نعيق البوم عمّ الحدائق ، او حين تُغتصب المساحات الخضراء بالمدينة هي شجيرات يتيمة تحتضنها بعض اطراف المدينة . وعشب أخضر قليل ، يلفظ أنفاسه الاخيرة .. في انتظار صفقات السماسرة المشبوهة.. مشاهد تذكّر بأماكن أخرى كثيرة سبق وأن شهدت صفقات مشابهة مشبوهة.. قبالة سينما فيكتوريا .. المركب التجاري ، أحياء تاويمة والمطار واللائحة ..طبعا ، طويلة..! مدينة تعرت من كل شيء...ضائعة تبحث في المزابل عن نقطة اخضرار واحدة ، عن ضوء غائب ، مات ذات خميس اسود فوق جثث اهلها. مكبلة ، يبصق في عيونها المقدم و الشرطي و ‘المخازني' وكل قُواد المدينة. اهلها اليوم ، أراهم يترحّمون على شجر كان يربو على اماكن ما في المدينة ، وعلى هواء نظيف أصبح اليوم وكأنه ‘رفاهية' . نعم .. أعترف امام الملأ ، وامام زملائي ورفاقي و كل أصدقائي أن مدينتي لم تكن يوما أجمل مدن البلاد ، لكنها كانت أكثرهن نخوة و تأنقا ، كانت كفراشة تسير على الارض ونظرها معلق بالسماء، متصل بأحلام وردية. اليوم وقد تعرت المدينة.. رأيت في عيونها الحزينة صور السماسرة وقطاع الارزاق والصوص .. رأيت في عيونها المشانق تنصب بدل الازهار والورود . رأيت في عيونها أسلاك وإسمنت وحزن وضياع ودخان المزابل بدل هواء نقي وساحات خضراء .. رأيت في عيونها الحدائق العمومية تتحول الى حدائق رماد غارقة في الاسفلت جراء زحف ‘العمران' والاسواق غير المدروس ، والتهام الاسمنت لكل المساحات الخضراء .. وأما ما تبقى منها ، فبقى عرضة للإهمال ووكرا للمنحرفين والمدمنين ... وقُطاع الازقة و الشوارع والارزاق . زحفت الهوامش الى المدينة ، أغرت سماسرة المدينة كل المحرومين بشقق مكيفة رخيصة . فبصموا و دفعوا و سكنوا وأقاموا... ولكن ... كيف عاشوا وكيف استمروا ؟ . تكدّست الأجسام فوق الاجسام ، تراجعت البساتين والاشجار.. تراجعات غير منصفة ، بل وفاضحة لمصلحة الزحف "العمراني". وُقِّعت الصفقات ، وما بعدها كان أعظم في القضاء على ما بقي من مساحات خضراء ، هي الآن مساحات فارغة ، قاحلة طبعاً، لأن الشجر أُعدم منذ زمن. في شارع طنجة و حي الكندي و لعري الشيخ و ساحة سينما فيكتوريا و قبالة سوق المركب ... والأن الآن .. وكما الحديث وكل الحديث ، الساحة /"الحديقة" التي أرادوها سوقا..تلك الرابطة بمحاذاة المحطة الطرقية، مكان يعيش حالة كارثية منذ اربع سنوات وقت إنشائها ، بسبب الإهمال الذي أدى إلى تراكم القمامة..وسلوكات وأخرى يندى لها الجبين .باتت نقطة سوداء للمدينة وزوارها..والمحير في الامر أنها متاخمة لمركز الامن الوطني بالمدينة! هي فعلا ..حكايات تثير العجب والتعجب!!. في الناظور اليوم ، حكايات لم تعرفها المدينة وأهلها ابدا. لم يحصل أن روى أب لولد أو جدة لحفيد، أو معلم لتلميذ، قصة وأْد العشب والشجر.. لصالح الاسمنت والحجر ... أو حكاية حديقة أرادوها سوقاً !! لا حديث في المدينة اليوم سوى عن "سياسة تفريخ الأسواق"و بشكل عشوائي .. عبارات تتطاير من أفواه سكان وأهل المدينة وكل عابر سبيل تختصر الموقف كله : " السوق المدينة و المدينة السوق ". يُسأل المسؤول عن الامر .. يأتي الجواب منسجماً مع "التضخم السكاني والحاجة الى اسواق". نصرخ في وجه المسؤول ...هل التضخم السكاني يحتم فقط الاسواق ، دون المعاهد والمدارس و المعامل و دور الشباب. ؟ يتساءل زائر المدينة .. كيف يعيش هؤلاء الناس في ظل هذه الغابات من "البيطون" والاسفلت والمزابل ..؟ نطق المسؤول ثانية "ان المنطقة مصنّفة بكونها ذات طابع استثماري وليس ‘غابوي' " . آه..أما آن لك سيدي المسؤول ان تخجل قليلا وتغير الفعل والخطاب أو أن ترحل مع الظلام ... هل تستحق المدينة كل هذا الظلم، بأن يتولى مغرورون وانتهازيون مسؤوليتها.؟ ولكني أعود وأقول ، أن العيب كل العيب فينا نحن وليس فى الزمان ولا حتى فى المسؤول. نحن شياطين المدينة .. اوَليس الساكت عن الحق "شيطان اخرس". أين كنا ذلك المساء حين شاهدنا آخر عود ثقاب في المدينة ينطفيء ؟ أين كنا ذلك المساء حين نُصبت المشنقة و المقصلة في ساحة المدينة لإعدام المدينة ؟ أين كنا لحظة إعدام المدينة حين تقدّم ( مسؤولي المدينة ) ووضعوا رأسها تحت المقصلة ، وسألوها : هل هناك كلمة أخيرة تودّين قولها ؟ فقالت : أن ترحلوا مع الظلام .. أن ترحلوا.. اين كنا حين كانت تباع المساحات الخضراء للسماسرة وقواد المدينة ليشرع بعد ذلك في تحويلها لعمارات خاصة تحتها محلات تجارية أو صناعية ...أو حتى اسواق عشوائية او كاملة ؟. اين كنا حين صدر حكم الاعدام على المآثر التاريخية في المدينة والعديد من الفضاءات التي كان قد صممت في ماهيتها كحدائق خضراء للأحياء؟. اين كنا حين كانوا يقتسمون " المطار" ويبيعون كل المساحات المخصصة للحدائق قِطعا ارضية بتبييض الاموال و بناء العقارات والمقاهي الفارهة والعمارات...؟ فقط .. وقتذاك ، تساءلنا في صمت وخجل ومن بعييييد : ماذا يفعل هؤلاء ؟ وحين عانقت عمارات الشقق المجهزة المُقامة مكان المساحات الخضراء السحب في السماء ، تهامسنا كعاتنا ونحن نتنافس في التنظير والنقاشات الجوفاء في مقاهي المدينة واكتفينا فقط بالقول :" أه..هل يجوز أن يتكدّس الناس على بعضهم البعض ، في علب بعيدة عن المدينة ، تُشبه علب السردين، حيث لا مجال حتى للتفس عساك من استنشاق الهواء النقي ." بقينا لمدة نتفرج على عملية إبادة ممنهجة للإخضرار في المدينة ، واستباحة بيئتها ، وتغيير كل ملامحها ومعالمها . هي حقوقنا وحقوق المدينة ُسلبت ونحن بسكوتنا .. كنَّا ولا نزال "شياطين خرساء" . والان وقد أضحى حال المدينة يرثى له جراء الإهمال وعدم مراقبة المسؤولين وصمتنا وصمت الجمعيات وممثلي الأحياء . اصبح الامر واقعا...تحولت العديد من المساحات الخضراء الى عمارات واسواق والباقي الشاغر منها تحول إلى مفرغات عمومية للنفايات ، وأصبحنا في مدينتي نتحدث عن "المزابل المفتوحة على الهواء الطلق" !!! سؤال يطرق اليوم أبواب المواجع ..هل كنا فعلا ننتظر من مسؤولي المدينة و منتخبينا بل ومن الوزراء وكل كبار المسؤولين ان يفكروا لنا ويقرروا لصالحنا...؟ وآخر ما يفكر فيه المسؤول في المدينة والمنتخب هو الاعتناء بالبيئة والاهتمام بالمساحات الخضراء ولنا في الأوساخ والنفايات المنتشرة عبر شوارع وأحياء المدينة وزحف الأبنية والفيلات المشيدة بالاسمنت المسلح على الفضاءات الخضراء واكتساح الأسواق ... ما سألنا . وحتى الاماكن التي يسمونها عُنوةً ومجازاً "حدائق" يُخطط لها من قبل على ان تبقى جرداء قاحلة و مرتعاً للمتشردين والسكارى.. ليسهل بعد ذلك تحويلها الى عمارات وأسواق.. وطبعا ، بعد أن يقال أن الأضرار التي تلحق بها يتسبب فيها المواطن وبدرجة أقل المسؤولين قبل ان تُحول" بفعل فاعل مجهول" الى "مزابل فوضوية" جراء انتشار القمامات ومخلفات البناء وعلب "الفلاك سبيسيال و"هاينيكان" وزجاجات "الباستيس" و قارورات النبيذ.. وتتحول "الحدائق الصغيرة" في الاماكن البعيدة عن وسط المدينة من "مساحات خضراء غير محصية" إلى فضاءات لرمي بقايا البناء وبقايا اجزاء السيارات في حين يتم تسييج أخرى بدون ترخيص ولا وجه حق .. هذا كله في ظل غياب المراقبة الدورية وضعف تطبيق القوانين البيئية وبقاء عمل ونشاط بعض "الهيئات البلدية المعنية بالبيئة" محدودا في بعض الورشات داخل المدارس أو في تلك الأنشطة التي تنظم بمناسبة اليوم العالمي للبيئة وعيد الشجرة وبعض حملات التنظيف والتحسيس عبر الإعلام الرسمي .او...حين العِلم بزيارة ملك البلاد للمدينة. فيتم استقدام "حدائق وأشجار" قائمة ومتحركة من اماكن ومدن أخرى . لقضاء الغرض..وبعده تُعاد الى "مخازنها" في انتظار مناسبات أو زيارات أخرى .! علمونا بالامس في خطاباتهم أن الصدق هو العادة وأن الكذب هو الإستثناء، واليوم نرى مسؤوليي المدينة امامنا يؤكدون العكس تماما ..ان الكذب هو العادة والصدق هو الإستثناء. كما التاريخ الذي علمونا إياه مليء بالكذب وبالأخطاء . ألم يعلمونا في مدارسهم ، ان غرس الشجر من أعظم الأعمال ..؟ الم يعلمونا في جامعاتهم المحافظة على الأرض وزراعتها لأنها ثروة عظيمة ؟ الم يعلمونا في أحزابهم ان المحافظة على الأشجار والحدائق العامة وعدم الاعتداء عليها بقطعها وقلعها،هي عنوان حضارة الأمم ؟ الم يعلمونا في كتاتيبهم أن ‘الخلفاء' ، كانوا يوصون الجنود والجيوش عندما يرسلونهم للقتال بالمحافظة على الشجر، مثلما يأمرونهم بالمحافظة على أرواح الأبرياء ؟ فهل كل ما علمونا إياه في الماضي في الكتاتيب والمدارس والجامعات بل وحتى في الحياة العامة عبارة عن كذب مطلق حول طبيعة الحياة الحقيقية الواقعية التي نعيشها اليوم ؟. وإلا لماذا لا يصرح هؤلاء القائمون على شؤون المدينة والعباد مثلا أنهم يترشحون فقط لأجل مصالحهم وانتظاراتهم الشخصية أو لأسباب أخرى لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بمبادئ وشعارات يكررونها على مسامعنا في كل مناسبة. أي حفاض على المدينة وجمالها هذا الذي علمونا إياه ونحن نرى أن كل ما حولنا يقول بالعكس، المساحات الخضراء تتحول الى اسواق ،الخروقات بالمدينة تتوالى تباعا تكريسا لاستهتار متواصل بكرامة المواطن و تثبيتا لعدم المبالاة بحقوقه... المساحات الخضراء تحولت إلى منشآت عمرانية..ومباني و مصانع وعمارات في ظل صمتنا وصمت المسؤولين. وكلٌّ.. يتم بكل الطرق ، إلا الطرق المباشرة الواضحة والصريحة كما قيل لنا في الصغر أو كما اوهمونا. لماذا يكذبون علينا طالما أن ما يحدد ما وصلو اليه هو المال الذي اكتسبوه من عرق جبيننا وعلى ظهورنا وبأي طريقة كانت .. وطالما أن انتقالهم من سلم الى سلم ليس بعلمهم ولا بكدهم ولا حتى بمهاراتهم او شهاداتهم ، بل بقوة المال والنفوذ و....العائلة . لو كانوا صرحوا لنا منذ زمن أن هناك خريطة طريق أخرى للحياة غير التي كتبناهها في كراريسنا المدرسية ونقشناها في عقولنا، لو قالوا لنا بأن كل ما علمونا إياه هو مجرد كلام ومثاليات ونظريات مثالية لا علاقة لها بالواقع ولا حتى معنى لها في واقع الحال ، لو قالوا لنا ... كانت ستبدو الأمور أوضح ...أوضح !! والأن .. الأن ، هل نواصل معكم عملية الكذب المتواصل ذاك ؟ أم نكتفي بأمركم ... كما أمرَتْكم المدينة قبلنا أن ترحلوا مع الضلام .. فنحن لن نحرث في الملح ثانية حتى لا نجني غير عذاب الجرح . فالصمت إذ امتدّ أكثر .. خلق بيننا أحزانا رمادية.. والاحزان الرمادية كما تعلمون تخنق الأطفال .. ونحن لا نريد لأطفالنا أن يختنقوا .. لانريد الخطر لأطفالنا نريد الأمن والامان ، لا نريد لأطفالنا ان يعيشوا ما عشناه، نريد لهم مستقبلا أكثر امان..وهواء أكثر نقاء... وللمدينة كذلك الامان وهي منذ أعوام مضت لم يعرف قلبها طعم البسمة .. شوارعها وساحاتها العامة لم تعرف غير اكوام الغبار .. وأحلام الأطفال طالت انتظارا لاستنشاق هواء نقي ..ألم تعلموهم أن "الجو الجميل واخضرار الحدائق واستنشاق الهواء النقي هام جدا لنمو الرئة ووظائفها".. أم أن ‘الرياح العاتية' وحدها من ستكنّس الغبارعن مقاعد الحدائق ... وتُرجع الإخضرار الى ساحات المدينة ... تعليق