توطئة: عرفت منطقة الريف على الصعيد الثقافي مجموعة من المراحل، من بينها: مرحلة هيمنة الثقافة الاستعمارية من 1912إلى 1956م، ومرحلة التهميش في سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي، ومرحلة الانطلاقة الثقافية الأولى في سنوات السبعين ، ومرحلة الركود في سنوات الثمانين، ومرحلة الانطلاقة الثقافية الثانية في سنوات التسعين، ومرحلة البناء الثقافي في العقد الأول من الألفية الثالثة مع بناء المركبات الثقافية بالناظور والحسيمة ، ومرحلة النضج والازدهار في سنوات العقد الثاني من الألفية نفسها . ومن ثم، ترتبط منطقة الريف خصوصا بالثقافة الأمازيغية التي تجسدت في الآداب والفنون والمعارف، وقد انتعشت هذه الثقافة بفعل الحركة الديناميكية للجمعيات والأحزاب السياسية الأمازيغية التي دافعت، ومازالت تدافع عن تنمية الثقافة المحلية ، وتسعى جاهدة إلى دسترة اللسان الأمازيغي تفعيلا وتثبيتا وتعميما. كما تكرس كل جهودها لخدمة التنمية المحلية والهوية والكينونة الأمازيغية. ومن الطبيعي، أن تعبر هذه الثقافة عن تطلعات هذه الحركات السياسية والجمعوية، وتتعاطى مع واقع الريف عبر رؤية هوياتية محلية ، سواء أكانت ضيقة أم منفتحة. ومن ثم، فقد تحقق إنتاج زاخر في الثقافة الأمازيغية نقدا، وإبداعا، ومسرحا، وقصة، ورواية، وسينما، وتشكيلا ، ونحتا. كما تحقق الشيء نفسه على صعيد الثقافة العربية. إذاً، ماهي أهم المراحل التي عرفتها الحركة الثقافية في منطقة الريف؟ وما هي أهم خصائصها على الصعيد الفكري والأدبي والفني والمؤسساتي؟ هذا ما سوف نرصده في موضوعنا هذا. @ مراحل الحركة الثقافية بمنطقة الريف: عرفت الحركة الثقافية بمنطقة الريف مجموعة من المراحل المتعاقبة والمتوالية التي يمكن حصرها في ما يلي: u مرحلة هيمنة الثقافة الأيبيرية: يذهب كثير من المغاربة إلى أن إسبانيا لم تخدم المغرب حضاريا وثقافيا وماديا، منذ استعمارها للمنطقة الشمالية سنة 1912م حتى انسحابها منها سنة 1956م؛ لأنها لم تترك بنية تحتية ملائمة في هذه المنطقة، مقارنة بفرنسا التي مازالت بصماتها المادية والعمرانية خالدة وشاهدة على حضارة فرنسا الزاهية. إلا أن هذا الحكم ليس صحيحا بشكل مطلق؛ فلإسبانيا أيادي بيضاء على منطقة الريف في بعض المجالات الثقافية ، خاصة: المسرح والتشكيل والصحافة ، دون أن ننسى الميادين العلمية الأخرى، مثل: اللسانيات، والأدب، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والأنتروبولوجيا، والتوثيق الببليوغرافي، والأرشفة المكتبية، وبناء المدارس والمعاهد التربوية لنشر اللغة الإسبانية والثقافة الإيبيرية. بيد أن ما يلاحظ على هذه الثقافة أنها ثقافة كولونيالية واستمزاغية لم تخدم سوى الأطر العسكرية والإدارية الإسبانية المتواجدة في هذه المنطقة من مليلية حتى العرائش . ويعني هذا أن المستعمر الإسباني هو الذي استفاد من ثمار هذه الثقافة وفوائدها المادية والمعنوية. في حين، كان المواطن الريفي يقاوم العدو المحتل من جهة، ويتصارع مع الفقر والجوع وقسوة الحياة من جهة أخرى. ومن ثم، لم تكن الثقافة حاضرة بشكل من الأشكال في تقديره أو حسبانه ، ناهيك عن انتشار الجهل والأمية والأوبئة في تلك الفترة بين صفوف الريفيين بدرجة كبيرة جدا. v مرحلة التهميش بعد فترة الاستقلال: عرفت الحركة الثقافية في منطقة الريف نوعا من النسيان و التهميش والانكماش مع سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي.أي: بعد فترة الاستقلال مباشرة. فقد كانت الثقافة في منطقة الريف مغيبة لأسباب سياسية وعسكرية. وفي هذه المرحلة بالذات، ظهر ما يسمى بالعنف العسكري، فاندلعت حروب أهلية قادتها السلطة الحاكمة ضد المقاومين الريفيين الذين رفضوا ترك أسلحتهم، مادام المغرب – حسب اعتقادهم- لم يستقل بعد استقلالا حقيقيا. ولما توقفت هذه الحرب الدامية، بعد اشتعال أوارها في أواخر سنوات الخمسين، هُجر أغلب أبناء منطقة الريف إلى الضفة الأخرى، ليكونوا أداة لإعادة إعمار أوروبا مقابل لقمة الخبز. وبالتالي، أقبر الفعل الثقافي في منطقة الريف قاطبة. وعلى الرغم من ذلك، كان هناك نشاط فني في مجال الموسيقى والغناء، فظهرت كثير من الأصوات الغنائية الأمازيغية بمنطقة الريف، نذكر منها: أحمد البغدادي المعروف بالشيخ شعطوف ، وميمونت سلوان، والشريف القادري، والمغني موذروس، والمغنية يامنة الخمارية، وحميد التمسماني، وثرايثماس، وفاظمة العباس، وفتيات ثيزي واسلي، وفريد الناظوري، ومحمد الناظوري، وميمون أنقايطي، وفريدة الحسيمية، وميلودة الحسيمية… w مرحلة الانطلاقة الثقافية الأولى: عرفت منطقة الريف حركة ثقافية مزدهرة منذ السنوات الأخيرة من عقد السبعين من القرن العشرين، سيما الثقافة الأمازيغية منها، مع ظهور ( جمعية الانطلاقة الثقافية) بالناظور التي أعطت اهتماما كبيرا للإبداع الأمازيغي الريفي، مع تحريك الساحة الثقافية المحلية بفضل مجموعة من الأطر الجامعية التي تخرجت من جامعات الوطن وخارجه ، مثل: قاضي قدور، ومارزوق الورياشي، ومحمد الشامي، وحسين القمري، وعبد الله شريق، ومحمد أقضاض… ، وإن كانت أهداف هذه الجمعية قد غلفت بمنظورات سياسية مختلفة، وبتوجهات حزبية يسارية ( حزب التقدم والاشتراكية، وحزب الاتحاد الاشتراكي…). هذا، وقد حرصت الجمعية على خدمة المواطن الريفي، وإنقاذ مدينة الناظور من براثن التخلف والجهل والتسيب واللامبالاة والتهميش على جميع المستويات والأصعدة. وعليه، ف(جمعية الانطلاقة الثقافية ) هي أول جمعية ثقافية وسياسية تأسست في منطقة الريف في أواخر شهر يناير من سنة 1978م. وينضاف إلى ذلك، أن هذه الجمعية قد سطرت هدفا أساسيا، يتمثل في تحقيق التنمية الثقافية الشاملة في مدينة الناظور التي بدأت تعرف توسعا ديمغرافيا واقتصاديا، وغدت تعج بالشباب المتعطش إلى الارتواء من الفعل الثقافي الملتزم والعضوي. وفي هذه المرحلة بالذات، انتعش المسرح العربي والأمازيغي على حد سواء، وظهرت الفرق الموسيقية الملتزمة ، مثل: فرقة (إصفظاون) ، وفرقة (إيني أومازيغ)، وفرقة (بنعمان)، وفرقة (إيثران)، وفرقة (رفروع)، وفرقة (إيريزام) بإقليم الناظور، وفرقة (إثري نمريتش) بمدينة مليلية المحتلة… x مرحلة الركود الثقافي: سرعان ما خبا أوار شعلة الحركة الثقافية في منطقة الريف في سنوات الثمانين من القرن الماضي، بعد أن انطلق توهجها وإشعاعها في سنوات السبعين مع (جمعية الانطلاقة الثقافية ). وكانت أسباب هذا الركود الثقافي سياسية محضة، خاصة بعد اندلاع إضرابات 1984م التي أودت بالكثير من الأبرياء الريفيين ظلما وقهرا وعسفا. بيد أن السبب الحقيقي وراء تلك المظاهرات هو غلاء الأسعار، وارتفاع تكاليف المعيشة في منطقة الريف، وانتشار البطالة بين المواطنين وخريجي الجامعات المغربية والأجنبية. لكن السلطة المخزنية أمنا وعسكرا تصدت لها بقمع عنيف وصرامة شديدة. وقد ترتب على ذلك أن منعت السلطات المخزنية جميع الأنشطة الثقافية في هذه المنطقة، واعتقلت كل من سولت له نفسه أن يوظف الفن لأهداف سياسية ، أو يحتج أو يتمرد ثقافيا عن سلطة الدولة. y مرحلة الانطلاقة الثقافية الثانية: لقد انطلقت الحركة الثقافية في منطقة الريف مرة ثانية في سنوات التسعين، سيما مع إعلان دستوري 1992 و1996م المعدلين، وانطلاق مسلسل الإصلاحات السياسية والحقوقية، وتوقيع المغرب على الكثير من المواثيق الدولية حول حقوق الإنسان وحرياته الخاصة والعامة. فانطلق الفعل الثقافي في منطقة الريف بتقديم مجموعة من المسرحيات السياسية والاجتماعية مع فؤاد أزروال، ونعمان أوراغ، وفاروق أزنابط، وفخر الدين العمراني، والحسين القمري… كما انتعش الغناء والموسيقى والرقص الفلكلوري على حد سواء. وفي الوقت نفسه، ظهرت مجموعة من الجمعيات الثقافية ، أبرزها جمعية (إلماس الثقافية ) التي كان يترأسها محمد الشامي، و(فرع اتحاد كتاب المغرب) الذي كان يشرف عليه الثالوث الناظوري: حسين القمري، ومحمد أقضاض، وعبد الله شريق. ومن جهة أخرى، انتعشت الحركة الإعلامية في المنطقة بظهور مجموعة من الجرائد والصحف والمجلات الثقافية المتنوعة. z مرحلة البناء الثقافي: لا يمكن الحديث عن مرحلة البناء الثقافي إلا بعد تشييد مجموعة من المركبات الثقافية في منطقة الريف، خاصة في الناظور والحسيمة. وقد ساهمت مجموعة من المؤسسات الرسمية في تحريك النشاط الثقافي وتفعيله في منطقة الريف ، وأخص بالذكر: وزارة الثقافة التي أقامت مهرجانات وملتقيات ثقافية عدة من خلال دعمها ماديا وماليا ومعنويا، وتسهيل إقامة الأنشطة داخل قاعاتها ومركباتها، مثلما هو الشأن بالنسبة للمركب الثقافي بالناظور والحسيمة. علاوة على إسهامات وزارة الشبيبة والرياضة التي نشطت مجموعة من التظاهرات الثقافية، مثل: مسرح الشباب، والجامعات الشعبية، وزمن الكتاب، والمقهى الأدبي. كما كانت للمجالس البلدية والإقليمية والجماعية أدوار هامة في تحريك الفعل الثقافي في منطقة الريف، وإن لم يرق ذلك إلى المستوى المطلوب. ومن ناحية أخرى، ساهمت بعض المؤسسات الخاصة في إغناء الفعل الثقافي في المنطقة كالمؤسسات البنكية، مثل: بنك المغرب، والبنك الشعبي، وبنك المغربي للتجارة الخارجية….كما ساهمت وكالة الجهة الشرقية في تفعيل الحراك الثقافي في هذه المنطقة بالدعم المادي والمالي والمعنوي… ويبقى مجهود وزارة الثقافة كبيرا جدا؛ بسبب انخراطها بشكل كلي في إثراء الشأن الثقافي في منطقة الريف حتى أخمص القدمين. ومن جهة أخرى، فقد امتد النشاط الثقافي الأمازيغي الريفي جمعويا ومؤسساتيا إلى مدن أخرى، حيث توجد الساكنة الناطقة بالريفية، مثل: مدينة تطوان، وشفشاون، وطنجة، والعرائش، ومليلية، وسبتة، وتازة. { مرحلة النضج والازدهار الثقافي: تتزامن مرحلة النضج والازدهار الثقافي في منطقة الريف مع بداية العقد الثاني من سنوات الألفية الثالثة.أي: مع تعيين المندوب الجديد (حفيظ بدري)، بعد المندوب السابق (لحسن الشرفي) الذي كانت مرحلته مرحلة بناء وتوطئة. ومن ثم، لم تعرف الثقافة انتعاشها الملحوظ في منطقة الريف إلا مع الفنان والمبدع (حفيظ بدري) الذي شهدت فترته زخما كبيرا من المهرجانات والملتقيات والندوات والمؤتمرات المحلية والجهوية والوطنية والدولية، منها: المهرجان العربي للقصة القصيرة جدا، والمهرجان المتوسطي، ومهرجان مسرح الطفل لحركة الطفولة الشعبية، ومهرجان الأيام المسرحية، ومهرجان الشعر الأمازيغي، ومهرجان السينما الدولي، بله عن العديد من الأنشطة الثقافية والأدبية والفنية والورشات التكوينية والمعارض التشكيلية التي لا يمكن عدها وحصرها ، إلى أن أصبحت مدينة الناظور مركزا ثقافيا وطنيا لا يستهان به ، بل أصبحت المنطقة عاصمة للقصة القصيرة جدا ، ومقرا دائما للرابطة العربية للقصة القصيرة جدا، وقبلة فنية لمسرح الطفل، وذاكرة تاريخية للسينما، وعاصمة للمسرح الأمازيغي، ومدرسة نقدية متميزة في المغرب والوطن العربي مع كل من: جميل حمداوي، ونجيب العوفي، وعبد الله شريق، ومحمد أقضاض، وبشير القمري، وأحمد أعراب الطريسي، ومحمد الولي، وفريد أمعظشو، وجمال الدين الخضيري، وميمون حرش، وعيسى الدودي، ونور الدين الفيلالي، وعلي الصديقي، ونور الدين أعراب الطريسي، وأحمد الكبداني، وأمحمد أمحور، وحسن بنعقية… خاتمة: وخلاصة القول، تلكم هي أهم مراحل تطور الحركة الثقافية في منطقة الريف، و تتمثل في مرحلة هيمنة الثقافة الأيبيرية إبان عهد الحماية، ومرحلة التهميش بعد سنوات الاستقلال، ومرحلة الانطلاقة الثقافية الأولى في سنوات السبعين من القرن العشرين، ومرحلة الركود في سنوات الثمانين، ومرحلة الانطلاقة الثقافية الثانية في سنوات التسعين، ومرحلة البناء الثقافي في سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة، ومرحلة النضج والازدهار والانتعاش الثقافي في سنوات العقد الثاني من الألفية الثالثة. وتلكم كذلك أهم السياقات المرجعية التي أفرزت هذه الحركة الثقافية النشيطة التي انطلقت فعليا منذ السبعينيات من القرن العشرين، لتعرف أوجها ونضجها وازدهارها مع سنوات الألفية الثالثة . إلا أن ما يميز الثقافة في منطقة الريف هو التنوع والازدواجية اللغوية التي تتمثل في توظيف اللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية ، مع الانفتاح على حضارات ولغات تواصلية وتجارب ثقافية إنسانية أخرى . وعليه، فلقد تطورت منطقة الريف كثيرا منذ سنوات الألفية الثالثة على جميع المستويات والأصعدة ، سيما الأدبية والفنية والثقافية منها. ومن ثم، فقد خرجت المنطقة الآن من عزلتها الخانقة، لتدخل غمار الإنتاج والإبداع، والمساهمة بكل جدية في تحريك المشهد الثقافي المغربي المتنوع نحو آفاق تنموية واسعة ورحبة، بغية جعل المغرب فضاء ثقافيا متميزا، قوامه الحداثة والتقدم والازدهار والانفتاح.