نادرا ما يكون هناك اتفاق على قرار بعينه يوحد الدول العربية تحت قبة واحدة، باستثناء ما هو عسكري صرف، فبعدما توحدت العديد من الأقطار العربية تحت قاطرة عاصفة الحزم التي قادتها السعودية في 26 من مارس الماضي كي تقض مضجع «علي عبده صالح» وحلفائه في اليمن «السعيد»، عادت صفحة الود العسكري لكي تجمع بينها مجددا، لكن هذه المرة بقيادة مصرية. أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن تشكيل قوة عسكرية في شمال إفريقيا، غداة افتتاح القمة العربية، التي عقدت في مدينة شرم الشيخ المصرية. الإعلان عن هكذا قرار جاء بعد محاولات فاشلة في التقعيد لقوة عربية مشتركة قادرة على مواجهة «الإرهاب» الذي يجتاح المنطقة، بعدما غدت العديد من مناطق النزاع «عشا» لتوالد العديد من «التنظيمات الإرهابية المتطرفة». قرار أسال الكثير من المداد وأثار العديد من التساؤلات عن هدفه والغرض من ورائه وأيضا عن ظرفيته الإقليمية والدولية. في الوقت الذي ذهب فيه البعض إلى التكهن بأن اتخاذ قرار تشكيل قوة عسكرية عربية يأتي في خضم استعداد الولاياتالمتحدةالأمريكية للقيام بتدخل عسكري مرتقب في ليبيا، وهو ما يعني، حسب العديد من المراقبين، أن التحالف المزمع تشكيله ستتخذه الأخيرة كذراعها اليمنى في المنطقة لتنفيذ تدخلها العسكري بعباءة عربية. وما يعزز هذا التكهن هو مصادفة إعلان الخارجية الأمريكية – في نفس الوقت الذي أعلن فيه الرئيس المصري عن القرار المذكور سلفا -عن تشكيل تحالف جديد يضم ثماني دول عربية للتدخل في ليبيا، وهو ما اعتبر أن الغرض منه بالنهاية هو تبرير التدخل العسكري في ليبيا أمام المنظومة الدولية. فالخارجية الأمريكية كانت قد أعلنت عن تشكيل تحالف دولي لمحاربة تنظيم «داعش» في ليبيا، يجتمع ممثلوه في العاصمة الإيطالية روما، مكتفية بذكر أسماء الدول الأجنبية المشاركة في المؤتمر، وهي أمريكا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبريطانيا، وبلجيكا، وأستراليا، ونيوزيلاندا، وهولندا، والنرويج، وكندا، والدنمارك وإسبانيا والسويد وتركيا، بمشاركة وفد من الأممالمتحدة، في حين لم تحدد هوية البلدان العربية المشاركة في التحالف. أما البعض الآخر فقد ذهب إلى تبني سيناريو يتجلى في سعي مصر أن تكون فاعلة في الشأن الليبي والحصول على نصيبها من «كعكة» المواد الأولية التي تزخر بها الأراضي الليبية، وهو ما يتعارض و المصالح السعودية، خاصة أن المملكة تسعى إلى الإبقاء على التيار الإسلامي الصاعد في ليبيا وتنهج نهجا مختلفا عما تسعى له مصر، التي تحاول وبدعم من الإمارات العربية المتحدةوالولاياتالمتحدةالأمريكية دعم «الانقلاب» الذي قام به اللواء خليفة حفتر تحت ذريعة «الإرهاب»، والتمهيد له كي يتولى مقاليد الحكم في البلاد. فملف دعم الإمارات والسعودية «للثورات المضادة»، والحراك الشعبي الذي شهده العالم العربي منذ مطلع سنة 2011، فضلا عن التقارب بين الرياض وتركيا، وتحديات مواجهة السعودية للمشروع الإيراني التوسعي، ومواجهة التيارات المتطرفة، كلها مؤشرات على مرحلة جديدة من الاستقطاب الإقليمي قد تفضي إلى تغير ملامح خريطة المنطقة مع كل ما يعتليها من أزمات على أصعدة عدة سياسية واجتماعية واقتصادية. «أنا والغريب ضد ابن عمي» غير محاربة الإرهاب ولجم تمدد «داعش» والقاعدة في المنطقة، لم تكشف الجهات المصرية النقاب عن أي حيثيات أخرى حول هذا التحالف العسكري العربي الذي يعتليه الغموض والضباب من شتى الجوانب، حسب ما يراه العديد من المراقبين. إذ لم يتم الكشف بعد عن طبيعة القوة العسكرية المزمع تكوينها، ولا عدد أو هوية الدول المنخرطة فيها أو مقرها أو قيادتها. مع الإشارة إلى أن وزير الخارجية المصري، سامح شكري، كان قد صرح بخصوص التصور المبدئي للقوة أنها العربية المرتقب إنشاؤها ستكون دائمة التواجد، ولن تكون بالضرورة متمركزة داخل دولة عربية بعينها، وستكون متأهبة للتدخل العسكري السريع وما تكلف به من مهام أخرى لمواجهة التحديات التي تهدد أمن وسلامة الدول الأعضاء وسيادتها الوطنية، وتشكل تهديدا للأمن القومي، بما فيها تهديدات التنظيمات الإرهابية.تنظيمات إرهابية غدت الشماعة التي تعلق عليها التحالفات العسكرية تدخلاتها في مناطق النزاع داخل حدود الخريطة العربية بغية إعادة رسم حدودها وتحديد نفوذها، كما يرى الكثير من المحللين، خاصة مع تعدد اللاعبين الدوليين انطلاقا من أمريكا، اللاعب الأكبر، ومرورا بروسيا وتركيا والسعودية ووصولا إلى إيران وغيرها من الدول التي تشكل تحالفات مع أعداء الأمس، وتعادي حلفاء اليوم للظفر بنصيب من الثروات التي تزخر بها المنطقة العربية. فبعد التدخل الروسي في سوريا في 30 من شتنبر الماضي، ودائما بذريعة محاربة «الإرهاب»، والتدخل في اليمن بقيادة السعودية، في إطار ما سمي «بعاصفة الحزم»، التي عصفت بالعديد من الضحايا المدنيين اليمنيين، يبدو أن الدور جاء إذن على ليبيا كي تفتح أحضانها مجددا لتدخل عسكري جديد بقيادة أمريكية وبتواطؤ عربي خليجي غربي، حيث يتعدد المتدخلون إلا أن «الكعكة» تبقى ليبية. فليبيا، ومنذ القضاء على نظام «معمر القدافي»، الذي جثم على قلوب الليبيين لأربعة عقود، لازالت تعيش على صفيح ساخن أبى الحوار أن يجد طريقه نحو فرقائها الذين اتفقوا على ألا يتفقوا رغم كل محاولات رأب الصدع خلال المشاورات الماراطونية الأخيرة بمدينة الصخيرات المغربية وبرعاية أممية. وعلى كل حال، قد تتعدد التكهنات وتتضارب الروايات المصاحبة لإعلان مصر تأسيس قوة عسكرية بالمنطقة العربية، إلا أن الظاهر هو أن التحالفات الجديدة أو التي سبقتها تصب في النهاية لصالح الدول الكبرى، التي تقود المعمورة سياسيا واقتصاديا، بل وعسكريا أيضا. أما دول المنطقة فتكتفي، حسب المتتبعين، بلعب دور المتفرج والمصفق طورا، وبدور الوسيط المتواطئ طورا آخر. لا صديق ولا عدو دائم كانت السعودية أول المصفقين والمهنئين لتولي عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم بمصر، حيث لم تتوان عن دعمه ماديا وسياسيا بعد «الانتصار» على «المد الإخواني» الذي كان يؤرق بال المملكة، بعد صعود الإخوان المسلمين بمصر والتأييد الشعبي الكبير الذي حظوا به آنذاك. دعم ترجمته السعودية في المنح المالية الضخمة التي وهبتها ل»لسيسي» ونظامه. إلا أنه وعلى ما يبدو، ففترة شهر العسل بين النظامين قد انقضت لتدخل معها العلاقات المصرية السعودية في نفق مظلم، حيث تتجاذبها مصالح البلدين التي وسعت الهوة بينهما، وقد يزيدها قرار تأسيس قوة عسكرية شرخا، على اعتبار أن هذا الأخير يعد انسحابا غير مباشر من عباءة التحالف الإسلامي العسكري، بقيادة الرياض، والذي يجمع في كنفه 34 دولة وذلك للتنسيق ودعم العمليات العسكرية ل»محاربة الإرهاب»، من بين هذه الأقطار، نجد الأردنوالإمارات والبحرين وتونس والسودان والصومال وفلسطين وقطر والكويت ولبنان وليبيا ومصر والمغرب وموريتانيا واليمن. توتر في العلاقات بين الحليفين عززه تقرير نشره المعهد الألماني للدراسات، الذي تناول موضوع العلاقات الخليجية المصرية ، مشيراً إلى أن السعودية تسير باتجاه تغيير سياستها في التعامل مع نظام السيسي بعد تدهور علاقتها بالأخير، تقوقع أرجعه التقرير إلى عدم رضى السعودية عن سياسة السيسي، خاصة تلك المتعلقة بملف الأزمة بينه وبين الإخوان. كما أن قرار السيسي تشكيل قوة عسكرية عربية يعارض مصالح المملكة السعودية في المنطقة، مما سيلهب العلاقات بين البلدين «المتحالفين» بالأمس و»المتخاصمين» اليوم، على اعتبار أن السيسي يدعم «الانقلابي» اللواء «خليفة حفتر» وحلفاءه لتولي مقاليد الحكم بليبيا، وهو ما لا يحظى بمباركة الرياض، الشيء الذي يوحي، حسب العديد من المتتبعين، بنوع من التصدع قد بدأ يعتلي العلاقات المصرية السعودية بعد دخول القاهرة على الخط مع الرياض فيما يخص الملف الليبي. تتزاحم التحالفات، إذن، وتتكاثر في المنطقة العربية، والذريعة دوما محاربة «الإرهاب»، في الوقت الذي يدفع فيه ثمن هذه التحالفات العسكرية أبرياء لا ذنب لهم، سوى أنهم ولدوا في بلدان لا تعرف أن تتحالف، على ما يبدو، مع شعوبها بقدر ما تتفنن في التحالف عليها لخدمة أجندتها ومصالحها العسكرية ومصالح حلفائها في الغرب. فإذا كان من شيء يجدر بالأقطار العربية أن تتسابق لتتحالف وتتكالب عليه، فهو الفقر والبطالة والمجاعة والنزوح والفساد ولائحة معاناة لا تنتهي من المصائب والويلات التي أنهكت المواطن العربي، الذي لم يكن يدري أن نسمات ما سمي الربيع العربي التي استبشر معها خيرا على أمل أن تلحق السنوات العجاف التي مر منها، قد تحولت إلى رياح جارفة تجرعت معها ليبيا وسوريا والعراق وغيرها ويلات لا يزال نزيفها مستمرا.