ضمن مسار التجربة الشعرية المغربية الحديثة، التي رسم خطوطها الشعراء التسعينيون بمعجمهم وتقنياتهم وأفقهم.. تمتلك نصوص عبد الرحيم الخصار خصوصية وتميزا، فهي تجربة تمتح من الأرض، ويحفل معجمها الشعري بعناصر الطبيعة وتقلبات الكون، وتستعير مادتها الأولى من الماء والنار، إنها تجربة تحفل بالكوني والذاتي معا، في انسجام يؤسس لنص خاص، ويوجِدُ مادة جديرة بالقراءة.. وقد نشر الخصار نصوصه في مختلف الجرائد والمجلات العربية والمواقع الإلكترونية، قبل أن ينشر مجموعته الشعرية الأولى «أخيرا وصل الشتاء» عن منشورات وزارة الثقافة سنة 2004، ليتبعها بمجموعة جديدة صدرت قبل أسابيع، عن دار الحرف بالمغرب، تحت عنوان «أنظر وأكتفي بالنظر».. في نصوصه الجديدة، يكتب عبد الرحيم الخصار كمعتاده: صادقا، حقيقيا، مضيفا، وفي ذات النصوص لا يكتب الشاعر كمعتاده، على مستوى بناء النص والإضافة إليه، فديوانه الأول كان يحفل بالوجع الإنساني وكانت الكثير من النصوص تشكو حزنها وهمها إلى القارئ، لكن اليد الخبيرة والعين الفاحصة والذهن القارئ أصبحت أكثر وضوحا في الديوان الثاني، إذ يُعمل الكاتب قلمه بين ثنايا السطور، مشذبا ما لا يليق، محاولا أن يكون بعيدا عن الوجع الشخصي وأن يصوغ الفكرة ويكوّنها حق تكوينها، هكذا تنبني النصوص على فكرة، تأمل في الحياة، أو التجربة، فتخرج كما يليق، وتحاول النصوص، هنا، أن تكون مقتصدة حد الإمكان وأن تفيد وتصنع حكمتها على طريقتها الخاصة: «في زحمة الفصول لم أنتبه إلى خطاي فوضعت قدمي باكرا في الخريف لم تجن علي الجسور التي عبرتها ربما جنى علي هوسي بالغابة...» ونقرأ أيضا في قصيدة أخرى نفس الحكمة: «في ما مضى كنت صيادا عنيدا خدعت النهر بقصبة قصيرة والآن فقدت القصبة والصنارة والشباك» وفي قصيدة أخرى: «أنا فقط مقامر خاسر تداخلت الأوراق في يدي وخذلني النرد» تحاول نصوص الخصار في هذا الديوان أن تجعل الحزن الذاتي حزنا كونيا، وهي طريقة يبتكرها الشاعر عادة إما ليسخر من آلامه أو ليجعل آلامه جماعية لا ترتبط به وحده، مما يجعل القارئ يُفيد منها ويتأملها، ويستمتع بها حتى كمن يقرأ كتابا. ولعل أنانية الشاعر، الحاضرة في النص، ضرورية ومطلوبة، لأنها تفتح القصيدة على إمكانات مهمة للإبداع، وتتيح للقارئ تجريب وصفات لا تنتهي من الخيال: «لقد وضعت يدي في فوهة بركان وجلست أنتظر رجة الأرض.» يؤمن الشاعر، إذن، بقوته وبقدرته على تغيير العالم، وسواء أكان هذا الإيمان حقيقيا أم وهما، فهو عزاء للشاعر، يقويه ويجعله متوازنا. يؤمن الشاعر أيضا بهذا الحزن الكوني الفريد. وحين تعصف به الأرصفة، ولا يجد سبيلا إلى السكون، يبقى التيه دائما هو السبيل الذي لا بد منه، ولعل الشاعر تائه على الدوام، فهو نبي العصر المهزوم الذي تخلى عنه أتباعه فضاع. وربما تلك اللحظات التي يجلس فيها ليلتقط الأنفاس، مجرد استراحة للمحارب الذي لا يلبث أن يواصل التوغل في دروب الوغى: «سألملم أغراضي التي لا طائل منها وأجوب هاته الأرض دونما وجهة» نتوقف هنا لنشير إلى تأثر عبد الرحيم الخصار بمقروئه الشعري، هذا المقروء الذي نجده في العديد من النصوص، وهو شيء مهم وأساسي مادام الصوت المفرد للشاعر يتشكل بناء على تلاحمات واتصالات قادمة من أمكنة وأزمنة مختلفة، تجعل الشاعر محملا برصيده من الآخرين، من دمهم ولحمهم وروحهم، في تناسخ شعري لا هروب منه. وإذا عرفنا أن الشعر جزء من الروح، أمكننا أن ندرك أن الشعراء الذين نتأثر بهم يُعطوننا بعضا من أرواحهم. ولأن روح كل شاعر هي روح متمردة وقلقلة، فإن هذا القلق الذي ينفذ إلى الأحفاد، شعريا، لا يمكن وصف قوته، هنا لا تصبح القصيدة هبة بقدرما تصبح مسؤولية جسيمة وألما لا ينتهي، فالشاعر، وهو يكتب، يصارع تلك الأصوات التي بداخله ليُفيد منها، لا ليجعلها تظهر لوحدها، لأن ظهورها يقتل روحه الخاصة. ولعل قدرة الشعراء على إظهار المقروء بشكل لطيف، لنقل بشكل ممتع، مطلوب، يجعلهم يفيدون من العميق، وهذا رهان كل كاتب يؤمن بنصه.. ولنأخذ، على سبيل المثال، نصوص بيسوا الشهير، الذي يُعرف عنه انصرافه إلى عالمه الداخلي، والذي يجعل منه أصل كل شيء، فعبد الرحيم الخصار في «أنظر وأكتفي بالنظر» يقترب من عالم هذا الشاعر، إنه ينظر ويكتفي، من جهة، لا يهمه غير النظر، يكتفي به ويعيش معه راضيا قانعا، ومن جهة أخرى ينظر فتكون النظرة كافية لكي تتوغل المشاهد والصور وتتشرب روحه معها كل الفلسفة التي تنضح من الوجود الكبير، وربما هذا ما جعل الخصار مغرما بقريته الصغيرة «جزولة» التي لا يغادرها كثيرا، وربما لن يغادرها.. هذا الرجل الذي أحس بأن قريته هي مصيره، ومنها ينظر إلى العالم ويكتفي، مادام كل شيء متوفرا فيها، ومادام أهم شيء متوفرا فيها وهو السكينة التي تساعد على إطفاء تلك الأصوات بداخل الشاعر. «مثلما ينظر أرنب إلى حشد من الجنود يعبر الغابة أحيانا أنظر وأكتفي بالنظر» ضمن مسار التجربة الشعرية العربية، قرأت الكثير من النصوص عن الأب، وقد قرأت قبل سنين قصيدة لمحمود درويش عن الأب، ظلت تسكنني لفترة طويلة، جعلتني أحس بحزن شديد. ثمة علاقة مبهمة بيننا وبين آبائنا، وربما علاقة الشاعر بالأب أكثر التباسا. وربما يفيدنا تأمل ذلك من وجهة نظر الباحث السوسيولوجي وعالم النفس، إذ أن الواقع العربي وحضور الأب في الوعي واللاوعي، بمحبته وعنفه، بقوته وسطوته، ومع الحرية التي ينزع إليها الشاعر، يجعل الأمور أكثر تعقيدا، هكذا يعيش الشاعر على إحساسين، من جهة يرغب في قتل سلطة الأب، ومن جهة أخرى يحس ذلك الامتنان الذي طعَّمته قرون من الود والوداعة: «اشتقت إليك يا أبي إلى جلبابك الأبيض القصير وغرائبك التي لا تنتهي إلى رشفة من كأس شايك الجامد على مقربة من الكير إلى الكير وشظاياه التي كانت تسقط في عيني حين كنت أجلس أمامك أدير لك الرحى فيما كنت تدير ظهرك لسنوات الفاقة حالما كعادتك بأيام يبدو أنها لن تأتي» نعود إلى الطبيعة وحضورها في ديوان الخصار، فهي تسكن هذه النصوص بقوة وترخي ظلالها على معجمها، حيث نقرأ عن الأشجار والجبال والمياه والأنهار والأغصان والبساتين والخشب والأكواخ والبيادر، ولذلك سبب أساسي هو كون الخصار ينتمي إلى بيئة فلاحية، لكن أيضا، وكما أسلفت، تلعب القراءة دورها في تحريك مياه النص، حيث يقرأ الكاتب لشعراء من جغرافيات متنوعة، نتقاسم معها البيئة والحياة، مع الاختلاف في اللسان والتفاصيل والرؤية أحيانا، ومن الأمور التي تدعو إلى التأمل في نصوص الخصار، حضور الحياة باختلاجاتها وأسرارها وعنفها وهدوئها، لكن أيضا حضور اليومي المنفلت،والواقعي الذي لا افتعال فيه، ولعل القارئ يحتاج إلى مثل هذه النصوص التي تحكي عن واقع لا يلتفت إليه أحد، واقع يصور لنا الحياة في البوادي ، حيث الأعراس والولائم، حيث تزهر أفراح الفتيات بأثواب العرس في قرى الجنوب «ماداو» و«تيغيساس، حيث الهامش ينبض بالحب والحقيقة، وحيث تفرح الحياة بنفسها وتكتشف جسدها الأبيض الحليب كل يوم: «اسألي أسوار الضيعة ومراتع القصب اسألي المنازل الحمراء في «تيغيساس» والجدار الخلفي للمدرسة العتيقة اسألي الأركانة التي كان الأمازيغيون يوقدون الشموع أسفلها كي تتزوج الصبايا اسألي المزار المهجور في أعلى الهضبة والجسر المهترئ على نهر فارغ في «أورتان»» هنا يختلط الحب بالمكان والمعيش، ويصبح أزليا مادام يرتبط بالأرض التي لن تفنى، يكون الحب أكثر من متعة جسد أو إحساس قلب، أو شهقة روح، يكون حبا يعتاش من المكان والزمان، وتصبح الذكرى أهم مما حدث، لكن تصوير ما يحيط بالحبيبن في تفاصيله الصغرى، كرواية من العصر القديم، يجعل القصيدة أكثر انشغالا بتجسيد اللحظة.