ملف الزميل علي أنوزلا، المفتوح لدى الفرقة الوطنية للشرطة القضائية في المعاريف، يضعنا جميعا أمام اختبارات قاسية، ويسائل حسَّنا الأخلاقي والسياسي والقانوني والمهني. وزير العدل والحريات، مصطفى الرميد، يقف في مقدمة الصف الذي ينتظر الاختبار. إن المداد الذي كتبت بحبره توصيات ميثاق إصلاح العدالة لم يجف بعد، لهذا، التأني مطلوب قبل توجيه الاتهام إلى الزميل الموضوع رهن الحراسة النظرية، ثم التفكير مليا قبل استعمال قانون الإرهاب الذي كانت للسيد مصطفى الرميد عشرات التحفظات عليه أيام كان في المعارضة صوتا حقوقيا مزعجا لمراكز السلطة والنفوذ، التي وضعت هذا القانون الاستثنائي في ظروف استثنائية. الإشادة بالإرهاب جملة فضفاضة جداً، وتتسع للكثير الكثير من التجاوزات. إذا اعتبرنا نشر رابط لفيديو القاعدة كان خطأ مهنيا من قبل هيئة تحرير موقع «لكم»، فإن الأمر لا يصل أبدا إلى درجة اتهام علي أنوزلا بالإشادة بالإرهاب أو ترويجه أو التواطؤ مع أصحابه. النص الذي كتب من قبل الموقع المذكور كتقديم للفيديو لا يترك مجالا للشك في أن صاحبه ترك مسافة معقولة بين عرض الشريط من باب الإخبار، وبين الإشادة به، أو الإعجاب بمضمونه. نص التقديم تحدث عن الطابع الدعائي للشريط، ونعت قتلى الإرهاب بالضحايا، ولم يعمد إلى نسخ الفيديو ووضعه في «سيرفور» الموقع، وكلها قرائن على غياب القصد الجرمي لدى المشتبه فيه، علاوة على أن الزميل أنوزلا، ومهما اختلفنا معه في نبرة نقد السلطة، وطريقة تناول بعض الموضوعات الحساسة، فإنه صحافي معروف بتوجهه الليبرالي البعيد عن التطرف الديني أو الانتماء الأصولي. لقد صبرت السلطات لسنوات على القلم الحاد لعلي أنوزلا، وهذا ما كان يحسب لها، ويراه كثيرون علامة قوة لا ضعف، ومؤشرا على اتساع مساحة حرية النشر والتعبير حتى نقاط تماسها البعيدة، والآن نتمنى ألا يكون صدر السلطة قد ضاق بالنقد الحاد، أو أن هناك نية لتصفية حسابات متأخرة على مشجب هذا الملف. الرميد أمام اختبار أن يتصرف كقانوني لا كسياسي، كان دائماً منحازا إلى محاكمة الصحافيين بقانون النشر لا بالقانون الجنائي، بلْهَ قانون الإرهاب، وأنا مازلت أتذكر مرافعاته القيمة عن كاتب هذه السطور، إلى جانب عدد من أفضل المحامين في البلد، عندما كان يتابع في قضية الكاريكاتير بالقانون الجنائي عوض قانون الصحافة. سيقول قائل إن النيابة العامة سلطة اتهام وليست سلطة حكم، وإن القاضي هو من سيقرر في نوع القانون الواجب التطبيق في النازلة، وأرد سريعا بأن هذا كلام صحيح، لكن في سويسرا وليس في المغرب. قضاة الحكم عندنا لا يردون طلبا للنيابة العامة، خاصة في الملفات الحساسة مثل هذه، لهذا فإن النيابة العامة مطالبة بالتحري، واستعمال ميزان الذهب قبل أن تضع رجلها في هذا الملف. فالجميع يراقب في الداخل والخارج سلوك وزارة العدل ومن خلفها الحكومة والحكم. قبيلة الصحافيين ثاني طرف يقف في صف الامتحان، هل سنرقى إلى مستوى إطلاق نقاش مهني وأخلاقي عميق، حول مدونة سلوك للنشر، تحدد بدقة أين تبتدئ الحرية وأين تقف حدود المسؤولية، أم إننا سنتوزع إلى فريقين؛ واحد يشنق أنوزلا، حتى قبل أن ينطق القضاء بكلمته، وفريق يدافع عنه بدون قيد أو شرط، من باب: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. في الصحافة لا توجد قائمة حصرية مثل تلك التي توجد على مدخل المطارات، بين المسموح بحمله إلى الطائرة وغير المسموح به. في الصحافة الأمور أعقد من هذا التبسيط، وهناك عدة اجتهادات في طريقة التعامل مع قضايا الإرهاب والعنف والحرب في الإعلام. هناك مدرسة الاحتياط التي تغلب المقاربة البيداغوجية في عملها، والتي تقول إن الصحافة، وهي تخبر بقضايا الإرهاب والعنف والحروب والنزاعات، عليها أن تنتبه إلى مخاطر الانزلاق إلى ترويج قيم العنف والكراهية حتى دون قصد، خصوصا لدى الصغار وضعيفي العقول. وهناك مدرسة متحررة ترى أن وظيفة الإخبار مقدمة على ما سواها، وأن الصحافي ينقل ما يجري ولا يخترعه، وأنه مرآة تعكس ما هو موجود في الواقع، وليس مدرسة للخوف على مشاعر الجمهور، وأن تربية الناس ليست وظيفة الصحافة الأولى، وأن العنف والكراهية، عندما ننقلهما كما هما بدون رتوش، فإننا ندينهما لأنهما قبيحان مستهجنان بالطبيعة والفطرة. طبعا هناك عشرات الطرق لنقل أخبار الإرهاب دون الإشادة به، ودون ترويجه، لكن هذا نقاش مهني بين أهل الاختصاص، وليس فيه قول فصل، ومكانه هو المجلس الوطني للصحافة الذي لم يكتب له الظهور بعد، وليس مكاتب عبد الحق الخيام وقاعات المحكمة. هناك طرف رسب في هذا الامتحان حتى قبل أن ينطلق. أنه الأحزاب الثلاثة (الاستقلال، الأحرار والحركة الشعبية) التي أصدرت بلاغات تدين علي أنوزلا قبل أن تنتهي الشرطة القضائية من الاستماع إليه، وهذا خرق فاضح لشروط المحاكمة العادلة، وسلوك ينم عن نزعة لتسييس ملف قضائي يمنع القانون الصحافة من الاقتراب منه، فما بالك بترامي الأحزاب عليه مكشرة عن أنيابها علها تظفر بقطعة لحم من صحافي يقف أعزل أمام القضاء. شباط، الزعيم الاستقلالي الذي يرأس حزبا ليبراليا، يا حسرة، أخرج سكينه على طريقة «الفتوة» في حارات نجيب محفوظ، وبدأ يغرزه في ظهر صحافي إلى الآن هو بريء مما ينسب إليه، إلى أن تنطق المحكمة بحكمها. العقل صار عملة نادرة في هذه المملكة السعيدة، والمؤسف أن الكثيرين زاهدون فيه لأن الغرائز لا تترك مكانا للحكمة. وقديما قال الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكنَّ أخلاق الرجال تضيقُ