«قراصنة الصومال»، هذا هو الاسم الذي أطلقه العالم على صيادين بسطاء لم يعودوا يجدون ما يصطادونه في بحارهم بعد أن تحول إلى مكبّ للنفايات السامة للبلدان الكبرى، فقرروا الدفاع عن لقمة عيش أبنائهم، فحولهم الإعلام المجنون إلى قراصنة إرهابيين. لكن، ليست الصومال هي الحالة الوحيدة في هذا العالم، فهناك تاريخ مثير ومنسي من حياة قراصنة مغاربة، من حسن حظهم أن مصطلح الإرهاب لم يكن قد ظهر بعد. كان ذلك قبل بضعة قرون، حين بسط مغاربة أفذاذ سلطتهم على أجزاء واسعة من بحار العالم، وبفضلهم اكتسب المغرب صيتا دوليا وهيبة بلا حدود، ووصل نفوذ المغرب في البحر شأوا غير مسبوق، وكانت مدن أو بلدان بكاملها تخضع لسلطة قراصنة المغرب، وكانت أقوى بلدان العالم تحاول أن تعقد معه اتفاقيات سلم أو صداقة، إلى درجة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها كانت تؤدي جزية للقراصنة المغاربة من أجل عدم التعرض لمراكبها. لكن، كيف بدأت الحكاية؟ البداية كانت من الظلم، مثلما هو حال الصوماليين اليوم؛ لكن قبل بضعة قرون، كان هناك ظلم رهيب وصل حدودا لا تطاق، ظلم لم يعرف التاريخ له مثيلا، أيام كانت أسر كاملة وقرى ومدن تُحرق عن بكرة أبيها، ووصلت أصناف التعذيب ضُروبا لا يمكن أن يبتدعها حتى الخيال المريض، وسبب كل ذلك هو محاولة إفراغ الأندلس من شعبها بالتمام، وكأنه لم يكن يوما. أكيد أن كثيرين سمعوا بخرافة تتحدث عن وجود العرب في الأندلس، وهي خرافة اخترعتها الكنيسة الكاثوليكية لكي تبرر إبادة الشعب الأندلسي على اعتبار أنه شعب عربي يحتل الأندلس، والحقيقة أن الأندلس كانت مزهوة بشعبها الإيبيري الخاص، الذي يعتنق الإسلام ويتكلم العربية. وعندما بدأت الدولة الأندلسية في الاندثار، تم قتل عدد كبير من الأندلسيين بأكثر الوسائل بشاعة، وكانت التهم التي تقود إلى الإحراق في الساحات العامة تبدأ بتهم مثل الطبخ بزيت الزيتون أو الاغتسال يوم الجمعة، وتنتهي بتهم تنظيم ثورات مسلحة. في مناطق كثيرة من الأندلس، جُرد الأندلسيون من أملاكهم كلها، وفي أحيان كثير جُردوا حتى من أبنائهم وزوجاتهم، وتم تشريدهم في أصقاع الأرض، مع أنهم أبناء الأندلس الأصليون، بينما الذين هجّروهم ونكلوا بهم مرتزقة جاؤوا من مختلف بلدان أوربا انصياعا لأوامر الكنيسة الكاثوليكية. في ظل هذه الأوضاع البشعة، نزح كثير من الأندلسيين نحو مناطق كثيرة من العالم، واستقر كثيرون في المغرب، من أقصى الشمال حتى أقصى الجنوب؛ وعلى ضفتي نهر أبي رقراق، بين الرباط وسلا، أنشؤوا إمارتهم الرهيبة، إمارة القراصنة، ومنها انطلقوا يجوبون بحار العالم بمهارة كبيرة، وكل حلمهم أن يكسبوا معاركهم على الأمواج بعد أن خسروها على الأرض، وانطلقوا في غزواتهم البحرية من نهر أبي رقراق ومن موانئ أخرى بشمال البلاد، مثل موانئ تطوان وطنجة وأصيلة، وكانوا يغِيرون على مناطقهم الأصلية في الأندلس، التي صار اسمها إسبانيا، محاولين استعادة أبنائهم وأملاكهم، وشكلوا على مدى قرون قوة رهيبة، قبل أن يبيعهم السلطان المولى إسماعيل للغرب بحفنة من المصالح والدراهم. يقول مؤرخون إن أساطيل القرصنة، منذ القرن الخامس عشر وحتى حدود القرن الثامن عشر، كانت بمثابة قنابل ذرية، وكل البلدان كانت تحلم بالتوفر على أسطول قرصنة قوي في مواجهة الخصوم، والمغرب كان من بين الدول التي تتوفر على تلك «القنابل الذرية». القراصنة المغاربة كانوا يطلقون على أنشطتهم اسم «الجهاد البحري»، بالنظر إلى مراميه المختلفة عن لصوصية البحر، واستطاعوا الوصول إلى مناطق نائية من العالم وكسبوا حروبا على قدر كبير من الشراسة والقوة، وغنموا آلاف الأسرى من إسبانيا وهولندا وبريطانيا، إضافة إلى البلدان الإسكندنافية، وتوجهوا جنوبا نحو جزر الخالدات، كما وفروا لخزينة الدولة كميات هائلة من السيولة النقدية والذهب والفضة. ويحكي التاريخ عن بطولات مثيرة للقراصنة المغاربة، وهي بطولات سُرقت منهم وتم توظيفها، في الروايات والملاحم، لفائدة شعوب وبلدان أخرى. قاوم القراصنة المغاربة الهيمنة الأوربية المسيحية، وحموا المغرب من الاستعمار والنهب في وقت مبكر، غير أنهم بادوا بعد قرون طويلة من السيادة على بحار العالم، خصوصا بعد أن حولهم سلاطين وحكام جشعون إلى مجرد أُجراء، وعرّضوهم للإهانة وسلبوهم حقوقهم، وهو ما دفن أمجاد القراصنة المغاربة إلى الأبد. ويصف باحثون ومؤرخون القراصنة المغاربة، والأندلسيين بشكل عام، بكونهم هم من منحوا الصورة الإنسانية للقراصنة النبلاء، حيث كانوا يضبطون تحركاتهم بكثير من الحدود الإنسانية والشرعية، وكانوا يستلهمون حماسهم من كثير من النصوص الدينية والأحاديث النبوية التي كانت تحث على الجهاد البحري وتعتبره ذا أجر مضاعف عن جهاد البر؛ لكن لو أن هؤلاء القراصنة المظلومين ظهروا اليوم، لتم إدراجهم فورا تحت طائلة قوانين محاربة الإرهاب، تماما كما حدث مع قراصنة الصومال.