عندما اعتُقل مغني الراب معاذ بلغوات، الشهير ب»الحاقد»، أول مرة في شتنبر 2011، خرجت حركة 20 فبراير في مسيرات بعشرات الآلاف، تصدح بشعار: «كلنا، كلنا حاقدين.. غير دِّيونا كاملين». تكررت المسيرات، وكانت مسبوقة وملحوقة بجُموعات عامة، تقررُ وتقيّمُ أدق تفاصيل الاحتجاجات الأسبوعية، دون أن يتخذ واحد من هذه الجموعات قرار حذف هذا الشعار، اعتبارا لكون «20 فبراير» حركة احتجاجية، تُعبّر عن غضب جزء من المغاربة، لا عن حقدهم. لو فعلت الحركة ذلك، بدل انفعالها العاطفي لاعتقال «الحاقد» وترديدها شعار: «كلنا، كلنا حاقدين.. غير دِّيونا كاملين»، لكان الأمر حافزا للمغني الشاب على التفكير ألف مرة في تغيير اسمه الفني، لأن خطابه المتميز، على بساطته، هو ما كرّس اسم «الحاقد» الذي أصبح عبئا مُشوشا على الرسالة الفنية لحامِله ومُحرجا لها. لو فعلت حركة 20 فبرايرذلك لَعبّرت، أيضا، عن تميزها عن سياسيين طالبت برحيلهم، فأصبحوا زعماء أحزاب، وهاهم يمطروننا بخطابات تقطر بالحقد بدل النقد، سياسيون يكذبون ويدلسون ويأفكون ويمكرون ولا يألون جهدا أو حيلة للإيقاع بمنافسيهم و»سحلهم» في الشارع والتلفزيون والبرلمان… قبل ظهور «الحاقد» وحركة 20 فبراير بأزيد من عشر سنوات، عرفت الصحافة المغربية فورة في الكتابات الساخرة، وكان ذلك انبثاقا طبيعيا لشكل تعبيري عن واقع صارخ بالمفارقات، واقع تفيد السخرية في رصد ونقد تناقضاته أكثر مما ينفع التحليل والشرح والتعليل؛ فكانت الكتابات الساخرة توجه سهامها إلى عورات سياسيين طالما تشدقوا أمام المغاربة بخطابات الديمقراطية والعدالة والحرية، وعندما وصلوا إلى السلطة أصبحوا جزءا من منظومة المنع والقمع… شيئا فشيئا، بدأت بعض هذه الكتابات تشط عن وظيفتها النقدية، وتنتقل من السخرية إلى الهجاء، وبدلا من أن ترصد السياسيين في أدائهم، أخذت تنبش في حياتهم الخاصة وتشهّر بهم وبأقاربهم، وكأني بها تؤكد أن الخطأ الذي وقع فيه ابن رشد عندما ترجم «التراجيديا» بالمديح و»الكوميديا» بالهجاء والذم -في ترجمته ل»فن الشعر» لأرسطو- ليس خطأ ناتجا عن قصور ابن رشد في فهم فنَّيْ التراجيديا والكوميديا الغريبين عن بيئته العربية، بل كأن قدر الإنسان العربي هو أن يهجو عندما يسخر، لأنه ينطلق من كونه صائبا ومستقيما وكاملا، والآخر مخطئا وزائغا وناقصا… هكذا يترتب الحقد عن الهجو، والذحل عن الحقد! في كتابه «المقابسات» يستعمل أبو حيان التوحيدي كلمة «الذحل» للتدليل على الحقد الثاوي في بعض النفوس، لا تُظهره إلا لحظة المواجهة، يقول التوحيدي: «الذحل، حقد يقع معه رصد الفرصة للانتقام». الفيلسوف المصري عبد الرحمان بدوي يلجأ بدوره إلى استعمال كلمة «الذحل» في قراءته لمفهوم الأخلاق عند الفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه، فيقول: «لا يلبث الحقد أن ينقلب إلى أشياء في قدرتها أن تخلق قيما أخلاقية. وهنا يكتشف نيتشه ينبوعا فياضا استقت منه الأخلاق السائدة حتى اليوم ما لديها من قيم، ويُسمى هذا الينبوع باسم «الذحل» وهو الشعور المتكرر بإساءة سابقة لقِيها الإنسان، ولم يستطع أن يردها ويتشفى ممن قدمها، لعجز فيه عن رد الفعل في الحال، فتراهُ يتذكرها من بعد». الحقد شعور يوجد في كل النفوس الإنسانية بتفاوت، كما الحب والكره والحسد والغيرة… لكن أن يصبح الحقد اختيارا معلنا -حتى لا نقول واعيا- لفئة واسعة من السياسيين والفنانين والكتاب والرياضيين (خلال مباراة الرجاء البيضاوي ووداد سطيف الجزائري، مؤخرا، منعت السلطات مشجعي الرجاء من رفع «تيفو» يتوعد جماهير الوداد بمذبحة جماعية)! أن ينقلب الحقد إلى «أشياء في قدرتها أن تخلق قيما أخلاقية»، بديلة، بتعبير عبد الرحمان بدوي، فالأمر يعني أننا أمام انقلاب جذري في القيم والأدوار: سيصبح السياسي محتالا ولصا، والفنان مفسدا للذوق، والرياضي مصدرا للعنف والرعب…