كثيرا ما يسلك الساعي في نسف ما يعادي مسلك الاقتضاب المخل بسياق النص ، أو المشهد الذي يستشهد به ، فيقتطع منه ما يسعفه في تسويغ تمحله ، وليس ذلك لأن الشطر المقتضب يحتمل التسويغ ، ولكن اقتناصا لبعض القناعات لدى بعض المتلقين المؤهلين – وَفقا ، أو سوقا – لتشييع حملات الصد عن سبيل الله . وليست تلك القناعات سوى شبهات ؛ يلقيها أصحاب تلك الحملات في أوقات مقصودة ، وبجرعات محسوبة ؛ على مذهب اللاغين في القرآن بصخب حائل بينه وبين الأسماع ؛ لاستيقانهم أنه إذا خلا بها أرضاها بما فيه من الخير الصرف ، والهدى الصريح . لذا فإن حق كل نص أن يفهم داخل سياقه ، وفاصله عنه كالزائد فيه زيادة تعطل معناه ، وتقلب مقصده ، ولقد آثرت في هذه المقالة رد عبارة ( أسلم تسلم ) إلى أصل سياقها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؛ تبصيرا للناس ، وكشفا لكثير من التهافت المُردي لعصيد وأضرابه . ولم أعد في كل ما سقت من كلام غيري غير صحيح البخاري ، وشرحه فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى هرقل : ( من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم . سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدِعاية الإسلام ؛ أسلم تَسلمْ ؛ يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين و( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا . ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) . ففي قوله صلى الله عليه وسلم لهرقل ( أسلم تسلم ) : 1 - غاية الإنصاف ، ومسلك راق جدا في الحوار ، إذ لو أراد تهديده أو إرهابه لما قدم بين يدي دعوته إياه إشعارا ؛ يبين له فيه ما له ، وما عليه من حقوق الإسلام ، ولفاجأه بغزو ، أو غدر . 2 – ثم أشعره بقوله ( فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين ) بما ينصف شعبه ، وأن لهم حقا في الإسلام قد يحول بينهم وبينه ضعفهم ، وخوفهم من سطوة هرقل إذا لم يسلم ، فكأنه قال له ( فإن لم تسلم فلا تحل بين أهل مملكتك وبين الإسلام ) . 3 - وأدخله في قوله تعالى ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا . ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) ؛ وهو تقدير لمحله من جهة ، وبيان للحنيفية السمحة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وقامت عليها دعوة الإسلام ، فانظر إلى قوله تعالى ( تعالوا ) المشتمل على اللطف في دعوة المخالف ، ومناداته بما ينافي نهج الازدراء والإقصاء . 4 - ولو كان في قوله صلى الله عليه وسلم لهرقل ( أسلم تسلم ) إرهاب لفطن إليه هرقل نفسه ، لا سيما وأن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه وافق من بطانته إعراضا وإضرابا ، ووافق منه حرصا على إرضائهم كما سيأتي ، فما كان أحوج هرقل إلى شبهة تخلصه من حرج مداراتهم ، ولو أمكنه استخراجها ، أو بعضها من ( أسلم تسلم ) - ولو تكلفا – لفعل . كيف وقد جمع عظماء الروم ، ثم اطلع وقال : ( يا معشر الروم ؛ هل لكم في الفلاح والرشد ، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي ؟ ) . فحاصوا حيْصة حمر الوحش إلى الأبواب ، فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل نفرتهم ، وأيس من الإيمان قال : ( ردوهم علي ) ، وقال : ( إني قلت مقالتي آنفا ؛ أختبر بها شدتكم على دينكم ، فقد رأيت ) ، فسجدوا له ، ورضوا عنه . 5 - ولو أمكن هرقل استخراج شبهة إرهاب ، أو تهديد من ( أسلم تسلم ) لتراجع - بعد قراءة كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه - عن قوله لأبي سفيان رضي الله عنه : ( وقد كنت أعلم أنه خارج ؛ لم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلُص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ) . وقد كانت الفرصة مواتية يومئذ لتراجع هرقل ، لأن أبا سفيان لم يسلم حينئذ بعد ، وكان هرقل قد دعاه خلال مدة صلح الحديبية التي مادّ خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ، فلما سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( هل يغدر ) ، قال أبو سفيان : ( لا ، ونحن منه في مدة ؛ لا ندري ما هو فاعل فيها ، قال : ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه ) . فقد كان يتمنى لو أن هرقل أسعفه بمدد عسكري تستعين به قريش على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو استشعر في ( أسلم تسلم ) إرهابا لاتخذ لقاءه بأبي سفيان فرصة لإقامة حلف عسكري ؛ يحيل جوابه على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم زحفا حربيا مباشرا . كما أن قول هرقل ( لتجمشت لقاءه ) صريح في حسن استجابته ، وأن ( أسلم تسلم ) كانت على قلبه بردا وسلاما ، ووافقت من نفسه يمنا ووئاما . كما أن قوله ( لغسلت عن قدميه ) دليل على غاية انصياعه ، وأنه لا يبغي – إن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم – رئاسة ، ولا زعامة ، وإنما يبغي نيل بركته ، والقيام بخدمته . وانصياع ذي السلطان ل ( أسلم تسلم ) ليس كانصياع المملوك ، لأن ذا السلطان أحرص على سلطانه ، فكيف تحمله ( أسلم تسلم ) على هذا النزول غير المشروط عن عرش الملك لأجل الدخول غير المشروط في وظيفة المملوك ؟؟؟ . لذا قال – كما في رواية ابن إسحاق - : ( ويحك ، والله إني لأعلم أنه نبي مرسل ، ولكني أخاف الروم على نفسي ، ولولا ذلك لاتبعته ) . قال الحافظ ابن حجر : ( لكن لو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي أرسل إليه « أسلم تسلم » ، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم لو أسلم من كل ما يخافه ، ولكن التوفيق بيد الله ) فتح الباري 1 / 37 . 6 - ثم تأمل حال بطانته بعد أن فرغ من قراءة الكتاب حيث ( كثر عنده الصخب ، وارتفعت الأصوات ... ) لتعلم نفاذ دعوة الإسلام ، وأنه لن يزال لمناوئيها ضدها صخب وشغب ؛ لا يزيدهم إلا ضمورا ، ولا يزيدها إلا ظهورا ، وأما عصيد فلو روجع الشعب المغربي فيما اجترأ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت قرابته ، وعامة عشيرته أول المستنكرين ، لأن ركن الثوابت الأعظم لدى المغاربة قاطبة – في أول مقام ، ومنذ أن أنعم الله عليهم بالإسلام – صيانة حق الله تعالى ، وحق رسوله صلى الله عليه وسلم ، مما يدل على أن جريرته من الخطورة بحيث لا يجوز السكوت عنها بوجه . وصلى الله على سينا محمد وآله وصحبه وسلم .