برلمانيون يطالبون بالطي النهائي لملف الأساتذة الموقوفين وبنموسى يدعو المتضررين للجوء إلى القضاء    أحزاب الأغلبية ترشح التويمي لخلافة بودريقة في رئاسة "مرس السلطان"    "بنك المغرب": احتياجات البنوك من السيولة تتجاوز 118 مليار درهم    الاتحاد الأوروبي يرضخ لمطالب المزارعين ويقر تعديلات على السياسة الفلاحية المشتركة    70 شركة يابانية في المغرب تشغل حوالي 50 ألف شخص    أضواء قطبية ساحرة تلون السماء لليوم الثالث بعد عاصفة شمسية تضرب الأرض    النيابة العامة التونسية تمدد التحفظ على إعلاميَين بارزَين والمحامون يضربون    جائزة الحسن الثاني ل"التبوريدة" من 27 يونيو الجاري إلى 3 يوليوز المقبل بدار السلام بالرباط    غابوني يتفوق على حكيمي في "الليغ 1"    أمن ميناء طنجة يحبط تهريب الآلاف من الأقراص الطبية    "التسمم القاتل".. ابتدائية مراكش تؤجل المحاكمة وترفض السراح المؤقت للمتهمين    المركز الثقافي بتطوان يستضيف عرض مسرحية "أنا مرا"    السكر العلني والإيذاء العمدي يُوقفان عشريني بأكادير    أوكرانيا تقر بالنجاح التكتيكي لروسيا    المغرب يحتفي بالذكرى ال68 لتأسيس القوات المسلحة الملكية    المندوبية العامة لإدارة السجون تنفي وجود تجاوزات بالسجن المحلي "تولال 2" بمكناس    صحيفة "ماركا" الإسبانية: إبراهيم دياز قطعة أساسية في تشيكلة ريال مدريد    طقس الثلاثاء.. عودة التساقطات المطرية بعدد من الأقاليم    تحليل آليات التأثير الثقافي في عصر الرقمنة    رشيد الطالبي العلمي في زيارة عمل برلمانية لجمهورية الصين الشعبية    شح الوقود يهدد خدمات الصحة بغزة    الزمالك يشهر ورقة المعاملة بالمثل في وجه بركان    الطلب والدولار يخفضان أسعار النفط    هام لتلاميذ البكالوريا بالناظور.. هذه هي تواريخ الامتحانات والإعلان عن نتائجها    مبيعات الاسمنت تتجاوز 4,10 مليون طن نهاية شهر أبريل    المهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة يحتفي بالسينما المالية    محامو المغرب يدخلون على خطّ اعتقال محامية في تونس.. "اعتقال الدهماني عمل سلطوي وقمعي مرفوض"    من البحر إلى المحيط.. لماذا يتحول مسار الهجرة من المغرب إلى أوروبا؟    إضراب وطني يفرغ المستشفيات من الأطباء والممرضين.. والنقابات تدعو لإنزال وطني    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    سي مهدي يثور في وجه بنسعيد    الارتفاع يطبع تداولات بورصة الدار البيضاء    كأس الكونفدرالية الإفريقية: نهضة بركان يفوز على الزمالك المصري في ذهاب النهائي (2-1)    مصر تُهدد بإنهاء "كامب ديفيد" إذا لم تنسحب إسرائيل من رفح    قنصلية متنقلة لفائدة مغاربة إسبانيا    الأساطير التي نحيا بها    الدرس الكبير    السينما في الهوامش والقرى تشغل النقاد والأكاديميين بالمعرض الدولي للكتاب    هل انفصلت فاطمة الزهراء لحرش عن زوجها؟    تراجع صرف الدولار واليورو بموسكو    "المراهنة على فوضى المناخ".. تقرير يفضح تورط المصارف العالمية الكبرى في تمويل شركات الوقود الأحفوري    الاشتراكيون يفوزون في انتخابات إقليم كتالونيا الإسباني    فيلم الحساب يتوج بالجائزة الكبرى في برنامج Ciné Café    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    لماذا قرر حزب بهاراتيا جاناتا الهندي الحاكم أن لا يخوض الانتخابات في إقليم كشمير؟    ما الذي قاله مدرب نهضة بركان بعد الانتصار على الزمالك المصري؟    "إغلاق المعبر يعني أن أفقد قدمي الثانية" شهادات لبي بي سي من مرضى ومصابين في رفح    كرة اليد.. اتحاد طنجة يتأهل لربع نهائي كأس العرش    إبراهيم صلاح ينقذ "رين" من خسارة    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    الأمثال العامية بتطوان... (596)    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربان طائرة ولاعبون سابقون وفنانون ومبدعون ورجال أعمال مفلسون في ضيافة دور العجزة
شخصيات مهمة رمت بها الأقدار إلى أسرّة دور رعاية الأشخاص المسنين
نشر في المساء يوم 08 - 10 - 2009

تتوقف عقارب الزمن في دور رعاية المسنين المتناثرة عبر ربوع الوطن، حيث يستنشق آلاف الأشخاص رائحة العزلة، وهم يحاولون تشحيم ذاكرة صدئة لم تعد قادرة على استحضار ما تبقى في علبة ذكريات بالأبيض والأسود.
وراء أسوار دور الرعاية الاجتماعية ألف حكاية وحكاية لأشخاص أصدرت الأقدار في حقهم حكما بالمؤبد الخيري، ورمتهم نائبات الدهر في محطة أرذل العمر. في سجلات هذه المؤسسات الاجتماعية ضيوف استثنائيون خرجوا من حياة الترف إلى عتمة مكان أشبه بمحطة انتظار، منهم مفكرون ورياضيون وفنانون ومفلسون، هنا في هذا الفضاء يعيدون ترتيب وقائع تاريخهم ويخفون سحناتهم المهمومة وسط كائنات أخرى، ويبحثون عن سبل التعايش مع متسولين ومشردين بلا عنوان.
الساعة تشير إلى السادسة من مساء يوم السبت الماضي. الهدوء يخيم على فضاء المركز الاجتماعي دار الخير بتيط مليل ضواحي الدار البيضاء، باستثناء صراخ شخص لفظته دورية المساعدة الاجتماعية أمام إدارة المؤسسة، وحاول أن يقدم قرائن تؤكد براءته من تهمة التسول الاحترافي، بالرغم من توفره على مبلغ مالي محترم.
ليست هذه الحالات التي تتردد بشكل روتيني على المؤسسة، هي أسباب نزولنا ببهو دار الخير، بل إن قصدنا هو البحث عن شخصيات انتهى بها قطار الحياة في هذا المكان.
سألنا البشير، الحارس العام للمؤسسة، عن الضيوف الاستثنائيين للمركز، فلم يتردد في مرافقتنا صوب المراقد، للتعرف على أسماء تختلف «تاريخيا» عن بقية الكائنات.
لم يكن البشير في حاجة إلى تصفح سجل النزلاء، أو السفر إلى عمق الذاكرة لاستحضار أسماء توقفت سكة عمرها عند محطة دار الرعاية الاجتماعية للمسنين.
هزيمة اجتماعية للاعب دولي
في جناح المسنين بدار الخير لتيط مليل، كان عشرات الأشخاص يستعدون للمشاركة في تظاهرة رياضية المشي، دعت إليها الجمعية الطبية للمسنين، وفي قاعة الاستراحة يتابع رجال تجاوزت أعمارهم العقد السادس، مباراة لكرة القدم بكثير من الاهتمام.
من أكثر النزلاء اهتماما بوقائع المباراة، إبراهيم الروداني الملقب في الأوساط الرياضية بشيشا، يقال إنه صاحب حقوق ملكية لقب شيشا، الذي حمله أكثر من لاعب في أندية عديدة كالوداد البيضاوي والجيش الملكي والنادي المكناسي وفرق مغربية أخرى، رغم أن رواية أخرى تقول إن شيشا الأول لعب للمغرب التطواني قبل أن يحترف في إسبانيا، وينهي مساره بحسنية أكادير قبل أن ينتهي به المطاف مشردا.
يجلس شيشا على كرسي متحرك بعد أن استعصى عليه المشي بسبب آلام مزمنة أحالت يسراه المرعبة إلى ساق معطلة، ويصر على ارتداء بذلة رياضية بنية فاتحة تكرس انتماءه إلى عشيرة الرياضيين.
انتهى المطاف بشيشا في ركن بالقاعة رقم 2 من دار الرعاية الاجتماعية لتيط مليل، في الوقت الذي يعيش العديد من اللاعبين الذين عاصروه في بحبوحة من العيش الرغيد.
يقول شيشا ل«المساء» إنه سعيد بالتواجد في هذا الفضاء لأنه أرحم من الشارع الرهيب، وأضاف أن مساره الكروي بدأ بالألوان وانتهى بالسواد، محملا المسؤولية للآخرين.
«لعبت للوداد والجيش وأحتفظ بقصاصات جرائد تشهد على زمن النجومية، لكن المسؤولين عن الرياضة لم يهتموا بي، في زمن لم يكن فيه المال قد غزا عالم كرة القدم، كنا نلعب من أجل حب القميص ونتقاضى منحا لا تكفي لسد حاجياتنا الصغيرة».
انتهى المطاف بشيشا في فضاء ميناء الدار البيضاء، هناك قضى سنوات في البحث عن مهنة تجعله حيا لا يرزق، حيث شغل في آخر أيامه في المرسى مهمة حارس سيارات، يجمع دراهم بيضاء للأيام السوداء، وفي فترة الظهيرة يتناول وجبة سمك بمطعم اللاعب الدولي السابق عبد الرحمن بلمحجوب الذي لا يبعد عن موقف السيارات إلا ببضعة أمتار.
في إطار حملات التطهير التي تقوم بها دورية المساعدة الاجتماعية، أحيل شيشا على دار الخير، هنا سيقيم له النزلاء مباراة اعتزال من التشرد، رغم أن إبراهيم يؤكد بأن الفضاء الجديد أفضل بكثير من ميناء يصارع فيه الحيتان الكبيرة من أجل كسرة خبز.
ضابط لم يسعفه أحفاده
في نفس الجناح يجلس نور الدين ملكوني على كرسي متحرك آلي، رجل أسمر الملامح تغزو وجهه تجاعيد صلبة، ويحتل الشيب جزءا كبيرا من رأس مشبع بالمحن.
يقول الحارس العام للمؤسسة إن الرجل يملك رقما قياسيا وطنيا في الزواج، حيث يفخر بقرانه من 11 امرأة، كان من مضاعفات هذا التعدد غير المسبوق وجود 39 حفيدا.
نور الدين ليس شخصا عاديا، فهو رجل مثقف مدمن على تتبع نشرات الأخبار بنفس هوس الإدمان الذي رمى به في دار الخير. كان ينتمي إلى سلك الجندية برتبة ضابط، وعرف بقدرته على قيادة أصعب الفيالق قبل أن ينتهي به المطاف في فيلق مسنين سقطت منهم النياشين بفعل التقادم والاستهتار بالمسؤولية.
انفصل ملكوني عن الوسط العائلي وارتمى في خلوته الماجنة، يقول مدير المركب الاجتماعي، وحين تم إيداعه في هذا الفضاء بتوجيه من عامل المحمدية، أيقن أن لكل شيء بداية ونهاية.
زاره أبناؤه ووعدوه بدخول القفص الذهبي رقم 12، وحين أخلفوا الوعد، غضب نور الدين وانتابته نوبة كآبة، انتهت بعطل في الحبال الصوتية حولته إلى كائن عاجز عن النطق والاحتجاج.
في دار الخير بتيط مليل أسماء نكرة وأخرى معرفة، هنا مر العديد من المبدعين، مارسوا الفنون بكل أطيافها قبل أن تتلبد سماؤهم بغيمة ترعد ولا تمطر. يذكر نزلاء المؤسسة إسم إدريس غريب الذي قضى بدار الخير ثلاث سنوات، كان مرهف الأحاسيس ولا يفارقه مذياع ضاعت موجاته، ينصت للأغاني الشرقية بصوفية غريبة، فقد كان واحدا من أعمدة الجوق الوطني لدار الإذاعة والتلفزة، «حين زار المؤسسة الفنان عبد الهادي بلخياط، فوجئ بوجوده واحتضنه بين ذراعيه طويلا، وكأنه يقدم العزاء لرجل على قيد الحياة» يقول مدير المؤسسة.
غادر غريب تيط مليل، وابتلعته زحمة الدار البيضاء، هناك عاد الموسيقار، الذي كان يغني قصائد كلاسيكية في الليالي الباردة للمركز، إلى عالم المجون بعد أن فشلت كل الوصفات الاجتماعية والنفسية في وضعه على سكة جديدة.
«لقد منع من العودة إلى المؤسسة، بعد أن سمح له مرة بزيارة أهله، وعاد إلى دار الخير مخمورا بعد قضاء فترة قصيرة في جوق السكارى»، يقول مدير المؤسسة.
نزول اضطراري لربان طائرة
منذ عقد من الزمن حط الطيار محمد صابر بمرقد في دار البر والإحسان بمراكش. كان الرجل قبل هذا التاريخ من أمهر الطيارين في السلاح الجوي، قبل أن يغادره صوب الطيران المدني، إلا أن القدر كان يخبئ له نهاية مفجعة، بعد أن تعرض لحادث سير أنهى مساره المهني وحوله إلى أجير سابق يطارد عبر ردهات مصالح المعاش وحوادث الشغل تعويضات معطلة وفي أحسن الأحوال مجرد قطرات تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة.
يحكي عزيز عدي، المدير السابق لمؤسسة دار البر والإحسان، ل«المساء» حكاية النزول الاضطراري للطيار الحزين في «قاعدة» دار تعنى بشؤون المسنين المتخلى عنهم، «قبل عشر سنوات اتصل بي أحد الأشخاص وحكى لي قصة طيار في القوات الجوية انتقل للاشتغال في سلك الطيران المدني قبل أن يصاب بعاهة مستديمة أنهت مساره المهني، لكن مع مرور الوقت هزل معاشه وأصبح لا يكفي لإعالته فأصبح معرضا لكل النكبات. عرضت حكايته على المسؤولين فتمت الموافقة على إيوائه على الأقل لإنقاذه من الضياع، ورغم معاناته الطويلة فقد ظل محافظا على هندامه وطهارته وبعض عاداته كالمطالعة المستمرة».
في دار البر والإحسان يتعايش صبار مع مئات المسنين أغلبهم جاء إلى المؤسسة مكرها، بعد أن كنسته دورية للشرطة من بؤر المتسولين، خاصة جامع لفنا وكليز، بل إن عدد نزلاء الدار يرتفع بشكل ملحوظ كلما كانت مدينة البهجة تستعد لاحتضان أحد الملتقيات الدولية.
رجال أعمال مفلسون
في دار المسنين بمدينة القنيطرة، يعيش عبد الرحمن دوليزال عزلته الاضطرارية، يحاول أن يعيد ترتيب وقائع الزمن الغادر، الذي حوله من رجل أعمال إلى شخص مديون يقف في طابور قاعة الأكل إلى جانب عشرات النزلاء في انتظار وجبة غذاء، بعد أن كان يملك أحد أكبر المقاهي في المدينة.
قضى دوليزال سنوات عمره الجميلة في فرنسا، ضاعف جهوده من أجل توفير مبلغ مالي ينهي به سفر الغربة بمشروع مربح في بلده، وحين نال التقاعد كان المشروع جاهزا وأصبح عبد الرحمن من بين رجال الأعمال الذين قرروا الاستثمار في بلدانهم استجابة لنداء الوطن.
لم تسر الأمور وفق ما كان يظن دوليزال وبدا أن الحلم يتحول تدريجيا إلى سراب.
بعد أن ضاق به الحال وأصبح يواجه أرق المغامرة، ارتكب عبد الرحمن جرما رمى به في أحد السجون، وحين انتهت العقوبة وجد نفسه محروما من لقب «السي عبد الرحمن» وتطارده نظرات تزيد من حجم معاناته وتجعله يعض على شفتيه من شدة الندم على قرار العودة إلى الوطن.
زار طاقم برنامج «مختفون» الذي تبثه القناة الثانية، دار المسنين بالقنيطرة، ورصد حالة دوليزال من أجل تسليط الضوء على رجل كان صرحا فهوى، فاتصل بعض أهالي عبد الرحمن بإدارة المؤسسة من أجل لقاء «المختفي»، قبل أن يتبين أن للاختفاء سببا نفسيا.
مثل هذه الحالات تحتل مساحة في أكثر من دار لرعاية المسنين، وغالبا ما تحظى بمعاملة خاصة على الأقل احتراما لتاريخها ومكانتها التي شاخت كما شاخ الجسد وأصبح مجرد رقم في سجل النزلاء.
في دار العجزة لمدينة أكادير، تعيش حالة مماثلة لنزيل القنيطرة، فقد رمت الأقدار بأحد الأثرياء المفلسين بهذا الفضاء الذي يعتبر أغلب قاطنيه ممن لا تاريخ ولا جغرافية لهم.
في حجرة هادئة يقضي عمر النواري ما تبقى له في عداد الزمن من أيام. يقول مدير المؤسسة محمد الكنوني ل«المساء»، إن الحالة الاجتماعية للمعني تحتاج إلى متابعة نفسية، لأن الرجل كان من رجال الأعمال قبل أن ينتهي به الأمر بين نزلاء أغلبهم عانوا من صعوبات الحياة.
العديد من النماذج يمكن وضعها في خانة رجال ونساء دور المسنين المفلسين، ففي دار الرعاية لهذه الفئة التابعة للجمعية الخيرية لعين الشق بالدار البيضاء، كانت ثريا تحظى بضيافة استثنائية لأنها ليست مجرد نزيلة عادية التقطتها حبال دورية الأمن، بل تعتبر من أشهر صاحبات مدارس الحلاقة في الدار البيضاء، صففت شعر أكبر الفنانات والأديبات وربات البيوت في العائلات المخملية، قبل أن يصدر القدر في حقها حكما بالمؤبد الخيري. وفي الجديدة هناك حالات مماثلة لأسر ثرية اختارت المنفى الاضطراري في دار المسنين بسيدي الضاوي قبالة المحيط الأطلسي، وهلم شرا من الحالات التي فقدت زينة الحياة الدنيا.
يرى مجد الدين برامي، المدير السابق لدار الخير بالعنق، والذي عايش فترة تجميع عدد كبير من المسنين في المعرض الدولي بالدار البيضاء أولا، قبل أن يحالوا على مركز العنق، الذي كان مجرد مصحة للأمراض العقلية، أن العديد من الشخصيات تخفي هويتها الحقيقية حين ينتهي بها المطاف في دار للمسنين، خاصة إذا تعلق الأمر بفضاء يختلط فيه المعتوهون مع الأسوياء، وهناك بعض المبدعين الذين أصيبوا باختلالات عقلية فضاعت هويتهم الحقيقية، بعد أن سقطوا في حالة اكتئاب مزمنة، وعاشوا نوعا من العزلة بعيدا عن رابطة القرابة العائلية.
«حين يضم فضاء كالعنق أزيد من 500 حالة من السوي إلى المعتوه، من الشريف إلى النذل، من المجرم إلى البريء، من سن المراهقة إلى ما فوق مائة سنة، ويكون الهاجس الأمني وليس الاجتماعي هو المسيطر، فإن هوية العديد من النزلاء تضيع في زحمة معيش يومي يحصر البرنامج في النوم والأكل» يقول برامي.
دار خاصة بالمسنين بين الرفض والقبول
يرى محمد فؤاد لمعدل، المتخصص في شؤون الأشخاص المسنين، أن فكرة إنشاء مؤسسة خاصة تعنى بالمسنين في المغرب واردة، بالنظر أولا لاحتياجات هذه الفئة ولرغبة العديد من الأشخاص في إيجاد فضاء تتوفر فيه كل شروط الإقامة المريحة، فضاء لا تتعايش فيه كل الكائنات من مشردين ومتسولين ومختلين عقليا، القاسم المشترك الوحيد بينها هو السن، بل فضاء أشبه بباحة استراحة لهذه الفئة.
لكن تنفيذ الفكرة يبدو أمرا مستعصيا على الأقل في الظرف الراهن، حيث ينظر المجتمع إلى نزيل دار المسنين نظرة شفقة وغالبا ما تتلقى أسرة النزيل، وبدرجة أكبر أبناؤه، نوعا من اللوم والعتاب قد يأخذ شكل عقوق في بعض الأحيان. «أذكر أن الملك الراحل الحسن الثاني قال في إحدى خطبه الشهيرة إنه مستعد لإحراق كل دور العجزة في المغرب إذا تبين أنها تعادي التكافل بين أفراد الأسر». وصنف الباحث محمد فؤاد لمعدل، الذي يملك مشروعا لخوصصة دور المسنين، الأشخاص المسنين حسب الفئة العمرية، فالكهل يتراوح عمره ما بين 60 و65 سنة، والشيخ بين 75 و85 سنة، والهرم بين 85 و100 ثم المعمر من يفوق عمره المائة سنة.
3052 شخصا في دور المسنين نصفهم إناث
حسب الإحصائيات المتوفرة لدى التعاون الوطني، القطاع الوصي على الجمعيات الخيرية العاملة في مجال شؤون المسنين، فإن عدد نزلاء دور رعاية الأشخاص المسنين المنتمين إلى مؤسسات حكومية، يصل إلى 3052 نزيلا، نصفهم تقريبا من الذكور والنصف الثاني من الإناث، حسب الأرقام المتوفرة من إحصاء السنة الماضية.
ويبلغ عدد المؤسسات، التي يشرف التعاون الوطني على رعاية شؤونها، 46 دارا للمسنين، موزعة عبر المدن التالية: سطات، الجديدة، آسفي، بولمان، فاس، القنيطرة، سيدي قاسم، الدار البيضاء، قلعة السراغنة، مراكش، الرشيدية، خنيفرة، مكناس، آزرو، بركان، الناظور، وجدة، تاوريرت، الرباط، الخميسات، أكادير، ورززات، تارودانت، أزيلال، بني ملال، الشاون، طنجة، تطوان، الحسيمة، تازة. وتوجد في بعض المدن أكثر من مؤسسة لرعاية هذه الفئة من النزلاء، كالدار البيضاء وتطوان ثم أكادير، وتعتبر دور الرعاية بكل من تطوان وفاس وقلعة السراغنة ومراكش من أكثر الدور استقطابا للمسنين، فيما توجد مؤسسات أخرى تابعة لوزارة الداخلية، حيث تعتبر بمثابة «فوريانات» آدمية لكائنات متلاشية.
حمو.. من الخيرية إلى السجن انتهاء بدار المسنين
حمو الجبلي مسار رجل غير عادي، قدره أن يعيش مدى الدهر في مراقد المؤسسات الخيرية والعقابية وأخرى بلا هوية. قدر با حمو أن تلتصق باسمه صفة نزيل أبدي، منذ أن رمت به الأقدار في «خيرية» عين الشق التي غادرها مرات عديدة صوب مؤسسات رعاية الجانحين في تيط مليل، بسبب شقاوته المبكرة، وحين تنتهي العقوبة يعود إلى الخيرية بحثا عن انطلاقة جديدة. ولأن حياته ارتبطت بالمراقد وطوابير المؤسسات، فإنه كلما حاول إعادة ترتيب حياته على نحو سوي، وجد نفسه بين جدران دار للإيواء تختلف تسميتها وتتوحد أساليبها.
يقول حمو ل«المساء»، وهو ينفث دخان سيجارة رخيصة تكاد تحرق أصابعه وشفتيه، إن رجال الأمن قد أجهضوا حلم بناء حياة جديدة، فحين يجد ركنا في أحد الشوارع لبيع السجائر بالتقسيط تداهمه دورية لترمي به في مؤسسة إيوائية بتهمة الاتجار في السجائر في الشارع العام.
قضى فترة من حياته في العنق قبل أن يفرج عنه، ويحال مجددا على مركز تيط مليل، قبل أن يتنقل بين عكاشة والعدير، ويعود مرة أخرى إلى لعبة القط والفأر مع الحملات التطهيرية التي تجعل على حد قوله «أولاد لبلاد في سلة واحدة مع النازحين».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.