قال الله تقدست أسماؤه: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُومِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [النساء، 64]. وعن العباس بن عبد المطلب أنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا". هذا الحديث إخبار عن حقيقة الإيمان وعناصره الأساسية. فالإيمان في حقيقته ليس من قبيل الأقوال أو الأعمال الظاهرة التي تدركها الأسماع والأبصار؛ ولكنه شيء يكتنف أعماق النفس، ففي ذلكم القرار المكين تستقر بذرة الإيمان، وتنمو حتى يخرج نباته بإذن ربه شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ فكل مظهر من مظاهره أو متعلق من متعلقاته لم ترسخ عروقه في هذا القرار المكين؛ فإنه يظل في مهب الريح عرضة للتحول أو الزوال. ففي سياق هذا النطق النبوي الكريم يرى كيف عد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة معايير لاختبار دعوى الإيمان؛ لأنه ما أكثر المدعين للإيمان، وأفئدتهم منه هواء كما قال جل وعلا: "وَمَا يُومِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ" [يوسف، 106]. فالنطق النبوي ذكر ثلاثة مقاييس للإيمان، وهي الحد الأدنى للفوز في الابتلاء المعنوي والروحي. أولها: الرضا بالله ربا، وثانيها: الرضا بالإسلام دينا، وثالثها: الرضا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.. وبعض الناس عندما سمع هذا الكلام قال: هذا امتحان بسيط، فكلنا بحمد الله مؤمنون رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا. وليس الأمر كذلك؛ ليست العبرة بقولك أنك تعرف الله وتقر له بالألوهية، وتعرف شرعه ونبيه معرفة مجردة، ولكن الشأن والعبرة أن يرضى بذلك قلبك، وتطيب به نفسك، وشتان بين المعرفة العقلية، وبين الرضا القلبي العميق.. ألم تروا أن قوما كانوا يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك جحدوا به ظلما وعُلوا.. فالمعرفة الخاصة بالإيمان هي محبة الحق والأنس به، والانضواء تحت رايته في طمأنينة وسكينة.. هذا معنى الرضا.. حقيقة الرضا شقان: شق ارتياح وطمأنينة وركون إلى الشيء الذي تعرفه، وشق اعتقاد واستغناء به، وعدم تطلع إلى ما وراءه. فاعلم أن مقياس الإيمان هو هذا الرضا بشطريه؛ فلا يذوق طعم الإيمان إلا من كانت منزلة الحق عنده منزلة حق وإيثار معا؛ ذلك أن الحق غيور لا يقبل المشاركة ولا المبادلة يتطلب أن تكون في نفس المؤمن المنزلة العليا التي لا يزاحمه فيها غيره، فمن ثم كان شأن المؤمن أن تسخو نفسه بأن يضحى بكل شيء في سبيل الحق، ولا تسخو أن يضحي بالحق في سبيل شيء آخر كائنا ما كان. ها نحن قد ضبطنا المعيار أو الميزان؛ فهل لنا أن نضع أنفسنا في كفة هذا الميزان.. وهل كل من ينتمي إلى الإسلام يرضى حقيقة رضا محبة وقناعة؛ بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا؟ هل كل المؤمنين ينعمون بنعمة الرضا؟ هل ذاقوا طعم الإيمان وحلاوته؟ هل دخل الإيمان في قلوبهم أم رشحت قطرة منه في حلوقهم؟ ألا ترى معي فئات تأخذ من شرع الله وتذر فما وافق أهواءها نوهوا به، وما عارض ميولها وأذواقها رأيتهم يقفون منه مواقف شتى ويقولون "ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُومِنِينَ وَإِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَاتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ اَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُومِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [النور، 45-49]. إن تجربة النفوس مع الإيمان في ميادين الحياة اليومية تسفر عن مفاجآت قاسية، وأنا أشير هنا إلى أنواع كثيرة من الوثنية الخفيفة التي تزاحم الإيمان حتى تستضعفه، وتطمس أثره فلا يبقى منه إلا الرسم. هناك وثنية المال، ووثنية السلطة، ووثنية المنصب، ووثنية الجاه أو القوة فترى الناس يترامون على أعتابها مملوءة قلوبهم رغبة ورهبة يعلقون عليها آمالهم ويشكون إليها آلامهم، فلو فتشت قلوبهم في تلك اللحظات لوجدت اسم الله لا يحضر على بالهم. وثمة نوع ثان من الوثنية من يتخذ معبوده أصناما لا يدركها الحس بل تكتنف أعماق الباطن، وهي على فرط دقتها وخفائها أشد تسلطا واستبعادا للنفوس.. تلك هي عبادة الأهواء وهي بداية الطريق للوقوع في سائر الوثنيات "أَفَرَايْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ" [الجاثية، 22].