه الفاتورة الباهضة لإعادة إعمار الزلزال    جامعة كرة القدم تصدر عقوبات تأديبية    الجيش يتأهل لنصف نهائي كأس العرش    قمصان جديدة ل"أديداس" بلمسة مغربية    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و 2033    وزير النقل يعلن عن قرب إطلاق طلبات العروض لتوسيع مطارات طنجة ومراكش وأكادير    وزير الفلاحة يفتتح الدورة الثالثة للمنتدى الدولي للصناعة السمكية بالمغرب    الجيش الملكي يقتنص تأهلا مثيرا لنصف نهائي كأس العرش على حساب أولمبيك الدشيرة    الأمثال العامية بتطوان... (599)    انتخاب المحامية كريمة سلامة رئيسة للمرصد المغربي لمكافحة التشهير والابتزاز    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    إضراب كتاب الضبط يؤخر محاكمة "مومو" استئنافيا    بعثة المنتخب الوطني المغربي النسوي لأقل من 17 سنة تتوجه إلى الجزائر    تطوان تستضيف الدورة 25 للمهرجان الدولي للعود    النقابة الوطنية للتعليم fdt وضوح وشجاعة لاستشراف المستقبل    إلزامية تحرير الجماعات الترابية من « أشرار السياسة »    التويمي يخلف بودريقة بمرس السلطان    وفاة "سيدة فن الأقصوصة المعاصر" الكندية آليس مونرو    دراسة: صيف 2023 الأكثر سخونة منذ 2000 عام    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    رجوى الساهلي توجه رسالة خاصة للطيفة رأفت    رسالتي الأخيرة    لقاء تأبيني بمعرض الكتاب يستحضر أثر "صديق الكل" الراحل بهاء الدين الطود    الأمثال العامية بتطوان... (598)    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    الأمثال العامية بتطوان... (597)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل يبتلع الهلال الشيعي العقيدة السنية في الشرق والخليج؟
كتاب «المذهب الشيعي والسياسة في الشرق الأوسط... إيران والعراق ومملكات الخليج»
نشر في المساء يوم 20 - 09 - 2009

يشكل الشيعة الأغلبية الساحقة في العديد من بلدان الخليج، ونسبة مهمة في بلدان الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي بات يطرح العديد من الأسئلة حول احتمالات الخطر التي يمكن أن تترتب عن هذا المعطى وانعكاسها على بنية الحكم السياسي في المنطقتين؛ لاسيما أن السنة هم أصحاب سلطة ونفوذ. وقد زادت حدة القلق على إثر سقوط نظام صدام الذي كان بمثابة الدرع الحامي للمذهب السني في المنطقة. رهانات كثيرة ظهرت بعد أن فسح المجال أمام الدولة الفارسية، على إثر سقوط نظام صدام، لتزيد من جهودها في تصدير الثورة الإسلامية المتشبعة بالتعاليم الشيعية إلى خارج الحدود المحلية، وبرزت العديد من الحركات السياسية الإسلامية الشيعية على مسرح الأحداث بعد أن غير بعضها ولاءه وترنح البعض الآخر بين إعلان الولاء لإيران والمطالبة باستقلالية القرار، فيما تشبث طرف ثالث بالخط الوطني العراقي في إطار الحفاظ على الاستقلالية السياسية قبل المذهبية. الكتاب من تأليف لورانس لوير، دكتوراه في العلوم السياسية. وقد صدر سنة 2008، وهو من منشورات «أوترومان».
إذا كان المذهب الشيعي شكل موضوعا للكثير من الكتابات، فقليلة هي الدراسات التي انكبت على تحليله في إطار شامل يتيح الإحاطة بهذا المذهب من حيث حضوره الأفقي في أجزاء جغرافية ممتدة، لا من حيث اقتصاره على بلد دون آخر. فكتاب هذا الأسبوع يسلط الضوء، بالدرجة الأولى، على البلدان العربية التي لعبت فيها، ومازالت، الحركات الإسلامية الشيعية دورا مركزيا على المستوى السياسي الداخلي. والبلدان المعنية أكثر من غيرها بهذا الأمر هي لبنان والبحرين والكويت والعربية السعودية والإمارات العربية وعُمان، فضلا عن العراق وإيران، البلدان اللذان عرفا باتصالهما التقليدي بالتشيع.
إشكالية الانتماء
وداخل الإشكالية الشيعية الحاضرة في هذه البلدان تنتصب القضية الشائكة الأساسية، المتمثلة في العلاقة مع إيران، لاسيما أن الثورة الإسلامية خلقت حركية جديدة جعلت من إيران ليس فقط النموذج السياسي المرجعي لأغلبية الحركات الإسلامية الشيعية، بل شكلت منها مجالا مثاليا لعدد كبير من المناضلين الذين يحلمون بالقضاء على الأنظمة غير العادلة؛ تلك التي تعتبرها الحركات الإسلامية السياسية فاسدة ووجب استئصالها.
تتوقف المؤلفة عند نقطة أساسية تتعلق بسؤال وجود اختلاف جوهري، يقترب من التعارض، بين التشيع الإيراني والتشيع العراقي، لتنتهي إلى أن الأمريكيين أخطؤوا الاعتقاد عندما اعتبروا أن التشيع العراقي يتعارض ونظيره الإيراني، وهو ما شجعهم على الإقدام على مشروع إزاحة الرئيس صدام حسين. وتوضح أن الشيعة العراقيين، تحت الإدارة المعتدلة لآيات الله علي السستاني، لم يسيروا على نفس النموذج السياسي الذي اختارته إيران. إذ تذهب إلى التأكيد على أن شيعة العراق يمثلون نموذجا بديلا عن الجمهورية الإسلامية في إيران، بل ومركزا إشعاعيا للتشيع ينافس قوة إيران في هذا المجال.
في تعريفها للتشيع، تكتب المؤلفة لورانس لوير أن الأصل فيه، ببساطة، حركة تقول، خلافا للسنة، إن رسول الإسلام محمد عيّن الوصي على الخلافة قبل موته بما لا يدع مجالا للشك، وأن الخليفة لا يخرج عن سلالة علي بن أبي طالب ابن عم الرسول وزوج ابنته فاطمة؛ وأن الأئمة عندهم يملكون سر كشف معنى الرسالة الإلاهية وأنهم منزهون عن الخطإ الديني. من هنا يستمد الشيعة مشروعيتهم السياسية.
وبالنسبة للشيعة الاثنا عشرية، وهم أصحاب المذهب الغالب، يمثل الإمامة عندهم 12 إماما، آخرهم المهدي المنتظر، الذي يعتقدون أنه لم يمت وأن الله أخفاه عن عيون العامة سنة 874 وأنه عائد مع نهاية الزمان لينشر العدل ويجلي الحقيقة. لكن، من الناحية المذهبية لم يعد أغلبية الشيعة، اليوم، يقتسمون إلا القليل من الأشياء مع الشيعة الاثناعشرية مقارنة بالقواسم الاجتماعية والسياسية التي تجمع فيما بينهم.
في تفسيره لثوابت التشيع، يوضح الكتاب أنه خلافا للمذهب السني، جعل الشيعة بين المؤمنين وربهم وسيطا يمثله رجال الدين العلماء. فقد اكتسى علماء الدين مكانا جوهريا بعد اختفاء الإمام الثاني عشر في القرن التاسع. إذ أنهم ملؤوا الفراغ الذي تركه غياب الزعيم الديني، فصاروا يمثلون الإمام في غيابه، ويقومون بجمع المكوس ويحكمون باسمه. وإذا كانوا لا يدعون النزاهة الدينية المطلقة، فقد أسسوا علم تأويل النصوص، الذي سيمكنهم من صياغة تعاليم دينية جديدة تتلاءم والتطورات التاريخية.
أسست المؤلفة تحليلها على تتبع نشأة وتطور الحركات الشيعية في مناطق عدة من إيران والعراق والبلدان المجاورة، وعلى تبيان البواعث على الخروج بالتشيع من الحدود المحلية إلى آفاق أرحب. في هذا السياق تذكر المؤلفة بأن العلماء الشيعة اعتادوا على مر التاريخ على التجمع في المناطق التي يسوء فيها حكم الخلافة؛ وتمثل هذا الأمر، مثلا، في المنطقة الجبلية المعروفة بجبل أميل في جنوب لبنان الحالي، وفي دولة البحرين والأقاليم الشرقية في العربية السعودية. وهي المناطق التي تكونت فيها، مبكرا، دول وكيانات سياسية على إثر انتفاضات قامت ضد الخلفاء السنيين وطالب زعماؤها بشرعية الحكم لسلالة علي وفاطمة. وفي نهاية القرن التاسع، أسس القرامطة، وهي الحركة المتفرعة عن الإسماعيلية، في البحرين القديمة دولة أبدت شراسة كبيرة ضد نظام الخلافة، إلا أنها طورت أسلوبا جديدا عندما أسست لنوع من الدولة الراعية وشجعت على الاجتهاد الديني بشكل كبير. ورغم القضاء عليها سنة 1075، أسهمت الدولة القرمطية في توطيد المذهب الإسماعيلي في البحرين القديمة وشجعت على ظهور طبقة نشيطة من العلماء الشيعة الاثني عشرية تمكنت من فرض التشيع الأرثوذكسي في المنطقة.
التشيع: الخطر القادم
ومن الأسئلة المهمة التي يحاول الكتاب الجواب عنها هنالك السؤال المتعلق بمدى خطورة التحولات التي يشهدها التشيع المعاصر في الشرق الأوسط. لكن سرعان ما يجد السؤال جوابه في كون ما يقع من أحداث على هذا المستوى لا يقود بالضرورة إلى السيناريوهات المستقبلية السيئة. فالوضع الذي يوجد عليه التشيع السياسي معقد للغاية. إلا أن هذا التعقد لا يمكنه أن يخفي حقيقة أساسية وهي أن التشيع السياسي المعاصر هو نتيجة طبيعية لتاريخ غني احتل فيه رجال الدين والشخصيات واللائكيون مكانة كبيرة، وكان لهم تأثير كبير، كل من جانبه، على مسار الأحداث.
الصفحات الأولى من الكتاب تكشف الكثير من محطات هذا المسار من خلال العودة إلى تاريخ طبقة رجال الدين الشيعة والطريقة التي جعلت الأحداث في المنطقة تفرز شبكات التشيع الأفقي، التي إذا كانت تشترك في العديد من النقط فإنها لم تجتمع في مجموعة موحدة. طبيعي إذن أن لا ينتهي الكتاب إلى خلاصة واحدة، بل ركز على عدد من النقط الأساسية التي تميز التشيع في أقاليم عدة من المنطقة وما ترتب عنها من حساسيات سياسية جعلت السنة يحتاطون دائما من احتمال التئام الشيعة داخل إطار واحد يصب في مصلحة إيران الآخذة في تكريس بروزها السياسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة، خاصة بعد سقوط نظام صدام.
فتغيير النظام في العراق، الذي حدث في أبريل 2003، أعاد الحركات الإسلامية الشيعية إلى الواجهة بعد أن بدا أنها فقدت تأثيرها خلال التسعينيات؛ على خلفية الرهانات السياسية التي طبعت الثمانينيات. ولم يعد حاضرا إلا لبنان حيث استمر حزب الله في تقوية نفوذه، وفي إثارة الاهتمام إليه من قبل المحللين. أما السرعة التي استعادت بها الحركات الإسلامية الشيعية مصادر السلطة في العراق بعد صدام حسين، فقد أكدت أنها لم تختف نهائيا حتى وإن طرأت عليها تحولات كثيرة منذ الثمانينيات؛ بل تأكد أن هذه الحركات أبانت عن قدرة كبيرة على التكيف.
وسط هذه التحولات، يطرح السؤال حول الدور الذي يمكن أن يكون للجمهورية الإسلامية الإيرانية في تحريك وتوجيه الإسلام الشيعي السياسي. في هذا الإطار، يشير الكتاب إلى أن الكثيرين يرون أن هنالك علاقة عضوية بين إيران ومختلف الحركات الشيعية المتواجدة في بلدان الشرق الأوسط؛ بل إن البعض يذهب إلى حد الجزم بأن مواقفها السياسية تتأسس، كليا تقريبا، على أوامر، مباشرة إلى حد ما، صادرة عن طهران، والحال أن دور إيران ومكانتها أعقد مما يبدو عليه الوضع.
الإيديولوجيا قبل المذهب
يبين التحليل الذي قامت به المؤلفة لمختلف مراحل النشأة والتطور للحركات الإسلامية الشيعية أن الناشطة منها اليوم في الشرق الأوسط نشأت كلها في حضن المؤسسة الدينية الشيعية التي يوجد مقرها أساسا في العراق، خاصة في مدينتي النجف وكربلاء. في هذا الإطار، فإن حزب «الدعوة»، الذي تأسس في نهاية الخمسينيات بالنجف، سرعان ما انتقل إشعاعه، في أواخر الستينيات، إلى لبنان والكويت والإمارات العربية المتحدة والبحرين عن طريق الشبكات الدينية العابرة للبلدان، التي تأسست قبل زمن طويل على مستوى الشرق الأوسط كله، وخارجه كذلك.
وفي العراق دائما، لكن هذه المرة بكربلاء، تأسست شبكة ثانية شاملة من الناشطين الشيعة بداية من أواسط الستينيات حول أسرة الشيرازي. إذ أسس محمد الشيرازي وأخوه حسن، ثم قريبهما محمد التقي والهادي مُدرسي حركة سياسية سميت حركة الرسالة، قبل أن تغير اسمها بعد الثورة الإيرانية وتصبح «منظمة العمل الإسلامي».
لقد قدم الشيرازيون أنفسهم بديلا عن حزب «الدعوة» وعن المرجعية الدينية في مدينة النجف، ونجحوا، كما «الدعوة»، في عبور الحدود إلى خارج العراق. إذ أسسوا، في بداية السبعينيات، خلايا في الكويت والبحرين والعربية السعودية وسلطنة عُمان. وأمام التأثير الكبير الذي مارسته هاتان الشبكتان الدينيتان، ظل المشهد السياسي الإسلامي الشيعي في هذه البلدان، إلى حد اليوم، متأرجحا بين ناشطي حزب «الدعوة» والشيرازيين.
الثورة الإسلامية الإيرانية لم تقع، إذن، في إطار فارغ، بل وجدت المجال مهيأ من قبل شبكات الحركات الإسلامية الشيعية العراقية، التي كانت قد بدأت قبل عقدين من الزمن في تعبئة الشيعة على قاعدة رؤية معينة للعالم ومفاهيم قريبة من المفاهيم والتصورات الثورية الإيرانية.
أما ما جاءت به الثورة الإسلامية، فيتمثل أساسا في خلق دينامية إيديولوجية واستراتيجية جديدة لم تعهدها الحركات الإسلامية السياسية الشيعية. من جهة أولى، أقبل غالبية الناشطين الشيعة على مذهب ولاية الفقيه الذي بلوره روح الله الخميني، والذي يعتبر أنه خلال فترة اختفاء المهدي المنتظر، الإمام الثاني عشر، يمكن لحكومة الدولة الإسلامية، شرعا، أن تعود لاستفتاء عالم الدين في أمور السياسة والناس.
ومن جهة ثانية، تطلعت جميع الحركات الشيعية الإسلامية إلى أن تؤدي الثورة في إيران إلى خلق دينامية ثورية على المستوى الإقليمي تمكنها، في الأخير، من تحقيق هدفها الأساس المتمثل في السيطرة على الحكم. وإذا كان بعضها، خاصة الحركات التابعة لحزب «الدعوة» في بلدان الخليج، راهن على الانتقال الطبيعي للثورة إلى بقية المكونات الشيعية، فإن البعض الآخر، خاصة الشيرازيين، طالب بالدعم اللوجستيكي لإثارة المظاهرات، بل والتطلع إلى قلب النظام عندما يكون الأمر ممكنا.
هكذا، إذن، شكلت الشبكات العراقية، في مرحلة أولى، البنية الأساس لسياسة تصدير الثورة المدعمة من قبل النظام الإيراني. إلا أنه في مرحلة ثانية، أخذ النظام الجديد، الموطد حديثا في إيران بعد الثورة، يِؤسس شبكاته الخاصة في الشرق الأوسط قبل أن تظهر أولى الحركات السياسية التي تكونت مباشرة على يد الإيرانيين. ولعل أشهرها هي منظمة حزب الله في لبنان والتجمع الأعلى للثورة الإسلامية في العراق؛ وقد تأسسا معا سنة 1982.
إلا أن هذه الحركات الجديدة لم تتأسس من فراغ، بل إن جزءا مهما منها بني على دعائم كانت قائمة، وهي في الحقيقة أطر تكونت أساسا في حزب «الدعوة» وانضم إليها ناشطون شباب يحملون تكوينا سياسيا واجتماعيا حديثا.
لكن، إذا كانت خلية «الدعوة» في لبنان انصهرت كليا تقريبا في منظمة حزب الله، فالأمر كان مختلفا في العراق، حيث أدى ظهور التجمع الأعلى للثورة الإسلامية في العراق إلى حدوث انشقاق في الحزب بين الذين قبلوا، بدون تحفظ، الولاية الإيرانية عليهم، التي أخذت تتبلور تدريجيا إلى أن صارت مباشرة، وبين الذين فضلوا الاستقلال عن إيران رغم أنهم يعتبرون الدولة الفارسية شريكا مهما لهم في صراعهم ضد نظام صدام حسين.
تحركات شبيهة وقعت داخل خلايا «الدعوة» الموجودة في دول الخليج. غير أنه إذا كان أغلب الأطر أعلنوا ولاءهم للقيادات التابعة للإيرانيين، فإن آخرين فضلوا الاحتفاظ باستقلاليتهم الإيديولوجية.
بداية من سنة 1982، انطلقت، إذن، داخل الحركة الإسلامية الشيعية في البلدان العربية حركية مركزية ما فتئت تتعاظم قيمتها وقوتها شيئا فشيئا. وقد انضافت عوامل أخرى إلى الوضع السائد لتسرع من وتيرة الانحياز إلى إيران؛ ولعل أهم تلك العوامل التحول البراغماتي الذي طرأ على السياسة الإيرانية الخارجية منذ أواسط الثمانينيات، ثم خلال الفترة التي تلت نهاية الحرب العراقية الإيرانية سنة 1988.
فموازاة مع سياسة التركيز على منح الأولوية للتصالح مع الجيران في المنطقة، عملت طهران على وقف دعمها لبعض الحركات، بل قمعت البعض الآخر. وقد ظهر ذلك جليا بشكل خاص في علاقة طهران بالشيرازيين، الذين شكلت فورتهم الثورية عائقا أمام سياسة التقارب مع بلدان الخليج المجاورة؛ يضاف إلى ذلك الانتقادات التي وجهها محمد الشيرازي للانحرافات الإيرانية، خاصة بعد موت الخميني سنة 1989 وتفويت السلطة لعلي خامنئي.
من الإيديولوجيا إلى التكتيك
تميزت العلاقة بين إيران والحركات الإسلامية الشيعية في الشرق الأوسط إبان الإطاحة بنظام صدام حسين في أبريل من سنة 2003 بقطبية ثنائية عميقة بين الموالين لإيران والمناوئين لها.
الموالون غالبا ما يشار إليهم تحت الاسم العام «حزب الله» أو «خط الإمام». أما نموذج الجمهورية الإسلامية كما هو مطبق في إيران، فقد ظل موضوع جدال كبير بين الأطر الشيعية دون أن يكون موضوع رؤية موحدة بين جميع الأطراف. فتغيير النظام السياسي في العراق لم يغير شيئا على هذا المستوى، وهو ما تبين من خلال الشكل الذي أفرزته إعادة التشكيل الإسلامي الشيعي في العراق.
من جهة أولى، نجد أن فصيل «الدعوة»، الذي ينتمي إليه إبراهيم الجعفري ونوري المالكي ( الوزيران الأولان بعد صدام حسين) هو الذي فضل الاحتفاظ بمسافة الاستقلالية بينه وبين طهران ليبقى محافظا على الخط الوطني العراقي.
من جهة ثانية، لم يكن للحركة الصدرية (التي تأسست حول مقتدى الصدر وفرضت نفسها كقوة سياسية لا محيد عنها منذ سنة 2003 وكقاعدة شعبية هي الأوسع اليوم في الوسط الشيعي)، تاريخيا، أي علاقة مع إيران، لأنها تأسست بعد حرب الخليج سنة 1991 تحت قيادة والد مقتدى، محمد صادق الصدر (المتوفى سنة 1999)، حلال سنوات الحصار.
الصدريون، وهم في هذا تجاوزوا المنتمين إلى «الدعوة»، متشبثون أكثر بالخط الوطني العراقي، بل تميزوا، خاصة، بنقدهم للاختراقات التي قامت بها الأجهزة الإيرانية للشبكات الشيعية في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين.
بالنسبة للتجمع الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الأكثر ولاء من غيره لإيران ضمن الطيف الشيعي الإسلامي العراقي، والذي فرض نفسه كلبنة أساسية في الائتلاف الحكومي، فقد دشن في شهر ماي 2007 منعرجا إيديولوجيا كبيرا يشي بالكثير من التغيرات المهمة في علاقته مع إيران. فخلال انعقاد اجتماعه السنوي، لم يكتف الحزب بإعلان أنه سيغير اسمه إلى التجمع الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، بل وضع نفسه تحت السلطة الدينية لعلي السستاني. باختصار، توقف الحزب عن تصدير النموذج الإيراني إلى الخارج ولم يعد يعترف رسميا بزعيم الثورة علي خامنئي كسلطة دينية وسياسية عليا.
الثورة الإسلامية الإيرانية في قلب العاصفة
كل القرائن تصب في اتجاه التأكيد على أن مختلف الحركات العراقية نسجت مع إيران علاقات تكتيكية وطيدة. ولعل التحول الأبرز على هذا المستوى هو الذي كان بطله التيار الصدري، الذي وضع حدا لادعاءاته المناوئة لإيران وأقدم على ربط علاقة شراكة استراتيجية حقيقية مع طهران، وهو ما جعله يحظى بالدعم السياسي ضد خصومه، سواء تعلق الأمر بالتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أو ببقية الأحزاب الشيعية، فضلا عن إمكانية حصوله على السلاح.
الشيء نفسه ينطبق على التجمع الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي يحظى بدعم طهران، رغم أنه مستمر في مطالبته بالاستقلالية تجاه إيران.
والحقيقة أنه في الوضع الذي يوجد فيه العراق، اليوم، كدولة ضعيفة منذ العام 2003، والبروز القوي لإيران، التي فرضت نفسها كفاعل لا محيد عنه في المنطقة، أدركت مختلف الحركات الشيعية الإسلامية أنها لا يمكنها أن تستقل نهائيا عن إيران، وأنها في حاجة إلى دعمها؛ أي أنه رغم الاستقلالية الإيديولوجية لهذه الحركات ورغبتها في تحديد أجندتها السياسية في استقلال تام عن الأوامر الإيرانية، فإنها تجد نفسها أمام معادلة جيواستراتيجية تحول دون الذهاب بعيدا في استقلاليتها.
إن ما تغير، إذن، هو تشكيل توازن القوة، الذي وضع إيران في موقع ملائم للتأثير في مستقبل المنطقة نتيجة للأثر العكسي للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. فخلافا لما كانت تراهن عليه الولايات المتحدة من إسقاطها للنظام العراقي على عهد صدام حسين، أفرز الوضع الجديد علاقات قوة جديدة خلخلت الاستراتيجية العسكرية والسياسية التي تحكمت في مشروع التدخل في العراق وتشكيل خارطة سياسية تابعة كليا لأمريكا. لكن، إذا كان الظرف التاريخي الخاص يعطي الانطباع حاليا بوجود «استيقاظة شيعية»، فإنه ينحو، في الوقت ذاته، إلى إخفاء التطورات العميقة للإسلاموية الشيعية، الآخذة في التعدد والتنوع، والتي يشكل فيها نموذج الجمهورية الإسلامية الإيرانية محور الشرخ الإيديولوجي والسياسي. فمؤشرات كثيرة تنبئ بأن مستقبل المنطقة لن تكون فيه إيران هي صاحبة الكلمة الأخيرة، بل هنالك تيارات شيعية أخذت في التخلي عن الاعتقادات المذهبية التي تعتبر الولاء للمذهب أهم من الولاء للوطن؛ كما أن الكثير من القادة الشيعة لم يسبق لهم أن تكونوا في المراكز الدينية التقليدية، بل وصلوا إلى الحكم اعتمادا على شعبيتهم الاجتماعية والسياسية قبل كل شيء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.