فاطمة القبابي بسبب التوسع العمراني الكبير، الذي لازالت تعرفه مدينة الدارالبيضاء، أصبحت اليوم في أمس الحاجة إلى رئة تتنفس من خلالها عبق هواء نقي، يستقبله أبناء البيضاء بعد كل يوم شاق وحافل بالعمل، إنه الأمل الذي يتطلع إليه كل بيضاوي، بعدما أعلنت معظم الحدائق العمومية والمساحات الخضراء وفضاءات الترفيه موتها، في ظل الإهمال، والتجاهل وسيادة المصلحة الخاصة. ياسمينة، حديقة عين السبع،عرصة المدينة القديمة، حديقة الجامعة العربية.. واللائحة تطول٫ حدائق لفظت أنفاسها الأخيرة فهل من مغيث؟ الدارالبيضاء مدينة «البيزنيس» بطرق واسعة، وأبراج سكنية، وفنادق فاخرة، وعمارات، وأحياء شعبية، لكن بدون فضاءات للترفيه، ولا مساحات خضراء. التجوال في المدينة المليونية يجعلك تطرح أكثر من علامة استفهام: أين هي فضاءات الترفيه والحدائق العمومية، والمساحات الخضراء بالعاصمة الاقتصادية؟ فكلما اتسعت المدينة زاد سكانها، وزادت عماراتها، وتم إقبار ما كان موجودا من فضاءاتها. من منا لا يتذكر ياسمينة، إفريقيا، حديقة عين السبع… فضاءات شكلت في عصرها الذهبي،مكانا للفرح والسرور، والمتنفس الوحيد للكبار والصغار، اليوم أصبحت في خبر كان. فضاء بسيط، بأرض عارية يكسوها القليل من العشب، ألعاب متآكلة وكأنها أطلال بألوان باهتة، أفقدتها حرارة الشمس جماليتها، يحاول الأطفال ببراءتهم أن يمنحوها حياة جديدة، قمامات وأكياس بلاستيكية ملقاة على جنبات الفضاء، كراسي إسمنتية متآكلة، نافورات جافة مملوءة بالأزبال …وصف لا يمكن أن نستثني منه معظم فضاءات الترفيه والحدائق العمومية الموجودة بالمدينة الاقتصادية، أمر يثير استياء المواطن، ويجعله يطرح علامة استفهام كبيرة، لماذا كل هذا التجاهل والتهميش للحدائق العمومية والفضاءات التي كانت تبهج قلب الدارالبيضاء؟ يمكنك أن تجد كل شيء في الدارالبيضاء، لكن قلما تجد فضاءات للترفيه واللعب، والمساحات الخضراء. الزحف العمراني موجة استياء تعم معظم البيضاويين بسبب انعدام فضاءات للترفيه والترويح عن فلذات أكبادهم، والتخفيف من الضغط الكبير الناجم عن الزيادة السكانية، والزحف العمراني الذي أصبح يطوق المدينة من كل الجوانب، ويخنق أنفاس البيضاويين. يقول نبيل مواطن بيضاوي: «لا توجد في البيضاء حدائق للترفيه ليفجر الأطفال شغبهم وحركيتهم ويستمتعوا بلحظات اللعب، لأن الأطفال يقضون الأسبوع كاملا في الدراسة، بطبيعة الحال هم بحاجة للترفيه خلال العطلة الأسبوعية، لكن للأسف لا وجود لهذه الفضاءات مما يجعلني أفكر كثيرا عندما يطلب مني أبنائي الخروج». غياب المساحات الخضراء وفضاءات الترفيه وانعدامها جعل الآباء في ورطة لمواجهة أبنائهم، إذ لا يجد معظم الآباء أماكن للترفيه والاستمتاع بالوقت رفقة أطفالهم ، وحتى إن وجدت فهي غير لائقة للعب الأطفال، وتنعدم فيها شروط الأمان والسلامة. «حليمة» هي إحدى ضحايا السرقة بفضاء بسيط غير محروس بسيدي معروف تقول «اعتدت الجلوس بهذا الفضاء رفقة ابنتي لغياب الحدائق العمومية بالمنطقة كنت أتحدث عبر الهاتف، وإذا بي أفاجأ بلص يخطف هاتفي ويفر هاربا». ففي ظل غياب الحدائق العمومية، وانعدام الأمان والسلامة لازال الآباء يقاومون جاهدين لإدخال الفرحة والسرور لقلوب أطفالهم بالبحث عن فضاءات مواتية وإن كانت بأثمان باهظة، كعبد الرحمن وهو موظف بالقطاع الخاص، الذي يبحث عن فضاءات لإرضاء أطفاله حتى وان كانت غالية الثمن. للأغنياء فقط تم في الآونة الأخيرة فتح أكبر الفضاءات بالعاصمة الاقتصادية «سندباد»، الذي يقع على الطريق الساحلية لأزمور، ويمتد على مساحة 34 هكتارا باستثمار يقارب 40 مليار سنتيم، فضاء مزج بين الترفيه وحديقة الحيوانات بالإضافة إلى المطاعم والمحلات التجارية، مشروع أشرفت عليه شركة التنمية المحلية الدارالبيضاء للتهيئة، فضاء بالمستوى المطلوب بشهادة الزوار يضم 24 لعبة تتراوح أثمانها من 10 إلى 60 درهما للعبة، وهو الأمر الذي لم يرق للآباء، إذ ارتفاع تذاكر اللعب بالفضاء يكلف مابين 100 إلى 150 درهما للفرد دون احتساب الدخول. يقول حسن أب لطفلين من رواد فضاء سندباد «الأثمنة خيالية لا تناسب كل الفئات الاجتماعية، خاصة الأسر المعوزة والأسر التي تضم عددا كبيرا من الأطفال، أعتقد أنها فضاءات أنشئت للأغنياء فقط». ألعاب مع وقف التنفيذ في نظر المواطنين فإن غياب الإرادة الحقيقية للاهتمام بالمساحات الخضراء، وإحداث فضاءات جديدة في مناطق متعددة من أجل خلق توازن بيئي في مدينة كالدارالبيضاء، جعل الأسر المعوزة تكتفي بما هو موجود من فضاءات بسيطة وبأثمنة رمزية، في الأحياء الشعبية، وإن كانت لا تستوعب الكم الهائل من الأطفال، ولا تلبي حاجتهم وشغفهم باللعب. ألعاب هشة، أرجوحات بلاستيكية قديمة، أبواب قلعة صغيرة محطمة، أحصنة بلاستيكية مبتورة الأطراف، ألعاب مع وقف التنفيذ يهدئ بها الآباء شغف الأطفال للعب ورغبتهم في قضاء وقت رفقة زملائهم، إلا أن بعض الأطفال لا تروقهم فكرة هذه الألعاب، كما هو حال روميساء، التي تتحدث ببراءة: «ما كتعجبنيش هذه الألعاب بغيت ماما تديني للألعاب اللي فيهم الضو». روميساء كباقي أطفال المدينة لا تدرك أن غياب فضاءات ترفيهية ومساحات خضراء تتحكم فيه إكراهات اقتصادية واجتماعية وسياسية… أبطالها منعشون عقاريون نسوا أو تناسوا أن من أبسط حقوق الطفل توفير فضاءات للعب. الإهمال والتجاهل حسب المتتبعين للشأن المحلي، كان الإهمال سيد الموقف، والتجاهل السمة الغالبة على تفكير المجالس المنتخبة ولا يزال إلى حدود الساعة، فمعظم المجالس السابقة للمدينة لم تضع ضمن أولوياتها إشكالية غياب فضاءات الترفيه وهذا ما أكده مصطفى رهين، عضو سابق بمجلس المدينةبالدارالبيضاء وفاعل جمعوي، فالقانون، يضيف رهين، يلزم المنعشين العقاريين بتوفير مساحات خضراء، ومساحات للترفيه في كل مشروع سكني، هذا القانون لا يطبق نظرا لتفشي ظاهرة الرشوة، وسيادة المصالح الخاصة، مشيرا إلى أن الجماعات والسلطات المحلية تتحمل مسؤوليتها في غياب فضاءات الترفيه والملاعب، لأنه يتم تخصيص ميزانية 300 مليار سنتيم سنويا تحدد فيها 50% للنفقات الإجبارية والباقي يخصص لإحداث الحدائق العمومية والمساحات الخضراء والتشجير، للأسف هذا لا ينفذ ويتم صرف الأموال بشكل غامض. كما أشار رهين إلى أن الأحزاب السياسية المنتخبة تتحمل أيضا المسؤولية، فالمفروض في نظره أنه في كل حملة انتخابية على الأحزاب أن تتفق على وضع برنامج خماسي للتنمية المحلية والاهتمام بهذه الفضاءات، يضيف مصطفى رهين «للأسف عمل الأحزاب تطغى عليه العشوائية». خلافا للمادة 41 من الميثاق الجماعي، التي تنص على أن المجالس الجماعية تساهم في إنجاز وصيانة وتدبير التجهيزات الاجتماعية والثقافية والرياضية، لم تستطع وحدة المدينة تغيير الظلام الدامس الذي تعرفه المرافق الحيوية بالمدينة. يتحدث مصطفى رهين عن دور المجتمع المدني، مشددا على دور الجمعيات بدعوتها للتعامل الجدي مع هذه الإشكالية بتكوين لجينات صغيرة في كل حي من أحياء الدارالبيضاء، ووضع مخططات للتنمية وتقديمها للمجلس المنتخب، مبرزا أن دستور 2011 يعطي الحق للمجتمع المدني الحقيقي من أجل إصلاح البلاد، مؤكدا أن الأمل اليوم نتطلع إليه عبر المجلس الجديد والمجتمع لتغيير هذا الواقع. دور الأحزاب المنتخبة ومجلس المدينة مسؤولية لم ينفها مهدي لمينة، رئيس جمعية التحدي للبيئة، في تغيبهم وإهمالهم للفضاءات الخضراء والحدائق العمومية، مشيرا إلى أن دور الجمعية يكمن في تحسيس الفئة الناشئة بالمؤسسات التعليمية والقيام بدورات تهم هذا الشأن، إلا أن دور الجمعية لا يكفي وحده للاهتمام بمثل هذه الفضاءات، بل لابد من تكثيف الجهود مع السلطات والجماعات، ومجلس المدينة خاصة أنه سبق له تفويت القطاع لشركات خاصة، وتبين في النهاية أنها لا تشتغل إلا على المساحات التي تضم أكثر من هكتار، لكن معظم المساحات والحدائق العمومية هي أقل من هكتار، مؤكدا أن هناك إمكانيات وليست هناك استراتيجية للعمل. لكل حديقته… بين مسؤولية الأحزاب المنتخبة، والجماعات المحلية، ومجلس المدينة يضيع أبسط حق للطفل، فيفضل بعض الآباء التنقل خارج الدارالبيضاء وقطع مئات الكيلومترات لرد الاعتبار وإرضاء فلذات أكبادهم، في حين يضطر البعض الآخر إلى المكوث في المنزل أو زيارة الأهل والأحباب، وبالتالي يحرم أبناءه من اللعب عوض تركهم يلعبون في الشوارع والطرقات، تفاديا للحوادث المميتة، يقول وليد تلميذ: «الحديقة التي بقرب منزلنا غير محاطة بسور وبقربها طريق عام تمر منه سيارات الأجرة لذلك لا تتركني أمي ألعب فيها». بين قطع مئات الكيلومترات والبقاء في المنزل، اختارت الفئة المعوزة ترك أطفالها للأسف متسكعين في الأزقة والشوارع يلعبون بين الدروب وفي المزابل والقمامات، وفئة أخرى اختارت الارتماء في أحضان الأراضي العارية بفضاءات غير مؤمنة، أناسي، المشروع، سيدي معروف… في انتظار ضخ دم جديد في شرايين حدائق ألعاب وإحداث فضاءات جديدة تعيد البسمة والفرحة إلى مئات الآلاف من الأطفال وخلق رئة جديدة للعاصمة الإسمنتية. اختار البعض ممن لهم حرقة على هذا البلد إقامة أرجوحات متنقلة في بعض الأماكن أو أمام المدارس. (ع.ب) صاحب أرجوحة متنقلة اعتاد الوقوف أمام المدارس وفي الفضاءات الصغيرة لإدخال الفرحة إلى قلوب الأطفال يقول: «إنها مصدر قوتي ومصدر سعادة للصغار». ذكريات الماضي لم يعد عمران مدينة الدارالبيضاء يسمح بوجود فضاءات تفتح أبوابها في وجه الأطفال كما كان عليه الحال في الماضي، من منا لا يتذكر حديقة عين السبع، إذ كان أطفال البرنوصي، والحي المحمدي وعين السبع يشدون الرحال كل أحد إليها، ونفس الشيء بالنسبة لحديقة ياسمينة وسندباد فلا يمكن أن تسأل أي بيضاوي عن إحدى هذه الحدائق دون أن يحدثك عن ذكرياته في واحدة منها، إذ كان من الصعب خلال عطلة نهاية الأسبوع والعطل البينية أن تجد موطئ قدم في ياسمينة أو سندباد أوعين السبع. حدائق كانت تنبض بالحياة، لكن الصورة اليوم انقلبت رأسا على عقب، فالوضعية التي توجد عليها اليوم لا ترضي كل غيور على حدائق الترفيه بالدارالبيضاء، وضع كارثي تعيشه المرافق والتجهيزات العمومية والمحلية، ياسمينة تحولت إلى مقبرة مخيفة يلفها الصمت، ومستودع للخردة والمتلاشيات، والشيء نفسه ينطبق على حديقة الجامعة العربية، التي تبلغ مساحتها أزيد من 30 هكتارا فهي من أكبر حدائق الدارالبيضاء. أما حديقة عين السبع فحالها يتدهور يوما عن يوم بعد أن أصبحت مرتعا للفئران ووكرا للمتسكعين والمنحرفين. نادية من سكان عين السبع، تحكي بحرقة عن الوضعية التي آلت إليها الحديقة: « الحديقة اليوم حالها كايشفي، كيبقا فيا الحال ملي كنشوفها هكذا». إن عدم الاهتمام بهذه الفضاءات يؤشر على غياب حس جمالي وإنساني لدى المسؤولين المحليين والمجالس المنتخبة، وغياب رؤية إستراتيجية بيئية. فهل ستستطيع السلطات المحلية والمجلس المنتخب كسب رهان إعادة هيكلة هذه الحدائق.