المدير العام للشرطة الاتحادية البرازيلية يؤكد على أهمية التعاون الأمني مع المغرب    انهيار عمارة قيد الإنشاء بطنجة والوقاية المدنية تبحث عن شخص مفقود (فيديو)    "الأبواب المفتوحة" للأمن الوطني تستقطب أكثر من مليوني زائر    سويسرا تصفع الجزائر وبوليساريو: لا وجود لتمثيلية لانفصاليي البوليساريو لدى مكتب الأمم المتحدة بجنيف ولا على الأراضي السويسرية    انتشار متحور "بيرولا" يقلق سكان مليلية    تفاوتات لسعر الغاز بالجنوب الشرقي    تداولات بورصة البيضاء تنتهي بالأحمر    الاتحاد الأوروبي يقرر الزيادة في رسوم "تأشيرات شنغن" للإقامة قصيرة الأمد    "الكتاب" يعدد نواقص العمل الحكومي        طقس الأربعاء.. أمطار ورياح قوية بهذه المناطق    الملك محمد السادس يأمر بتوشيح ضباط أمريكيين لتعزيز التعاون مع المغرب    دولة أوروبية تهدد باعتقال نتنياهو وغالانت    توني كروس يعتزل اللعب بعد كأس أوروبا 2024    أمن بني مكادة يوقف شخصين متلبسين بحيازة وترويج المخدرات    خلال أسبوع.. 21 قتيلا و2808 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية وتسجيل أزيد من 39 ألف مخالفة    ارتفاع المداخيل الضريبية بنسبة 12,3 في المائة عند متم أبريل 2024    الأميرة للا حسناء تدشن المنتزه التاريخي لحبول في مكناس بعد تجديده    انعقاد مجلس الحكومة بعد غدٍ الخميس.. وهذه المراسيم التي سيتم تدارسها    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (13)    "الفيفا" يهدد الوداد بالحرمان من المشاركة في "الموندياليتو"    مناورات الأسد الإفريقي.. 20 عاما من الخبرات المتراكمة    عائلات ضحايا المحتجزين في ميانمار تنتظر مخرجات مباحثات الصين والمغرب    الأمثال العامية بتطوان... (604)    نفاذ تذاكر حفل أم كلثوم قبل شهر من انطلاق مهرجان "موازين"    المغرب ورومانيا تحتفلان بعلاقاتهما الدبلوماسية بإصدار خاص لطابعين بريديين    الشامي: الفقيه بنحمزة ساند بالتصويت توصية المجلس لتجريم تزويج القاصرات    من تبريز.. بدء مراسيم تشييع الرئيس الإيراني ومرافقيه وسط حشود ضخمة    يامال يتفوق على الخنوس بخصوص جائزة أفضل لاعب شاب في الدوريات الأوروبية    الذهب يقترب من ذروة قياسية وسط حالة من عدم اليقين الجيوسياسي    فضيحة الإخراج التلفزي لمباراة الزمالك وبركان تدفع ال"كاف" للاعتماد على مخرج إسباني في نهائي الأهلي والترجي    عملية مرحبا 2024 : اجتماع بطنجة للجنة المغربية – الإسبانية المشتركة    محاكمة أمير ألماني وعسكريين سابقين بتهمة التخطيط لانقلاب    وزارة الإقتصاد والمالية… فائض في الميزانية بقيمة 6,1 مليار درهم    ارتفاع ب 18 بالمائة في أبريل الماضي بمطار محمد الخامس الدولي بالدار البيضاء    "مايكروسوفت" تستعين بالذكاء الاصطناعي في أجهزة الكومبيوتر الشخصية    الحكومة تتوقع استيراد 600 ألف رأس من الأغنام الموجهة لعيد الأضحى    أكثر من 267 ألف حاج يصلون إلى السعودية    الاتحاك الإفريقي يدين الأحداث التي أعقبت لقاء نهضة بركان والزمالك    تصفيات المونديال: المنتخب المغربي النسوي يواجه زامبيا في الدور الأخير المؤهل للنهائيات    في مسيرة احتجاجية.. مناهضو التطبيع يستنكرون إدانة الناشط مصطفى دكار ويطالبون بسراحه    إميل حبيبي    مسرحية "أدجون" تختتم ملتقى أمزيان للمسرح الأمازيغي بالناظور    مساء اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية: أكنسوس المؤرخ والعالم الموسوعي    صدور كتاب "ندوات أسرى يكتبون"    بلاغ صحافي: احتفاء الإيسيسكو برواية "طيف سبيبة" للأديبة المغربية لطيفة لبصير    هاشم بسطاوي: مرضت نفسيا بسبب غيابي عن البوز!!    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    رئاسة النظام السوري تعلن إصابة زوجة بشار الأسد بمرض خطير    نقاد وباحثون وإعلاميون يناقشون حصيلة النشر والكتاب بالمغرب    صلاح يلمّح إلى بقائه مع ليفربول "سنقاتل بكل قوّتنا"    رغم خسارة لقب الكونفدرالية.. نهضة بركان يحصل على مكافأة مالية    أكاديميون يخضعون دعاوى الطاعنين في السنة النبوية لميزان النقد العلمي    الأمثال العامية بتطوان... (603)    تحقيق يتهم سلطات بريطانيا بالتستر عن فضيحة دم ملوث أودت بنحو 3000 شخص    المغرب يضع رقما هاتفيا رهن إشارة الجالية بالصين    شركة تسحب رقائق البطاطس الحارة بعد فاة مراهق تناوله هذا المنتج    لماذا النسيان مفيد؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إنجاز المقاومة وغلطها الكبير
نشر في التجديد يوم 03 - 10 - 2002

إذا كان أكبر إنجاز للمقاومة الفلسطينية أنها نجحت في إسقاط مشروع شارون، وفي ضرب منظومة الأمن الإسرائيلي، فإن أكبر غلط تقع فيه المقاومة هو أن توقف عملياتها الآن، استجابة لوهم التأثير في نتائج الانتخابات القادمة، بحيث يخلي مجرمو الحرب الراهنون مكانهم لفريق آخر من مجرمي الحرب الجدد!
(1)
إحدى مشكلات الإعلام عندنا أنه ينقل إلينا كل يوم صورة شبه مفصلة لما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين، في حين لا يتابع على نحو دقيق التفاعلات الحاصلة داخل "إسرائيل" ذاتها. أعني أننا نستشعر جيداً الوجع الفلسطيني ولكننا لا نعرف الكثير عن الوجع الإسرائيلي، باستثناء الأرقام التي تعلن ضحايا كل عملية استشهادية أو فدائية، وحتى هذه الأرقام والمعلومات تخضع للرقابة، وعادة ما تكون أقل من الحقيقة، لتخفيف حجم الصدمة داخل المجتمع الإسرائيلي. في ظل استمرار المقاومة، والعمليات الاستشهادية بوجه أخص، فإنه لا يكاد يخلو يوم من شكل من أشكال قمع الفلسطينيين وترويعهم. وخلال العشرين يوماً الأولى من الشهر الحالي (نوفمبر) ظل يقتل كل يوم فلسطينيان ويصاب 17 بجروح، فضلاً عن عمليات التهديم والقصف والتجريف والتجويع، التي لم تنج منها مدينة أو قرية في القطاع والضفة. والسعار الذي أصاب الحكومة الإسرائيلية بعد عملية القدس الأخيرة خير شاهد على ذلك.
إن شئت قل: إنه مسلسل للقتل البطيء، ينقل إلى كثيرين منا شعوراً بالإحباط واليأس، لا يخرج الناس من أجوائه ولا ينتشلهم من مستنقعه إلا أخبار العمليات الاستشهادية، التي تذكرهم بأن الله أكبر، وأن ثمة شيئا في الأمة لم يمت بعد، وإن كان الترويع الذي حل بالفلسطينيين لم ينل من إصرارهم على الخلاص ولا أطفأ في أعماقهم جذوة المقاومة.
المفارقة المثيرة واللافتة للنظر في هذا الصدد هي أن المجتمع الفلسطيني الأعزل برغم كل ما أصابه من تقتيل ودمار لم يعرف الخوف، بل يزداد صلابة وعناداً يوماً بعد يوم، كما أن العمليات التي يقوم بها الفدائيون الاستشهاديون تكشف عن درجة عالية من تراكم الخبرة ورفعة الأداء والإقدام المنقطع النظير. أما المجتمع الإسرائيلي المدجج بأحدث الأسلحة في البر والجو، والمحتمي بالقوة النووية فضلاً عن المظلة الأمريكية، فإنه هو الذي أصبح مسكوناً بالخوف، حتى ارتد إلى صدره ذلك الترويع الذي حاول قادته إشاعته بين الفلسطينيين. وذلك جوهر الفرق بين الذين يريدون الدنيا والذين يريدون الآخرة.
في 18/11 نشرت صحيفة "هآرتس" أن الجيش الإسرائيلي يشهد أزمة تهرب خطيرة من الخدمة العسكرية، ازدادت بشكل حاد خلال الفترة الأخيرة مع تزايد الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وأشارت الصحيفة إلى أن عدد الفارين من الخدمة العسكرية العام الحالي (2002) وصل إلى 2616 جندياً، أغلبهم من جنود الاحتياط. وكان عدد هؤلاء العام الماضي 1564 شخصاً، الأمر الذي يعني أن ثمة ارتفاعاً في عدد الفارين من الخدمة العسكرية بنسبة 76.2%.
في 5/11 نشرت صحيفة "معاريف" مقالة كتبها (ايتان رابين) عن قرية أنشئت لعلاج الجنود الإسرائيليين الذين يتم تسريحهم من الجيش، أشار فيها إلى أن تجاربهم مع الانتفاضة صدمتهم وهزتهم حتى شوهتهم نفسياً، بحيث أن كثيرين منهم يحاولون البحث عن الهدوء والسكينة بعد تسريحهم. لذلك فإنهم يسافرون إلى الهند وتايلند وغيرهما من دول الشرق الأقصى، ولكنهم هناك يدمنون المخدرات ويعودون أشخاصا آخرين في حالة انهيار شبه تام، ولا يصلحون لشيء! تحدث الكاتب عن ضابط من المسرحين كان ضمن وحدة الأركان، وقاتل الفلسطينيين مدة عامين. وبعد انتهاء مدة خدمته سافر إلى تايلند للهروب مما حدث له، لكنه لم ينجح، واتجه إلى تعاطي المخدرات، وبعد عودته تدهور أكثر وبدأ إدمان الكوكايين، وشرع أهله في علاجه، لكنهم بعد عدة أيام وجدوه ميتاً، ولم يعرف أحد سبب وفاته. هل سمعتم عن شيء من ذلك حدث بين الفلسطينيين؟
(2)
في أوائل شهر نوفمبر الحالي أصدرت مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية تقريراً كشف النقاب عن مجموعة من المؤشرات ذات الدلالة التي برزت بعد الانتفاضة. منها على سبيل المثال أن عدد الفقراء في "إسرائيل" تجاوز بعد عام الانتفاضة الأول 1.2 مليون نسمة يمثلون 20% من السكان، بحيث أصبح الدخل السنوي للواحد منهم في حدود 356 دولاراً فقط. أضاف التقرير في هذه النقطة أن 13 ألف عائلة جديدة انضمت إلى دائرة الفقراء، بالمقارنة مع سنة 2000، ويشكل العرب 29% من أولئك الفقراء . في ذات الوقت أصدر بنك "إسرائيل" المركزي تقريراً آخر عن الوضع الاقتصادي في البلاد، ذكر أن نسبة البطالة هذا العام تجاوزت 10.5% وأنها ستتجاوز 12% السنة القادمة. ومن المعلومات المثيرة التي أوردها التقرير أن نسبة العجز في الميزان التجاري ستصل إلى 95%، وأن الاستثمارات الأجنبية ستنخفض بنسبة 6.3%، وأن مستوى المعيشة سينخفض بنسبة 2.2%. ماذا تعني هذه الأرقام؟ حين يصل عدد الإسرائيليين الذين تجاوزوا خط الفقر إلى 1.2 مليون نسمة، فمعناه أن خمس السكان مرشحون لحزم حقائبهم والرحيل عن البلاد عند أول فرصة. ذلك أن هؤلاء إذا كانوا قد جاءوا إلى ما زعموا بأنه أرض
الميعاد بحثاً عن الأمن وتحت إغراء تحسين مستوى معيشتهم، وإذا كان حلم الأمن قد تبخر للأسباب المعروفة، ولحق به حلم الرخاء، فما الذي يحفزهم إلى البقاء في "إسرائيل" الآن؟! على صعيد آخر، إذا كان العجز التجاري ينشأ عن الاختلال فيما بين الصادرات والواردات، فإن ذلك العجز حين يصل إلى 95%، معناه أن الدولة الإسرائيلية لم تعد تصدر شيئاً. ولن تخطئ إذا قلت: إنها لم تعد تنتج شيئاً لكي تصدره. معناه أيضاً أن "إسرائيل" أصبحت تعتمد بشكل أكبر على الاستيراد من الخارج، مع تناقص إنتاج سلع التصدير إلى الخارج.
في الوقت ذاته فإن تراجع الاستثمارات الخارجية لا يعني سوى شيء واحد هو: فقدان الثقة بمؤسسات وأوضاع ذلك البلد المضطرب. وفي حالة "إسرائيل" فإنها كانت تتمتع بميزة الدولة الأكثر رعاية في كل الاتفاقات التي عقدتها مع مختلف دول العالم، كما أنها كانت تحظى برعاية ودعم مباشرين وغير مباشرين عن طريق استثمار مبالغ خيالية فيها، حتى أن معظم النشاطات الاقتصادية الإسرائيلية، لم تكن سوى فروع من المشروعات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية، وحين تتناقص الاستثمارات الأجنبية في "إسرائيل"، فإن ذلك يعني فقد الصفات التي كانت تجعل الآخرين يتعاملون معها بأفضلية. ذلك بعض ما حدث خلال عامين للانتفاضة، ولك أن تتخيل ما يمكن أن يحدث في "إسرائيل" لو قدر للانتفاضة أن تستمر عامين قادمين أو أكثر.
(3)
أهم مما سبق أن العمليات الاستشهادية الجسور التي تلاحقت خلال الأسبوعين الماضيين في تل أبيب والخليل والقدس بعثت برسالة إلى كل مواطن إسرائيلي تبلغه بأن حياته في خطر حيثما ذهب. وإذا قال قائل: إن ذلك هو حال الفلسطينيين أيضاً فهذا صحيح، لكني أضيف أن إنجاز المقاومة الفلسطينية أنها نجحت في أن ترد الرسالة بمثلها، وأحياناً بأحسن منها. وإذا تساوى الطرفان في الشعور بالخطر فالفلسطينيون هم الفائزون، باعتبار أن وجودهم في فلسطين هو قدر وليس أمامهم بديل آخر، أما الإسرائيليون فقدومهم إلى "إسرائيل" اختيار، وأمامهم بدائل أخرى، بدليل أن آلافاً منهم حزموا حقائبهم وعادوا إلى حيث أتوا.
الضحية الحقيقية لهذا التطور هو المشروع الصهيوني ذاته، الذي ادعى رواده أن وجود اليهود فيما زعموا أنه أرض الميعاد هو ملاذهم الآمن والأخير. وإذ عاودهم الخوف في عقر دورهم التي اغتصبوها فإن فكرة "الملاذ" لم يعد لها معنى . أما ضحية الساعة إذا جاز التعبير فهو السيد أرييل شارون الذي هو الآن في النزع الأخير، ولن نستغرب إذا ما أنهت الانتفاضة حياته السياسية نهاية بائسة. وهو الذي جاء إلى السلطة على وعد بأن يقضي على الانتفاضة خلال ثلاثة أشهر، وها قد مر عشرون شهراً والانتفاضة مستمرة، وتزداد تمرساً وقوة حيناً بعد حين، وتوجه إلى الجسم الإسرائيلي ضربات موجعة كل حين.
إن عبارة فشل حكومة شارون وسياسته أصبحت قاسماً مشتركاً في كتابات العديد من الكتاب والمعلقين الإسرائيليين. وهو ما يسجله عكيفا الدار مثلا في هآرتس (عدد 18/11) قائلاً: عن عدد القتلى الإسرائيليين في حرب الاستنزاف الحالية (التي يشنها الفلسطينيون) ينافس في حجمه عدد قتلاهم خلال 18 عاماً من الحرب في لبنان. وقد دعا في مقالته إلى الانسحاب وراء الجدار العازل خلال عام حتى إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، وانتقد بشدة الجمهور الإسرائيلي الذي تصوت أغلبيته لصالح شارون وسياسته قائلاً: إنه لا يزال يتصرف مثل المرأة المضروبة التي تصر على العودة إلى أحضان الرجل الشرير.
عوفر شيلح من كتاب "يديعوت أحرونوت" ذهب أبعد، إذ أنه لم يتهم شارون بالفشل فحسب، وإنما شكك في قدرة الجيش (بقرتهم المقدسة!) على التصدي للمقاومة الفلسطينية، ففي أعقاب عملية الخليل (التي قام بها شباب الجهاد الإسلامي وقتل فيها 12 عسكرياً إسرائيلياً) كتب يوم 19/11 قائلاً: إذا كان ثلاثة من العرب قادرين على المس بهذه الشدة بعشرات من حملة السلاح من رجالنا، فإن ذلك يضعف ثقتنا بالقوة التي نعتمد عليها، وإذا كانوا قادرين على الانتصار في معركة صغيرة واحدة، فلعل ثقتنا بأننا سننتصر في الصراعات الكبرى تستند إلى الوهم. بعد عشرين شهراً من وعد شارون بإنهاء الانتفاضة كتب حيمي شليف في معاريف (17/11) يقول: إن الإسرائيليين جميعا أصبحوا "عالقين في زقاق الموت". وهو ما عبر عنه أيضا ناحوم برنياع في يديعوت أحرونوت (18/11) الذي وصف عملية الخليل بأنها إعلان مهين عن فشل سياسة حكومة شارون، وقال:"إن الوضع قد أصبح خطيراً الآن فمن الأفضل ألا نجعله أشد خطورة من خلال نشاط حكومي (قمعي) آخر".
(4)
مثلما يحدث في كل ملاحم التحرير فمعركة الفلسطينيين مازالت طويلة. وكلما اشتد ساعد المقاومة ازداد الإسرائيليون شراسة، وغاية ما يمكن أن يقال في الوقت الراهن: إن شارون وأمثاله فشلوا في كسر إرادة الفلسطينيين، الذين أحرزوا نقاطاً في الجولة الراهنة تفوق ما حصله خصومهم المتعجرفون والمختالون بقوتهم. وفي هذا الصدد ينبغي ألا تفوتنا ملاحظة أنه في حين بدأت الأرض تهتز تحت أقدام شارون، ظهر في الأفق زعيم جديد لحزب العمل هو السيد عمرام متسناع الذي أطل علينا قائلاً: إنه سيسعى إلى التفاوض مع الفلسطينيين إذا تسلم الحكم، وأنه مقتنع بعدم جدوى العنف، وبضرورة إخلاء غزة من القوات والمستوطنين. لكن أغرب ما في المشهد أن ينطلي "الملعوب" على بضعنا، فيستدعوا المقولة التي عفى عليها الزمن وكذبها التاريخ. تلك التي تزعم أن حزب العمل أفضل للفلسطينيين والعرب من الليكود. وهو ما لمسناه في أمرين، الأول: تلك التصريحات والكتابات التي ظهرت مرحبة بالسيد متسناع ومحتفية بكلامه. ومن تلك التصريحات ما صدر عن الرئيس ياسر عرفات (في 20/11) حين رحب بالتعاون مع الزعيم الجديد لحزب العمل، وأعرب عن ثقته بأنه سيكمل الطريق الذي بدأه "شريك
السلام" إسحاق رابين (من المفارقات أن رابين هو الذي دعا إلى تكسير عظام الفلسطينيين في انتفاضة عام 87 وأن الرجل بالذي كلف بتنفيذ تلك السياسة في الضفة الغربية كان السيد متسناع شخصياً!). أما الكتابات التي نعنيها فمن نماذجها ذلك التعليق الذي نشرته "الحياة" اللندنية في 21/11 للأستاذ غسان شربل، وتساءل فيه عما "إذا كان باستطاعة الفلسطينيين القيام بشيء لمنع بقاء شارون (في السلطة) وزيادة حظوظ الجنرال متسناع، الذي يبدو كمن جاء متأخراً".
الأمر الثاني الذي لمسناه في السياق الذي نحن بصدده هو تلك الجهود العربية التي بذلت لإقناع منظمة فتح وحماس بوقف العمليات داخل "إسرائيل"، بدعوى أن ذلك الإيقاف وما يستصحبه من تهدئة مفترضة، سوف يسحب ورقة "الأمن" من يد شارون في الانتخابات القادمة التي ستتم هناك بعد شهرين. وإذا ما تحقق ذلك، فإن الموضوع السياسي سوف يصبح المهيمن على أجواء الانتخابات، الأمر الذي يتصور معه أولئك الناصحون أنه قد يوفر فرصة مواتية لفوز حزب العمل، وتسلم السيد متسناع السلطة، ومع فريقه الذي يتقدمه بن اليعازر وبيريز (تاني!!).
لا أعرف إن كانت الفكرة تستحق المناقشة أم لا، لكنني لا أتردد في وصفها بأنها عبثية من أولها إلى آخرها. وقد عرى عبثيتها الدكتور زياد أبو عمرو رئيس اللجنة السياسية في المجلس التشريعي الفلسطيني الذي كتب مقالاً في نقدها نشرته صحيفة "القدس العربي" (في 21/11)، ومما ذكره في هذا الصدد أنه من العبث الاعتقاد بإمكانية مساعدة حزب العمل من وراء ظهر شارون، الذي لن يستجيب للمبادرة، إذا ما طلب إليه أن يقدم شيئاً لفتح وحماس مقابل إيقافهما العمليات. كما أنه من العبث المراهنة على حزب العمل وتفضيله على الليكود، في حين يعلم الجميع أن كلا منهما أسوأ من الآخر. ناهيك عن أن حزب العمل ليست أمامه فرصة للفوز، وهو ما أجمعت عليه استطلاعات الرأي الإسرائيلية. ومن العبث أيضاً تصور إمكانية تغييب ورقة الأمن عن الانتخاب لمجرد اتفاق حماس وفتح (لاحظ أن حركة الجهاد الإسلامي استبعدت) على وقف العمليات داخل "إسرائيل"، لأن السماح باستمرار العمليات ضد المستوطنات المقامة في الضفة مثلاً، التي لن يشملها الاتفاق، سيجدد إثارة موضوع الأمن الذي يتعذر استبعاده طالما ظل للاحتلال وجود.
(5)
بعد الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون من دمائهم وفلذات أكبادهم، فإن خيار المقاومة أصبح محسوماً، خصوصاً بعد ما ثبت أن الخيارات الأخرى التي طرحت عبر أوسلو وأخواتها كانت للتمويه أو لتقنين الاحتلال. وقد طوى القادة الإسرائيليون تلك الصفحة على أي حال، حين أعلنوا أن كل ما فات بينهم وبين الفلسطينيين قد مات. والمشكلة التي نواجهها ليست في تعب المقاومة الفلسطينية التي ما برحت تلقن المحتلين دروساً موجعة كل حين، ولا في انكسار إرادة ذلك الشعب البطل المتمسك بحقه في الاستقلال، ولكنها في تعب الآخرين الذين يمسكون بالملف الفلسطيني من قريب أو بعيد. وإذ أفهم أنه في أي قضية إذا تعب فريق الوكلاء والوسطاء أو عجز فإنه يتنحى كي يفسح المجال لفريق آخر، إلا أن الأمر اختلف في القضية الفلسطينية، التي تعب فيها هؤلاء فاختاروا أن يكون التنحي من نصيب القضية لا من نصيبهم، في حين أنهم يقدمون أكبر خدمة للقضية لو أنهم رفعوا أيديهم عنها، خصوصاً أن رجال المقاومة أثبتوا أنهم أهل لها. ليس فقط لأن التاريخ معهم ولأن لكل احتلال نهاية، ولكن قبل ذلك لأن الله تعالى ينصر من ينصره. اللهم احم المقاومة من "أصدقائها"، أما أعداؤها فهي
كفيلة بهم.
بقلم: فهمي هويدي
المصدر: أخبار الخليج27 (نوفمبر) 2002


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.