كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن الفوز وعن الفائزين، و عدد المقاعد المحصل عليها في الانتخابات، واشتد التنافس أحيانا على مقاعد الرئاسة والنيابات في المجالس البلدية والجهات والغرف المهنية، لدرجة استباح فيها بعض المرشحين جميع الوسائل ل"الفوز" والتغلب على الخصم والإطاحة بالمنافسين. و أمطرنا إعلامنا الرسمي وغير الرسمي بمفردات الصراع المحموم و مصطلحات المواجهة "العسكرية": تحالفات ومعارك و مناورات ومكائد وخيانة للعهد و حنث بعد القسم على المصحف الشريف و غدر و إطاحة وانقلاب…، و لم يسلم التباري على مناصب المسؤولية من بعض الغش و استعمال"المنشطات" مثل الرشوة و الوعود الكاذبة و الهدايا الملغومة والأضاحي المسمومة. و في غمرة التنافس المحموم، نسي الكثير من المتبارين أن المقعد امتحان واختبار وأمانة عظيمة، و غاب عن أذهان كثير من الناس أن الفوز العظيم عند لقاء رب العالمين ؛ الفوز برضا الله والنجاة من عذابه والفوز بجنته ، يغيب هذا المعنى عن كثير من الأذهان في انهماك في متع الدنيا وملذاتها وشهواتها , والواجب عباد الله على كل مسلم أن يكون دائماً متذكراً الفوز الأكبر والفوز العظيم والفوز المبين عندما يلقى الله تبارك وتعالى ، وأن لا تغره هذه الحياة عن الفوز الحقيقي والنعيم الأبدي والنعيم المقيم يوم لقاء الله، في مقعد صدق حقيقي، عند مليك مقتدر. قال الله تعالى:"إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ" (القمر). وقال سبحانه : " "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ " (المرسلات). وقال : " إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا " (النبأ). وتأمل – أيها المرشح – في هذه الوقفة متذكراً ومتفكرا في الفوز العظيم وحقيقته ؛ يقول الله عز وجل : " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ " (آل عمران) هاهنا عباد الله مقام الفائزين الرابحين الذين يمنّ الله عليهم بالفوز الحقيقي الأكبر العظيم . إن الفوز، كما قال العلماء، نجاةٌ من مرهوب وتحصيل لمرغوب، وهذان يجتمعان للمؤمنين أهل الجنة؛ ينجِّيهم الله تبارك وتعالى من النار ويمنّ عليهم بالفوز بدخول الجنة، وهذا هو حقيقة الفوز: نجاةٌ من مرهوب وتحصيل لمرغوب، وأي مرهوبٍ أعظم من النار !! وأي مرغوبٍ فيه أعظم من الجنة !! " فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ". و هذا هو ميدان الفوز حقاً وصدقا، نجاةٌ من نار الله وعذابه، وفوزٌ بجنته ونعيمه. ويمكن لمقعد الدنيا أن يرفعك أعلى عليين أو يهوي بك أسفل سافلين. تأمل أخي المرشح الفائز بالمقعد في الدنيا مرور الناس على الصراط المنصوب على متن جهنم ، وتخيل – رعاك الله – حالك وأنت على هذا الصراط الذي هو أدق من الشعر، تأمل وقد وضعتَ قدمك اليمنى عليه وبين أيديك الناس ومن خلفك : نَاجٍ مُسَلَّمٌ ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ ، وَمُكْردَسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ؛ فمن أي هؤلاء أنت !! هاهنا مقام الفائزين أيها المسؤول الجديد ؛ أنظر إلى حالك وأنت تمشي على هذا الصراط و فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تخطف الناس بأعمالهم ، ويتفاوتون في المرور عليه كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل ؛ يمرون مروراً على قدر تفاوتهم في الأعمال في هذه الحياة ، يمرون مروراً على قدر تباينهم في طاعة الله عز وجل في هذه الحياة . تأمل في حالك وأنت من هؤلاء وأنت صائرٌ إلى هذا المقام ، يقول الله تعالى: " وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾ يعنى جهنم ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا" (مريم) ، تأمّل هل أنت من هؤلاء الناجين الفائزين ؟ تأمل أخي المرشح ( و تأملي أختي المرشحة) في هذا المقام العظيم وتفكر في الفوز الحقيقي عند لقاء الله تبارك وتعالى. وسواء امتطيت الجرار أو الحصان أو الغزال أو حملت المصباح أو الميزان أو التفاحة، أو رفعت أي رمز آخر من رموز الأحزاب المتنافسة ، فإن ذلك لن ينفعك إلا إذا أديت الأمانة حق الأداء ووفيت الوعود والتزمت الاستقامة وفي السر والعلن. إن مقعد المجلس البلدي أو البرلمان ما هو إلا وسيلة لاختبار مدى استقامتك وثباتك. والمسؤولية أمانة واختبار ، وهي خزي وندامة يوم القيامة إلا من أتاها بحق. عن يحيى بن سعيد ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي، أن أبا ذر، – رضي الله عنه – قال لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – : أمرني ، فقال : " إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة " . وفي المقابل، قد يكون مقعد مسؤولية فرصة للمتقين والنزهاء لمناهضة الفساد والإسهام في إقامة العدل بين الناس وخدمة الصالح العام. وذلك من أعظم القربات بل هي فريضة الوقت كما يقال. وفي ذلك فليتنافس الفائزون بالمقاعد. نسأل الله لهم السداد والتوفيق