عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد. بين الدكتور رشيد نافع في الحلقة السالفة مظاهر وشروط حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، موضحا أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أصل من أصول الإيمان، تتجلى فيها إيثارحبه على كل من سواه من البشر، ممن تربطه بهم روابط القرابة والنسب، أو روابط الصداقة والمصلحة، كما أبرز حكم هذه المحبة في الشرع الحكيم مع إيراد أدلتها من الكتاب والسنة. وفي هذه الحلقة، يشرح الدكتورنافع وجوب محبة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، مع تبيان درجات هذه المحبة وتلازمها مع الإيمان في قلب كل مؤمن. محبة الرسول من لوازم الإيمان محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان وواجباته، فلا يتحقق الإيمان بدونها، ولا يستحق المؤمن اسم الإيمان بدونها، وأن نفي الإيمان في الحديث إنما هو نفي لكمال الإيمان الواجب إذا لم توجد المحبة الراجحة على ما سواها من سائر المحاب. فإذا وجدت هذه المحبة على هذه الصفة، فهي دليل على كمال الإيمان بالنسبة لمن اتصف بها في هذا الجانب. وأما إذا لم توجد هذه المحبة على الصفة الراجحة، كان من اتصف بها معرضا للوعيد، لأنه أخل بواجب من واجبات الإيمان، التي لا يتم الإيمان بدونها. حب عمر للرسول عليه الصلاة والسلام ومن الأحاديث الدالة على وجوب المحبة ما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. وتلك هي قمة السمو في الحب، حين يستعلي المسلم على رغبات النفس وشهواتها، مؤثرا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ذلك، ويتبين هذا إذا تعارض أي أمر أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم مع رغبة من رغبات النفس فأيهما تقدم كان الحكم له، ونقل ابن حجر في شرح هذا الحديث عن بعض الزهاد أن: لا تصدق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه الهلاك. وقال الفقيه المحدث أبو سليمان الخطابي: حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار، إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه. ثم يستطرد ابن حجر معلقا على كلام الخطابي فيقول: فعلى هذا فجواب عمرأولا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار، ولذلك حصل الجواب بقوله: الآن يا عمر، أي الآن عرفت فنطقت بما يجب. إذاً، لم يكن حصول المحبة عند عمر رضي الله عنه أمرا جديدا على نفسه، وإنما كان الجديد لديه هو إدراكه لتلك المحبة والتفاته إليها. التفكرسبيل للوصول إلى محبته عليه السلام وفي هذا الحديث إشارة إلى فضيلة التفكر، فإن عمر رضي الله عنه لما أجاب أول الأمر لم يكن قد تفكر في كون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، فلما استوقفه الرسول صلى الله عليه وسلم وراجعه، تفكر وامتحن نفسه، فإذا به يصل إلى النتيجة المطلوبة: وهي كون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه. لأجل هذا، كان التفكر سبيلا من سبل الوصول إلى هذه المحبة. فإذا تفكرالمسلم في النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه سبب نجاته في الدنيا والآخرة، وأدرك ذلك بقلبه يقينا، عظمت عند ذاك محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه. درجات محبة الرسول وبعد أن تبين لنا وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بأدلته من القرآن والسنة، أود أن أشير إلى أن هذه المحبة كما قال أبو الفرج ابن رجب الحنبلي على درجتين: إحداهما فرض: وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم، وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية. ثم حسن الإتباع له فيما بلغه عن ربه، من تصديقه في كل ما أخبر به وطاعته فيما أمربه من الواجبات، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات، ونصرة دينه والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة، فهذا القدرلا بد منه، ولا يتم الإيمان بدونه. والدرجة الثانية فضل: وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به، وتحقيق الإقتداء بسنته: في أخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته وأكله وشربه ولباسه، وحسن معاشرته لأزواجه، وغيرذلك من آدابه الكاملة وأخلاقه الطاهرة، والاعتناء بمعرفة سيرته وأيامه، واهتزاز القلب من محبته وتعظيمه، وتوقيره ومحبة استماع كلامه، وإيثاره على كلام غيره من المخلوقين، ومن أعظم ذلك، الاقتداء به في زهده في الدنيا والاجتزاء باليسير منها ورغبته في الآخرة . تلازم المحبة والإيمان ومما سبق، يتبين لنا أن المحبة والإيمان أمران متلازمان في قلب المؤمن تلازما مطردا يزيد أحدهما بزيادة الآخر وينقص بنقصانه، كما جاء ذلك مبينا في قوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين. فقد وضح هذا الحديث العلاقة بين الإيمان والمحبة، إذ علق كمال الإيمان الواجب على وجود المحبة الراجحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها شرطا يتوقف عليه الإيمان، الذي ينجو به صاحبه من العقاب، ويستحق دخول الجنة بفضل الله ورحمته، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان حب الرسول صلى الله عليه وسلم في قلب المسلم، راجحا على حب ما سواه من النفس والمال والولد وسائر البشر أجمعين. فمن كان حبه لنفسه أو لشيء من الأشياء كحبه لله ورسوله أو أشد فهو من أصحاب الوعيد، لأن الله تعالى جعل المحبة الراجحة لله ورسوله من لوازم الإيمان، وجعل ما دونها من أوصاف المشركين. فقال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) البقرة.165 فإذا قويت المحبة في قلب المؤمن وزادت أثمرذلك زيادة في الإيمان، وذاق العبد حينئذ حلاوة الإيمان. كما في صحيح البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما... الحديث ، ولا يصل العبد إلى هذه المنزلة، إلا إذا سعى في تحصيل ما يحبه الله ورسوله من الأقوال والأفعال. وكلما كان سعي العبد حثيثا لتحصيل هذه المحبوبات، كلما زاد إيمانه وذاق حلاوته، وإذا قصرالعبد في أداء ما كلف به والالتزام بآداب الشرع، فإنما يرجع ذلك إلى نقصان في الإيمان الدال على نقصان المحبة. فزيادة المحبة دليل على زيادة الإيمان ونقصانها دليل على نقصان الإيمان. أما أصل الإيمان فلا يوجد بدون وجود المحبة، ولا يوجد مسلم ليس في قلبه محبة ولو كانت ضعيفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبين لنا من هذا أن العلاقة بين المحبة والإيمان علاقة وثيقة، فوجود أحدهما متوقف على وجود الآخر، وزيادة أحدهما تعني زيادة الآخر.