ما يجري هذه الأيام من تجاذب دولي خطير في أوكرانيا، يمثل مؤشرا آخر ينضاف إلى مؤشر المأزق السوري، ثم مؤشر المسار الذي أخذه الملف النووي الإيراني، ليؤكد بأن العالم دخل من جديد مرحلة الحرب الباردة بعد العودة القوية لروسيا على مسرح الأحداث. قد يبدو في الظاهر أن معالم هذه الحرب الباردة بدأت مع المأزق السوري، لكن المؤشرات الأولى برزت في ليبيا زمن الربيع العربي، بعدما انقلبت القوى الدولية على الوعود التي قطعتها مع روسيا، أخرجتها كلية من دائرة المستفيدين من المغنم، ثم تقوى الموقف الروسي أكثر بدعم نظام بشار وإيران لعرقلة المخطط الأمريكي في المنطقة، لتضطر الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى إعادة النظر في استراتيجيتها اتجاه سورياوإيران وتنخرط في حوار مع إيران وتبدأ في مسار مفاوضات جنيف حول ترتيب خارطة الوضع السوري الجديد. أوكرانيا، هي نقطة توتر أخرى تظهر إلى أي حد وصل تقاطع المصالح بين الطرفين، وكيف دعمت القوى الصناعية الكبرى المعارضة في أوكرانيا حتى سقط الرئيس الموالي لموسكو، واضطرت بعد ذلك روسيا إلى إشهار ورقة التدخل العسكري في أوكرانيا، بعد أن نال بوتين موافقة مجلس الاتحاد الروسي بنشر قوات عسكرية بأوكرانيا بذريعة حماية المواطنين الروس الذين يقول الكرملين إنهم يواجهون تهديدا من أنصار الحكومة الجديدة. لا يهمنا أن نتوقف كثيرا عند نقطة أوكرانيا و آليات الصراع التي استعملها الطرفان المالية والسياسية والدبلوماسية وحتى العسكرية، إنما الذي يهمنا هو الدلالات التي تحملها نقطة التوتر هذه، وانعكاسها على مستقبل العلاقات الدولية في العالم، وأثرها بشكل خاص على العالم العربي. روسيا اليوم في موقف قوي بمنطقة الشرق الأوسط، فقد اضطرت سياساتها الخارجية النشطة أن تعرقل الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، ودفعتها إلى الحوار مع إيران، وأعطت مساحة لمجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر للمناورة والتخفف من الضغط الأمريكي على مصر، لكنها في المقابل، وخارج الحسم العسكري، لا تملك نقطة قوة في أوكرانيا بسبب ارتهان الدعم القوي الذي توجهه الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوربي للمعارضة الأوكرانية والتي وصلت حد إسقاط السلطة الموالية لموسكو. معنى ذلك، أن التطورات التي تجري في أوكرانيا بعيدا عن العالم العربي، فهي بعيدة فقط جغرافيا، إنما باعتبار السياسات الخارجية، فهي أقرب ما تكون من العالم العربي، هذا إن لم تكن في حقيقتها آلية من آليات صناعة الخارطة التي استعصت على التشكل بسبب عدم التسوية بين القوى الدولية في المنطقة، فلا يستبعد أن يكون حسم الصراع في أوكرانيا داخل دمشق، ولا يستبعد أن تحصل مقايضة استراتيجية بين الطرفين توضع فيها أوكرانيا في كفة وسوريا في الكفة المقابلة. والواقع، أن صراع النفوذ لن يتوقف ابدا عن هذه النقاط سالفة الذكر، فقد تتوسع وتمتد رقعة الزيت لتشمل نقط توتر أخرى مرتقبة، لاسيما إن فشلت التسوية في أوكرانيا، وتدخل الجيش الروسي فيها لإعادة السلطة إلى سابق ولائها. ما يهم في هذه المؤشرات المتواترة على دخول العالم مرحلة الحرب الباردة، ورغم أن جزءا من العالم العربي يدفع ضريبة هذا التوتر، فإنه صار بالإمكان اليوم، للعالم العربي، أن يستثمر الفرصة من جديد، ويلعب على التناقضات الدولية، ويبني هامشا أكبر لاستقلالية القرار السياسي، بما يعزز بروز قوى إقليمية عربية إلى جانب كل من تركياوإيران البارزتين في المنطقة. كما صار من الممكن أن يرتفع السقف السياسي العربي في موضوع الصراع العربي الاسرائيلي، وأن يستثمر انهيار مسار المفاوضات الفلسطينية، ويبني خطابا أكثر صلابة بخصوص قضية القدس والمستوطنات ورفع الحصار عن الشعب الفلسطيني.