ريادة المغرب في تحقيق الأمن العالمي تحصد إشادة "الإنتربول"    صفعة جديدة للنظام الجزائري.. الفيفا تمنع انتقال أي لاعب من بلد ليس عضوا بالأمم المتحدة    المعهد المغربي للتقييس يستضيف دورة تدريبية حول المواصفات الموحدة لمنتجات "الحلال"    أكادير تستضيف الملتقى الأفريقي المغربي الأول للطب الرياضي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بدء محاكمة الناصري وبعيوي على خلفية ملف "إسكوبار الصحراء" الخميس المقبل    تراجع جديد يخفض أسعار بيع "الغازوال" والبنزين بمحطات الوقود بالمغرب    شراكة تثمّن الإمكانات الغنية للسياحة القروية    ألمانيا تطلق هذه المبادرة لدعم خلق فرص شغل في المغرب    إسرائيل تقول أمام محكمة العدل الدولية إن الحرب ضد حماس في قطاع غزة "مأساوية" لكن لا تصنّف "إبادة جماعية"    رئيس وزراء السنغال ينتقد وجود قوات فرنسية في بلاده    المغرب، من أين؟ وإلى أين؟ وماذا بعد؟    محمد الحيحي/ ذاكرة حياة .. الأثر الطيب والتأثير المستدام    البرازيل تستضيف كأس العالم للسيدات 2027    "منتدى الزهراء" يدعو إلى اعتماد تشريع يحقق العدل داخل الأسرة    المحكمة الدستورية تقبل استقالة مبديع وتدعو وصيفه لشغل مقعده بمجلس النواب    الصيف في طنجة موسم لحرائق الغابات.. ينبغي على الجميع التعبئة للتصدي لها    وَصَايَا المَلائِكةِ لبَقَايَا البَشَرْ    وجهة خطر.. بين مسلم ورمضان لم تثْبت رؤية هلال الكِتاب!    دراسة: توقعات بزيادة متوسط الأعمار بنحو خمس سنوات بحلول 2050    رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً في إطار تحدٍّ مثير للجدل    الميناء العائم في غزة يستقبل أول حمولة من المساعدات    هل يقبل المغرب دعوة أمريكا للمشاركة في قوات حفظ سلام بغزة؟    بعد وصوله إلى الجزائر.. مدرب المنتخب المغربي النسوي يحذر "اللبؤات"    الشرطة الفرنسية تقتل مسلحا حاول إضرام النار في كنيس يهودي    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    اللقاء التواصلي المنعقد لفائدة المؤسسات التعليمية الحرة في موضوع تنزيل مقتضيات عقد تأطير العلاقة بين الأسرة و المؤسسات    إسبانيا تعلن منع رسو السفن التي تحمل أسلحة إلى إسرائيل في موانئها    وسط اهتمام آرسنال.. ريال بيتيس يتشبث بشادي رياض    بسبب محمد رمضان وسعد لمجرد.. بطمة تعرب عن غضبها    ملاعب المغرب تستقبل 9 مباريات ضمن تصفيات المونديال    مباحثات مغربية صينية من أجل تعزيز التعاون في مجال إدارة السجون    عصيد: الإعلام الأمازيغي يصطدم بتحديات كبرى .. وتفعيل الدستور "معلق"    رد قوية وساحق لعمر هلال على ممثل الجزائر في الأمم المتحدة    المغاربة أكثر العمال الأجانب مساهمة في نظام الضمان الاجتماعي بإسبانيا    مشورة قانونية لفيفا بشأن طلب فلسطين تجميد عضوية اسرائيل    عصابة "رجل المُنتصف".. السلطات الإسبانية توقف 30 مغربيا    "ولد الشينوية" أمام القضاء من جديد    رسالة من عمرو موسى إلى القادة في القمة العربية: "أن نكون أو لا نكون" – صحيفة الشرق الأوسط    اختفاء غامض لشاب من تمسمان على متن باخرة متجهة إلى إسبانيا من الناظور    احتفاء بسعيد يقطين .. "عراب البنيوية" ينال العناية في المعرض للدولي للكتاب    "ألوان القدس" تشع في معرض الكتاب    موعد مباراة نهضة بركان ضد الزمالك المصري في إياب نهائي كأس الكاف    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (12)    احذر وضعيات النوم الأكثر ضررا على صحة الجسم    إحداث أزيد من 42 ألف مقاولة ذات شخصية معنوية بجهة طنجة    الأمثال العامية بتطوان... (600)    ميناء طنجة : تراجع كمية مفرغات الصيد البحري بنسبة 30% حتى متم أبريل    سعر الذهب يتراجع بعد مكاسب الدولار    حرب تبحث عن مشروع سياسي    ما دخل الأزهر في نقاشات المثقفين؟    وفاة الفنان أحمد بيرو أحد رواد الطرب الغرناطي    الجزائر.. داؤها في قيادتها    هذه العوامل ترفع خطر الإصابة بهشاشة العظام    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    كلاب ضالة تفترس حيوانات وتهدد سلامة السكان بتطوان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد جليد يكتب: عدنان والآخرون.. ضحايا من؟
نشر في اليوم 24 يوم 16 - 09 - 2020

من يقرأ كتاب المبدع أحمد المديني «فتن كاتب عربي في باريس»، سيصادف هذا المقطع الذي يقول: «أقف على مبعدة أمتار محسوبة من المدرسة، في الرصيف المقابل، منزاحا بالقدر الكافي، يجعلني أرى وألا أثير الشكوك، إذ لا معنى لوقوف شخص بلا غرض صبيحة يوم الدخول المدرسي...». ذكرتني بهذا المقطع الحادثة الموجعة والمأساوية بطنجة الأسبوع الماضي، والتي راح ضحيتها الطفل عدنان بوشوف.
يعبر هذا المقطع، في كتاب المديني، عن الخشية التي اعتملت في نفس الكاتب لحظة وقوفه مقابل مدرسة باريسية، ولا شك تعتمل في نفس كل من يقف في المكان نفسه دون غرض أو قصد. من لا يعرف السياق القانوني والحقوقي الفرنسي، وكذا الأعراف الاجتماعية الفرنسية، سيحسب أن المديني إنما يصف حالة نفسية لا معنى لها، أو موقفا متخيلا ضمن أحداث روائية. ذلك أن للشكوك التي تحدث عنها هذا الكاتب العربي المفتون بعاصمة الأنوار مسوغا واقعيا نابعا من حرص الجميع، دولة وحكومة وشعبا، على الطفولة، واهتمامهم الكبير بأحوالها وحاجاتها ورغباتها، وانتباههم العميق إلى أي مكروه قد يحيق بها.
ماذا يقابل هذه الصورة عندنا؟ يقابلها بالطبع برنامج تلفزيوني خاص بالمختفين والمختطفين، وصفحات فايسبوكية غاصة بإعلانات عن أطفال «باتوا ما أصبحوا»، وأخبار في الجرائد والمواقع عن بيدوفيليا مستفحلة، وتجارة جنسية رائجة ضحاياها الأطفال، واغتصاب القاصرات وتزويجهن قسرا.. والأنكى من هذا لامبالاة وإهمال هذه القضايا التي باتت تشكل ظاهرة اجتماعية خطيرة تكاد تكون مقتصرة على بلادنا دون البلدان الأخرى. لكن، لم باتت هذه الحوادث ظاهرة؟ ولماذا لا تثير الطفولة المخاوف في النفوس، كما قال المديني؟ وهؤلاء الأطفال المختفون الذين يعج بهم الفايسبوك هم، في النهاية، ضحايا من؟
إنهم ضحايا دولة وحكومة ومؤسسات رسمية لا ترعى الطفولة، مثلما تفعل البلدان المتقدمة التي وضعت قوانين متشددة في هذا الباب، وعينت لها أجهزة صارمة تحرص على احترامها وتطبيقها، مثلما هو الحال في «ماما فرنسا».. إنهم ضحايا نخبة سياسية لا تتبنى حقوق الطفل، أينما وجد، إلا شعارات صورية وقوانين تبقى حبرا على ورق -كما هو حال باقي القوانين طبعا- لا لغرض حماية الصغار فعلا، أو ضمان حقوقهم الأساسية.. وإنما للتخفيف من النقد الخارجي، أو اللجوء إليها في حالات «التوظيف السياسي» أو «الانتقام» من الخصوم السياسيين، الخ. هكذا، تحولت ترسانة القوانين والمراسيم، مع مرور الوقت، إلى مجرد «موضة» يتباهى بها الوزراء والبرلمانيون في المحافل (سوف لن نُفاجأ إذا خرج علينا الوزير الأول أو وزير حقوق الإنسان، هذه الأيام، وقال لنا إن المغرب «متقدم جدا» في مجال احترام الإنسان).
وهم أيضا ضحايا مدرسة عاجزة عن فعل فعلها في العقول، ولعب دورها التربوي التنويري القادر على بناء مجتمع سوي.. مدرسة عقيمة ومعاقة بسبب السياسات المبيتة ضدها منذ عقود، تلك التي ترفض أن تجعل من الأخلاق مناط دروسها، ولا من القيم عماد سيرورتها التعليمية، ولا من الوطنية والمواطنة قوام فلسفتها، ولا من الأنوار والتثوير فحوى بيداغوجيتها، ولا من الإنسانية غاية وجودها... إذ باتت المدرسة تتخذ اليوم، عند التلميذ، شكل عقاب يومي متكرر، لذلك تجده ينفر منها، ولا يبالي بدروسها، ولا بنصائح معلميها. وهذا ما يفسر ظاهرة الهدر المدرسي، وارتفاع نسبة مغادرة المدرسة في سن مبكرة، وغيرها من الظواهر المعبرة عن عبث سياسات التربية والتكوين في المغرب الراهن.
وإذا كانت الدولة وأجهزتها لا تبالي، منذ سنين، بتطبيق القوانين، وإذا كانت غايات المدرسة لا تتحقق، فلا شك أن المجتمع لن يكون استثناء يحيد عن القاعدة العامة، لأنه سيكون نتاج سلبياتها التي لا حصر لها. إن عقودا طويلة من التطبيع مع الفساد والإخلال بالقوانين، ونحوها أيضا من سياسات التضبيع والتجهيل -على حد تعبير الراحل محمد جسوس- لن تفرز سوى وحوش بمقدورها أن تمارس جريمة الاغتصاب بدم بارد.. والأنكى من هذا أن تفرز مجتمعا لا تثير فيه هذه الجريمة أي غضب، ولا ينتفض ضد دعارة الأطفال، ولا يرفض غصب القاصرات من طفولتهن البريئة وتزويجهن قبل أن يصبحن قادرات على ذلك، ولا يتألم لهتك عرض... والذين يسقطون ضحايا لهذا التجاهل العام السائد في المجتمع هم أضعف كائناته: الأطفال بالدرجة الأولى، والنساء بالدرجة الثانية.
وهم أخيرا ضحايا وسط أسري وعائلي يكاد يكون فاقدا لحس المسؤولية ولأسس التربية، والحرص على الأبناء والاهتمام بهم والانتباه إليهم في كل ساعة وحين، وغير منتبه إلى الذئاب المتربصة بهم، وغير عارف بما يلبي الحاجات التي تحقق نمو الطفل نموا جسديا ونفسيا واجتماعيا مكتملا. قد تكون هذه الأمور ناتجة عن التحول العام الذي تعيشه الأسرة المغربية منذ بضعة عقود، بانتقالها من الأسرة الكبيرة التي كان يحظى فيها الطفل برعاية أطراف عديدة (الأب والأم والجد والجدة، وربما الخال والعم والجار، الخ.)، إلى الأسرة النووية المتشظية بفعل عوامل كثيرة (مادية واجتماعية وثقافية وسياسية) جعلت الأب والأم يهتمان بالدخل أكثر، ويضعان أبناءهما في عهدة آخرين (مربية، حاضنة، جيران، مدرسة خاصة...)، ولا يتعهدان أولادهما، ولا يصونانهم، ولا يتفقدان أحوالهم إلا لماما.
لا تسائل هذه المسؤوليات المؤسسات والأشخاص فحسب، بل تطرح علامات استفسار كثيرة حول قيم المجتمع المغربي وأفكاره وتصوراته وآرائه وتمثلاته لما ينبغي أن تكون عليه الطفولة. شخصيا، أتساءل: أليست الغلمنة واشتهاء الصبيان والصبايا «ثقافة» متجذرة في هذا المجتمع المثقل بإرث الماضي؛ «ثقافة» تحتفي بها الأشعار والمتون الفقهية والطرائف والنوادر وغيرها؟ ألا تزخر النكتة المغربية اليوم بطرائف «الغلمان» وتحتفي ب«الممارسات الجنسية الشاذة» على الأطفال؟ ويمكن أن نطرح أسئلة مغايرة من قبيل: لِمَ لَمْ تعد الخطابات الدينية والأخلاقية -الكثيرة في أيامنا هذه- تؤثر في النفوس والعقول؟ ولماذا لم ينجح الفكر الحداثي، حتى الآن، في إحداث التغيير المنتظر، وإعلان الثورة على هذه «الثقافة» الغلمانية المتوارثة؟ ولِم لم ينجح شعار «ما تقيسش ولدي» في تحقيق غايته؟ ولم فشلت جمعيات الطفولة في نشر ثقافة رعاية الصغار، وبث الوعي بضرورة احترام حقوقهم؟
ما لم نجب عن هذه الأسئلة وغيرها، سنظل نضرب المواعيد مع مآسي الطفولة، ونواصل مرثياتنا الافتراضية ونواحنا الفايسبوكي؛ هذا إن لم نطبع معها، فنكف حينها عن البكاء والرثاء، وندفن ما تبقى من إنسانيتنا إلى الأبد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.