لطالما تخيلتني وكأني عشت حياة بدائية موغلة في القدم، ففي فاس حيث الثروة هي التي تصنع الاختلافات بين الناس فالكل مؤدب، الخادم والسيد في فاس لهما الأفكار نفسها حول الحياة، ومنذ عقود لم تتغير صفة التأدب هذه. فالطفل في فاس عندما يرى والده قادما يهرول لتقبيل يده، وأحيانا يقبلها من جانبيها معا، ويبتعد قدر المستطاع عن مكان إقامة والده، وعندما يتكلم الأخير يجب عليه الإنصات باهتمام إلى ما يقوله والتأكيد على أنه فهم ما يقوله أو يصادق عما يقوله بكلمة «نعم سيدي»، وعندما يأمره بشيء ينفذه دون تردد. الأخ الأكبر ينادي إخوته بأسمائهم لكنهم بالمقابل ينادونه ب»عزيزي»، كما أنه من غير اللائق أن يلتقي الإخوة في حفلات المتعة، في فاس أيضا لا يبدأ الزوج في المناداة على زوجته باسمها الشخصي إلا بعد عشر سنوات من الزواج، لكنها بالمقابل لا تستطيع ذلك، لا تستطيع الزوجة أن تنادي زوجها باسمه الشخصي. أما الابن الذي تزوج حديثا وحدث أن كان في نقاش مع والده، فيجب على زوجته ألا تدخل أبدا للغرفة حيث يتحادثان. كما أن رب البيت عندما يستقبل ضيوفا في بيته لا يجلس رفقتهم فوق الطاولة، بل يقف قرب الباب للسهر على استمتاعهم بالوجبة، ولا يجوز أن نرفع الصوت أو نبدو أننا مستعجلين. كل هذه العادات والتصرفات تضفي على العلاقات اليومية نبلا وكرامة تغيب عنا نحن الأوربيين، صحيح أن هذا جزء مبدئي من الحضارة، لكن كم من الوقت قد يلزم الحضارة الغربية كي تخلق مثل عادات التهذيب المصقولة هذه. كنت دائما أعاني عندما أكون مدعوا رفقة أوربيين آخرين للعشاء عند أحد أهل فاس، حيث ترهقني مقارنة فظاظتنا نحن الأوربيين وتميز مضيفنا الفاسي. كثرة الخدم، وروعة المنزل، ووفرة الطعام تبهر الضيوف خاصة النساء دون أن يفطنوا لذلك، كل ذلك يعد إهانة في حق حياتهم البسيطة التافهة، يحسون أنهم فاتحين دون حظوة وتأثير، أسياد بدون غنى، وشخصيات دون بهاء ولمعان، وخلف كل هذه الأحاسيس يختفي نبل، يبدو غريبا لمضيفنا الذي لا يشك في شيء. وحتى لو لم يكن الفاسي تاجرا كبيرا، يبقى من المشرف له أن يكون صاحب متجر بارز في القيسارية، في حي «سيزار»، وهذا الحي كان قلب المدينة النابض، مقابله «ساحة الجمهورية»، فهو حي المخازن، حي القطن والحرير، الأحزمة المطرزة، المجوهرات، «بلاغي»، وكل ما يتعلق بالموضة، فالموضة تكتسي أهمية في بلد ينافس الرجال النساء في التغنج. في فاس القفطان نفسه بأزراره الحريرية من أعلاه إلى أسفله، و»الفراجية» نفسها، ومن المعروف أن الرجل يستعير قفطان زوجته والزوجة كذلك، يلبسون بشكل متشابه، يفضلون أقمصة القطن بالأكمام الواسعة و»الكول» المطرز المشدود إلى العنق. وفي حال أن بنيتهم ثابتة، يرتدي الفاسي في كل فصل قماشا خاصا، وكل موضة فصل معين يطلق عليها اسم خاص، فتجد أسماء من مثل «خدني ولا تنساني»، و»الثلج في الجبل»: أو «لحية سيدي محمد». وخلال إقامتي الأخيرة كان القماش المشهور آنذاك يطلق عليه «خذ السلطانة» وهو ما كان يلبس حينها وهو القماش الذي كانت النساء تطلبنه من أزواجهن، ولك أن تتصور الزوج الذي يجد نفسه مجبرا على شراء القماش لإرضاء ثلاث أو أربع زوجات في حال رغب في السلم في المنزل، ولا تعرف الأثواب شهرة إلا بعد مرورها من قيسارية، مهما كان مكان قدومها، سواء من ليون، مانشيستر أو من مكان آخر.