التوجيه الرابع:الحكمة سبيل الدعوة الأمثل قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (النحل125) من خصائص هذا التوجيه القرآني أنه جاء في صيغة وصية جامعة في نهاية سورة النحل، ولقد اهتم علماء الدراسات القرآنية بفواتيح السور وبخواتيمها وفي كل ذلك مظهر من مظاهر الإعجاز من براعة الاستهلال وحسن الخاتمة. وإذا حاولنا الربط بين هذا التوجيه وما سبقه من التوجيهات، نقول بأن الذي سبق يتعلق بمؤهلا ت الداعية السلوكية الذاتية العلمية والعملية؛ وهذا التوجيه يشير إلى مواصفات الخطاب الدعوي الذي يتحرك به في الناس. والخلل في الدعوة قد يكون من سلوك الداعية وقد يكون من خطابه الدعوي، إلا أن الخلل الأكبرهو الذي يأتي من الخطاب الدعوي بما يشمل المضمون والمنهج والأساليب والوسائل ونحو ذلك. وعليه فإذا كانت الآيات التي سبقت تشير إلى شرف الدعوة والمعني بالدعوة ومؤهلات الداعية، فإن هذه الآية تحدد المنهج الدعوي. ومن جهة أخرى، يمكن القول بأن هذه الآية من أوسع الآيات انتشارا من بين التوجيهات القرآنية في مجال الدعوة، فما أكثر ما يستدل بها... وبالقدر الذي يمكن عد هذا الأمر إيجابيا يمكن أيضا عده واحد من مظاهر الخلل في التعامل مع القرآن الكريم وذلك حين تنتشر بعض الآيات وتغيب الرؤية المتكاملة فينشأ على ذلك من التشوهات والانحرافات ما لا يعلمه إلا الله. والآية خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنها مما يلحق به فيها غيره. وهذه قاعدة عامة أن العبرة بعموم الخطاب لا بخصوص المخاطب إلا ما خصه الدليل. وهي شبيهة بقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي كل هذا نذكر بأهمية امتلاك أدوات الفهم و التفسير قبل القول في كتاب الله. وفي الآية تذكير بأصل الدعوة ومجالها وهو سبيل ربك كما فيها إرشاد إلى المنهج المطلوب في الدعوة إليه وهو الحكمة و الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن. وفي الآية وقع البدء بتحديد المجال (ادع إلى سبيل ربك) ثم كان الحديث عن المنهج. وفرق بين تحديد المنهج ثم تحديد المجال وبين البدء بالمجال. إن قوله تعالى:(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) معناه أن الأمر ما دام يتعلق بسبيل ربك فليكن بالحكمة. وهذا أكبر حافز على الإخلاص في الدعوة.إن من ضمانات الدعوة الأساسية أن يستصحب الداعية دائما أنه إنما يدعو إلى سبيل ربه أي سبيل الله. ووجه نسبة السبيل في الآية إلى الرب (سبيل ربك)، بينما في الآية الأخرى نسب السبيل إلى الداعية (قل هذه سبيلي)، أنه حين تعلق الأمر بالدعوة فقد جاءت إلى أصلها أي سبيل الرب، ولكن حين كان الحديث عن الشخص فهو سبيله إلا أنه عطف عليه (أدعو إلى الله على بصيرة)؛ وفي ذلك تذكير وشرف للدعاة بأن سبيلهم هو سبيل الرب. وفيها أيضا تحذير للدعاة بأنهم إذ اختاروا سبيل الله لهم سبيلا، فعليهم ألا يحولوه إلى سبل لهم فيختلط عندهم الدعوة إلى الله بالدعوة إلى أنفسهم وهذا مدخل كبير للفساد. قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )(الأنعام 153) وفي الآية تكررت الإحالة على سبيل الله مرة أخرى عند الحديث عن الضالين في قوله (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله). وفيه إرشاد للدعاة بالحرص على الفصل التام بين الحكم على الناس بالضلال عن سبيل الداعية أي عن اجتهاداته وبين الضلال عن سبيل الله. وكان التذكير بهذا المعنى لكي لا يكلف الداعية نفسه ولكي يخفف من حماسته واندفاعه فما دام الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان بالحكمة و الموعظة الحسنة والأمر بعد ذلك لله. وفي الأمر تخفيف على الداعية من جهة ما يلقاه من إعراض الناس كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) (فاطر8) والحكمة في القرآن الكريم جاءت بمعاني عديدة وفي سياقات عديدة ومن أجمع التعاريف لها أنها إصابة الحق بالعلم والعقل. والموعظة الحسنة هي التي تدخل إلى القلوب برفق، فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة ويؤلف القلوب النافرة ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ، وبالجدل بالتي هي أحسن بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أنه ليس هدفه هو الغلبة في الجدل ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. ولعله من الطريف أن نقول إن عبارة بالتي السائرة في الشارع المغربي التي تعني التأني والحكمة والصبر غالب الظن أنها مستمدة من هذه الآية وما أكثر الأمثال المغربية ذات الأصول القرآنية، وهل كانت هذه الأمة إلا بالقرآن؟ {يدخلون في دين الله أفواجا} د. مولاي عمر بن حماد