في إطار النقاش الوطني المفتوح حول الإصلاحات السياسية المنشودة، و التعديلات الدستورية المرتقبة، صدر عن سلسلة ''الحوار العمومي'' كتاب يحمل عنوان ''دستور 2011 بين السلطوية و الديمقراطية'' تضمن ''قراءات متقاطعة'' لحركة الإصلاح السياسي و الدستوري ببلادنا، في ظل المتغيرات العالمية و الإقليمية و المحلية، المتميزة بدينامية فريدة للشعوب العربية، نحو التحرر و الديمقراطية، غير مسبوقة و لا مألوفة. و بصرف النظر عن تكاثر الكتابات حول هذه النقطة بالذات، فإن المنشور الذي بين أيدينا جدير بالتأمل و الملاحظة، لا من زاوية القضايا التي يطرق بابها، فهي بمثابة ''موضوع الساعة'' الذي نتوفر على كم هائل من الدراسات حوله، و لكن من زويا أخرى ترتبط ب''الشكل'' أكثر من ارتباطها ب''المضمون'' ، تحمل دلالات رمزية تؤسس لعلاقات جديدة تذوب فيها المسافات الإيديولوجية و تتهدم فيها الخرائط المذهبية العتيقة. يتعلق الأمر بكتاب من تأليف مؤلفين ينتميان إلى عائلتين فكرتين و سياسيتين جرت العادة على وضع كل واحدة منهما في الجهة المقابلة للأخرى، باعتبارهما تمثلان ''مشروعين مجتمعيين'' متناقضين. فأحد الكاتبين، و هو الأستاذ حسن طارق، ينتمي للعائلة ''الاشتراكية''، في حين ينتمي الكاتب الثاني، الأستاذ عبد العالي حامي الدين، للعائلة ''الإسلامية''، بل إن كل واحد منهما يتولى مسؤولية قيادية في أعلى هيئة قيادية في حزبه، الأول عضو بالمكتب السياسي لحزب الاتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية و الثاني عضو الأمانة العامة لحزب العدالة و التنمية. سيتوقع القارئ المقبل على هذا الكتاب ، أنه سيجد بين فصوله تباينا و تضاربا في الرؤى و الأقوال ، و اختلافا في المنهجية و التحليل ، لكنه لن يعثر على شيء من ذلك، بل سيندهش حينما يظن نفسه يقرأ فصولا لمؤلف واحد و ليس لمؤلفين اثنين، ينتميان لحزبين سياسيين أريد لهما أن يكونا متخاصمين و متصارعين، و لطالما عشنا مشاهد من هذا الصراع و ذلك الخصام بين قادتهما و قواعدهما على السواء. فهل يتعلق الأمر بمحاولة مقصودة لتوسيع دائرة المشترك السياسي و الديمقراطي، و تأجيل القول في كل ماهو موضوع للتناقض و الاختلاف، أم أن الأمر،بالإضافة إلى ذلك، يعبر عن انخراط ، مقصود أو غير مقصود، من لدن صاحبينا، في دينامية الفرز الجديد للنخب و المواقف ، التي انطلقت مع الدينامية الجديدة لشعوب المنطقة، و من بينها الحركية الشعبية المغربية التي انطلقت في مختلف ربوع المملكة مع مسيرة 20 فبراير المجيدة؟؟ إن ما يبرر طرح هذا السؤال هو أن القضايا التي يطرحها الكتاب للنقاش ، حيث اختار المؤلفين، بدقة واضحة و عناية فائقة، مفهومين مركزيين للتعبير عنها، و هما ''السلطوية'' و ''الديمقراطية''. معلنان انحيازهما للأطروحة الديمقراطية ، و تضامنهما في هدم أسس السلطوية، و تقويض أركانها ،و دحض مبرراتها المختلفة، التي تشدنا إلى الشمولية و الاستبدادية. لكن الأمر لا يتعلق فقط بتقاطع حول ضرورة الديمقراطية و ضرر السلطوية ، بل إنه تقاطع يصل إلى حد التماهي ، في الاتفاق على ما يبرر هذا الضرر و تلك الضرورة و ذلك اعتمادا على جهاز مفاهيمي موحد الدلالات و المعاني. إذ كلا الباحثين يوظف مفاهيم''الإسلام'' و''الغرب'' و''الملكية البرلمانية'' .. و غيرها من المفاهيم بكيفية متشابهة و موحدة. هكذا يتفق الكاتبين على أن دينامية الفعل الإصلاحي التي انطلقت ببلادنا ما كان لها أن تنطلق لولا المتغيرات الإقليمية ، و الثورات العربية الجارية ، على الأنظمة الشمولية و الاستبدادية، و التي وجدت صداها في بلادنا عند شباب 20 فبراير. هكذا أصبحت الديمقراطية هي الاستجابة ،طوعا أو كرها، لمقولة''الشعب يريد'' ، التي كذبت كل الذرائع التي كانت أنظمة القهر و الاستغلال ترفعها للتملص من كل استحقاق إصلاحي ديمقراطي، من قبيل ''مواجهة الخطر الإرهابي'' أو '' ممانعة العدو الصهيوني'' أو ''التصدي لخطر التطرف السياسي الإسلامي''، أو إعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية على حساب التنمية الديمقراطية من خلال حزب الدولة القوي . بناء على سبق فإن الفكرة الأساسية التي عمل المؤلفين جاهدين للبرهنة على صحتها هي أن أي إصلاح دستوري لا يترافق مع إجراءات سياسية تدشن قطيعة تامة مع ممارسات ''العهد القديم'' من قمع و اختطاف و اعتقال سياسي ، و معتقلات سرية، و تزوير للانتخابات و تحكم في المشهد الحزبي ، و غيرها من تدابير إعادة الثقة في الفائدة من العمل السياسي، لن يكون له مفعول إيجابي على التطور الديمقراطي ببلادنا. هذا من جهة و من جهة ثانية فإن هذا الإصلاح الدستوري نفسه، إذا لم يرتفع سقفه إلى مستوى إقرار نظام ملكي برلماني،فإنه سيخلف موعدنا مع هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها باعتبارها لحظة ديمقراطية بامتياز. حاصل القول مما سبق أننا أمام عمل مشترك جدير بالدراسة و التحليل بل قمين بالتنويه و التشجيع ، لأنه مزق الخرائط الحزبية التقليدية و و القيود الإيديولوجية الصارمة ، و دشن فعلا لزمالة سياسية فضلت الالتقاء على دائرة المشترك الديمقراطي و عملت على توسيعها، فهنيئا لمن كان له فضل إضاءة هذه الشمعة ليل مصطنع من القطيعة بين القوى الحية في هذا الوطن الحبيب.