بطولة فرنسا: مبابي يتوج بجائزة أفضل لاعب للمرة الخامسة على التوالي    أحوال طقس اليوم الثلاثاء في المغرب    المغرب يعلن تفكيك خلية إرهابية من 4 عناصر في تيزنيت وسيدي سليمان    الشيلي والمغرب يوقعان اتفاقية للتعاون في مجال التراث الوثائقي    المغرب يستعيد من الشيلي 117 قطعة أحفورية يعود تاريخها إلى 400 مليون سنة    اعتقالات و"اقتحام" وإضراب عام تعيشه تونس قبيل الاستحقاق الانتخابي    العثور على باندا عملاقة نادرة في شمال غرب الصين    إسطنبول.. اعتقال أمين متحف أمريكي بتهمة تهريب عينات مهمة من العقارب والعناكب    عجز الميزانية المغربية يفوق 1,18 مليار درهم عند متم أبريل    الإعلان عن موعد مقابلتين للمنتخب المغربي برسم التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026    كيف بدأت حملة "مقاطعة المشاهير" التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي؟    اتفاقية مع "عملاق أمريكي" لتشغيل 1000 مهندس وباحث دكتوراه مغربي    بنموسى يكشف العقوبات ضد الأساتذة الموقوفين    قناة أرضية تعلن نقلها مباراة الإياب بين بركان والزمالك    إسبانيا ترد على التهديد الجزائري بتحذير آخر    بنموسى يعلن قرب إطلاق منصة رقمية لتعلم الأمازيغية عن بعد    أمل تيزنيت يكتفي بالتعادل خارج ميدانه أمام إتحاد سيدي قاسم    لماذا يجب تجنب شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خصوصا في الصيف؟    مخرج مصري يتسبب في فوضى بالمهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة    الصحافة الإسبانية تتغنى بموهبة إبراهيم دياز    ميراوي محذرا طلبة الطب: سيناريو 2019 لن يتكرر.. وإذا استمرت المقاطعة سنعتمد حلولا بخسائر فادحة    القوات المسلحة الملكية.. 68 عاماً من الالتزام الوطني والقومي والأممي    انقلاب سيارة يخلف إصابات على طريق بني بوعياش في الحسيمة    وزير التربية متمسك بالمضي في "تطبيق القانون" بحق الأساتذة الموقوفين    الأمثال العامية بتطوان... (597)    جماهري يكتب: هذه الحكومة لا بد لها من درس في الليبرالية...!    جائزة أحسن لاعب إفريقي في "الليغ 1" تعاكس المغاربة    تنظيم الدورة ال23 لجائزة الحسن الثاني لفنون الفروسية التقليدية "التبوريدة"    الجمعية المهنية تكشف عدد مبيعات الإسمنت خلال أبريل    اليابان عازمة على مواصلة العمل من أجل تعاون "أوثق" مع المغرب    أضواء قطبية ساحرة تلون السماء لليوم الثالث بعد عاصفة شمسية تضرب الأرض    النيابة العامة التونسية تمدد التحفظ على إعلاميَين بارزَين والمحامون يضربون    المركز الثقافي بتطوان يستضيف عرض مسرحية "أنا مرا"    أمن ميناء طنجة يحبط تهريب الآلاف من الأقراص الطبية    الاتحاد الأوروبي يرضخ لمطالب المزارعين ويقر تعديلات على السياسة الفلاحية المشتركة    أوكرانيا تقر بالنجاح التكتيكي لروسيا    المندوبية العامة لإدارة السجون تنفي وجود تجاوزات بالسجن المحلي "تولال 2" بمكناس    طقس الثلاثاء.. عودة التساقطات المطرية بعدد من الأقاليم    رشيد الطالبي العلمي في زيارة عمل برلمانية لجمهورية الصين الشعبية    الزمالك يشهر ورقة المعاملة بالمثل في وجه بركان    شح الوقود يهدد خدمات الصحة بغزة    الطلب والدولار يخفضان أسعار النفط    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    إضراب وطني يفرغ المستشفيات من الأطباء والممرضين.. والنقابات تدعو لإنزال وطني    الارتفاع يطبع تداولات بورصة الدار البيضاء    الدرس الكبير    السينما في الهوامش والقرى تشغل النقاد والأكاديميين بالمعرض الدولي للكتاب    مصر على أبواب خطر داهم..    الأساطير التي نحيا بها    فيلم الحساب يتوج بالجائزة الكبرى في برنامج Ciné Café    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    الأمثال العامية بتطوان... (596)    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة ورائحة البارود
نشر في التجديد يوم 02 - 10 - 2003

زاد الحديث في الغرب (وفي بلادنا أيضا) عن التحديث في جميع المجالات:المجال السياسي(الديمقراطية) المجال الاقتصادي(مزيد من الخصخصة) المجال التربوي (تعديل المقررات الدراسية بما يتفق مع المعايير الغربية الحديثة). وبدأ بعض الدارسين في الغرب يتحدثون عن أن الإسلام بطبيعته يعادي الحداثة، فانبرى بعض المفكرين العرب والإسلاميين للدفاع عن الاسلام ولإثبات العكس، مبينين بالبرهان القاطع أن الإسلام بطبيعته ليس معاديا للحداثة، بل يرحب بها، ويمكنه أن يتبني مناهجها وقيمها.
تحديد الحداثة
وهذا الحوار يفترض أن مصطلح الحداثة مصطلح محدد المعني والدلالة، وأن الحداثة ليس لها تاريخ وأن تبدياتها لاتختلف من حضارة لأخرى، أو من حقبة تاريخية إلى أخرى، وأن هناك حداثة واحدة، وعادة ما نعود للمعاجم الغربية لنعرف المعني الدقيق لأي مصطلح وماهو المقصود منه على وجه الدقة، وبعد أن نقرأ التعريفات المختلفة للمصطلح ونتقبلها كلها أو بعضها بأمانة بالغة، تصبح الإشكالية هي كيف نترجمه دون أن نختبر هذه التعريفات ومدي مطابقتها للواقع، سواء كان واقعنا أم الواقع الغربي، ودون أن ندرس المراجعات التي تمت بخصوص هذا المصطلح في الغرب، ودون أن ندرس تاريخ تطور الظاهرة الذي يشير إليها هذا المصطلح.
ومصطلح التحديث لايشكل أي استثناء لهذه القاعدة، فتوجد تعريفات كثيرة لمفهوم الحداثة، لكن ثمة ما يشبه الإجماع على أن الحداثة مرتبطة تماما بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أن الإنسان هو مركز الكون وسيده، وأنه لايحتاج إلا إلى عقله سواء في دراسة الواقع أو إدارة المجتمع أو للتمييز بين الصالح والطالح، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر،مصدر المعني والقيمة، والتكنولوجيا هي الآلية الأساسية في محاولة تسخير الطبيعة وإعادة صياغتها ليحقق الإنسان سعادته ومنفعته.
وجه دارويني
هذا التعريف قد يبدو للبعض تعريفا جامعا مانعا أو علي الأقل كافيا، ولكننا لوفحصنا الأمر بدقة أكبر لوجدنا أن الحداثة ليست مجرد استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا، بل هي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلة عن القيمة، أو كما يقولون بالإنجليزية:فاليو فر ضفٌِّمرنْمم،
وهذا البعد هو بعد مهم لمنظومة الحداثة الغربية، ففي عالم متجرد من القيمة تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم تصبح كل الأمور نسبية، وحين يحدث ذلك فإنه يصعب الحكم علي أي شيء، ويصبح من المستحيل التمييز بين الخير والشر وبين العدل والظلم، بل وبين الجوهري والنسبي، وأخيرا بين الإنسان والطبيعة أو الإنسان والمادة. وهنا يطرح السؤال نفسه كيف يمكن أن تحسم النزاعات والصراعات، وكيف يمكن أن نسوي الخلافات، وهي كلها من صميم الوجود الإنساني؟ في غياب قيم مطلقة، يمكن الاحتكام لها، يصبح الإنسان الفرد أو الجماعة العرقية مرجعية ذاتها، وتصبح ماتراه في صالحها هو الأساس وما ليس في صالحها هو الطالح. وقد أدي هذا إلى ظهور القوة والإرادة الفردية كآلية واحدة لحسم الصراعات وحل الخلافات.
هذه هي الحداثة التي تبناها العالم الغربي والتي جعلته ينظر إلى نفسه باعتبار أنه هو(وليس الإنسان أو الإنسانية) مركز العالم، وأن ينظر للعالم باعتباره مادة استعمالية يوظفها لصالحه باعتباره الأكثر تقدما وقوة، ولذا فإن منظومة الحداثة الغربية هي في واقع الأمر منظومة إمبريالية داروينية. هذا هو التعريف الحقيقي للحداثة كما تحققت تاريخيا، وليس كما عرفت معجميا، وهذا هو التعريف الذي يمكننا من قراءة كثير من الظواهر الحديثة.
كانت الظاهرة الغربية الحديثة تؤكد أنها حضارة إنسانية( هيومانية) جعلت من الإنسان مركز الكون، وكانت المجتمعات الغربية مجتمعات لاتزال متماسكة من الناحية الاجتماعية والأسرية، ولم تكن كثيرا من الظواهر السلبية التي نلاحظها بأنفسنا ونقرأ عنها في صحفهم ومجلاتهم، والتي أصبحت نمطا ثابتا وظاهرة محددة، كانت مجرد حوادث متفرقة لاظواهر دالة، ومن ثم كان من السهل تهميشها. واذا كان دعاة الإصلاح( من الليبراليين والماركسيين والإسلاميين) كلهم ينادون بضرورة اللحاق بالغرب(أي تبني منظومة الحداثة الغربية). ولم يكن هناك أي أصوات تعارض الحداثة أو تنتقدها، بل كان الجميع يسبح بحمدها، وقد كانوا محقين إلى حد كبير في هذا، فشكل الحداثة الذي أدركوه آنذاك كان أمرا يثلج القلوب.
ولكن تدريجيا تكشف الوجه الدارويني حين أرسلت الحداثة الغربية لنا جيوشها الاستعمارية لتهلك الأخضر واليابس، وتحول بلادنا إلي مادة استعمالية كمصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة، وسوق مفتوحة بشكل دائم للسلع الغربية، ويبدو أن المفكرين الإصلاحيين الأول لم يربطوا بين الحداثة الغربية والإمبريالية الغربية، فقد ذهبوا إلى العواصم الغربية ولم يروا سوى النور والاستنارة، في الوقت الذي كانت المدافع الغربية تدك بلادنا دكا، ولذا فهؤلاء الذين بقوا في بلادهم رأوا ألسنة النيران المندلعة، وسمعوا قعقعة القنابل، وشموا رائحة البارود.
سيوف الرومان وخيول اللنبي
يقول أحد كتب التاريخ إنه قيل لأحد الشيوخ الجزائريين إن القوات الفرنسية إنما جاءت لنشر الحضارة الغربية الحديثة في ربوع الجزائر، فجاء رده جافا ومقتضبا ودالا، إذ قال لم أحضروا كل هذا البارود إذن؟ لقد رأى هذا الشيخ علاقة الحداثة الغربية بالإمبريالية من البداية، وهو ما أدركه الكثيرون بعد ذلك. فعصر الاكتشافات الجغرافية وعصر النهضة في الغرب(القرن السابع عشر) هو أيضا العصر الذي بدأت فيه إبادة الملايين، وكما يقول الزعيم بن بيلا: إن هذا الإله الصناعي الحديث إغتال عرقا بأكمله(العرق الأحمر)، أي السكان الأصليين في الأمريكتين، وأخذ زبدة عرق اخر(العرق الأسود) عن طريق النخاسة واستعباد ملايين(مما يضع عدد ضحايا هذه العملية نحو مائة مليون إنسان) باعتبار أن عبدا واحدا يحتفظ به النخاسون الغربيون كان يقتل مقابله تسعة عبيد. ثم يشير بن بيلا إلي سكان المكسيك الذين تمت إبادتهم وإلي سكان الجزائر الذين أبيدت منهم الملايين في أثناء هباتهم المتكررة ضد الاستعمار الفرنسي، ويمكن أن نضيف إلى ذلك حرب الأفيون في الصين والمجاعات التي أصابت الهند بسبب تطبيق قوانين الملكية الغربية الحديثة، وحربين عالميتين كلفت الأولى
الإنسانية20 مليون قتيل، والثانية50 مليون قتيل، وقنابل هيروشيما ونجازاكي، وضحايا معسكرات الجولاج في الاتحاد السوفيتي. إن بطل رائعة الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال قد لخص الموقف ببساطة حين قال:إنني أسمع.. صليل سيوف الرومان في قرطاج، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس.البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك حديد أنشئت أصلا لنقل الجنود، وقد أنشؤوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم.
دولة القمع الحداثي
وقد جاءت هذه الجيوش الاستعمارية ففتت العالم العربي والإسلامي، وأخضعت شعوبه لكل أنماط الاستعمار:استعمار عسكري في مصر وسوريا ولبنان والمغرب والسودان والعراق وليبيا، واستعمار استيطاني في الجزائر، واستعمار استيطاني إحلالي في فلسطين، وقد تعاون هذا الاستعمار مع القوى التقليدية والرجعية في المجتمع، وحاول إعاقة تحديث عالمنا االعربي فقام بتحطيم تجربة محمد علي، أول تجربة تحديثية خارج العالم الغربي، ثم قاموا بقمع ثورة عرابي الشعبية، وساندت الجيوش الغربية الحديثة الخديوي ودعمته وساندته. ثم انتهى الأمر بأن أقامت هذه الجيوش الدول الحديثة التي لاتعرف من الحداثة سوى الأجهزة القمعية والأمنية. ثم زرع العالم الغربي الحديث في وسطنا بقوة السلاح مجموعة من المستوطنين الذين ادعوا أن فلسطين أرض بلا شعب وأنهم شعب يهودي يعود إلي أرض أسلافه حسب الرواية التوراتية.
ويطالب الصهاينة والأمريكيون في الوقت الحاضر بتحديث مؤسسات السلطة الفلسطينية، مع أنه من المعروف أن الصهاينة شأنهم شأن كل المستعمرين رفضوا من البداية التعامل مع القطاعات الحديثة في المجتمع الفلسطيني مثل نقابات العمال والأحزاب السياسية(بل قاموا باغتيال أحد زعماء نقابات العمال الفلسطينية قبل عام1948)، وفضلوا التعامل مع القطاعات التقليدية في المجتمع الفلسطيني، ظنا منهم أن هذه القطاعات قد تكون أكثر مرونة في التعامل معهم نظرا لعدم فهمها لطبيعة الهجمة الاستعمارية البريطانية/الصهيونية عليهم، ولكن خاب ظنهم، فحينما تحاور معهم بعض القيادات التقليدية(برئاسة الشيخ رشيد رضا) أبدى الفلسطينيون رغبتهم في تحديث مجتمعهم، ولم يجدوا أي غضاضة في الاستعانة برأس المال الأجنبي، والخبرة الأجنبية على أن يتم تطبيق المبادئ الديمقراطية، أي إجراء انتخابات حرة بحيث يكون لكل مواطن صوت، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحقيق السلام. فعلق حاييم وايزمان بقوله هذا هو سلام القبور، وهو كان محقا تماما في ذلك، فتطبيق المثل الديمقراطية في فلسطين كان يعني أن المستوطنين الصهاينة سيكونون أقلية، ولن يتحكموا في مصائر الفلسطينيين،
ولن يقيموا دولتهم اليهودية الخالصة التي يصرون عليها، والتي يدعمها الغرب الديمقراطي الحديث بكل ما أوتي من قوة، وقد قال أحد المعلقين الإسرائيليين إن الدولة الصهيونية لم تعد دولة ديمقراطية، وإنما دولة ديموجرافية(أي ذات أغلبية يهودية)
الحاجة إلى ست كرات أرضية
وهم الآن يطالبون بتحديث النظام السياسي العربي والنظام التربوي الإسلامي، ولكن التحديث هنا يعني في واقع الأمر تقويض المنظومات القيمية والثقافية التي تضفي علينا قدرا من التماسك يمكننا من مقاومة محاولات الغزو العسكري والثقافي، ولذا فقد وصف أحد المعلقين هذا النوع من التحديث بالتحديث الطبيعي، أي التحديث الذي يجعلنا نقبل الظلم الواقع علينا، والاستغلال الذي ينزفنا ويثقل كاهلنا، والآثار السلبية للحداثة الداروينية لم تلحق بنا وحسب، بل ظهرت على الكرة الأرضية، على الجنس البشري بأسره. فهذه الحداثة قد طرحت فكرة التقدم اللانهائي باعتباره الغاية النهائية للإنسان، ولكن التقدم دائما هو حركة نحو غاية، فلم تعرف هذه الغاية في المعاجم، ولكن في التطبيق نعرف كلنا أن غاية التقدم هي تسخير العالم بأسره لصالح الإنسان الغربي، وأصبحت أهم مؤشرات التقدم هو الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك، استهلاك الإنسان الغربي للموارد الطبيعية اللامتناهية، وانتهى الأمر بأن الشعوب الغربية التي تشكل20% من شعوب العالم تستهلك80% من موارد الكون الطبيعية، ويبلغ حجم ما استهلكه الشعب الأمريكي في القرن الماضي أكثر مما استهلكه الجنس البشري
عبر تاريخه، ولكن المصادر الطبيعية محدودة، الأمر الذي تسبب في الأزمة البيئية التي ستودي بنا جميعا، وقد جاء في إحدى الدراسات أنه لو عم التقدم بأسره على النمط الغربي فإن الجنس البشري سيحتاج إلي ست كرات أرضية ليستخلص منها المواد الخام، وكرتين ليلقي فيها بنفاياته، كل هذا يعني أن المشروع الحداثي الدارويني الغربي مشروع مستحيل لايستفيد منه سوى العالم الغربي، وبعض أعضاء النخب الحاكمة في العالم الثالث، وما العربدة الأمريكية الداروينية ضد العراق سوى تعبير عن إدراك المؤسسة الحاكمة الأمريكية لهذه الحقيقة، فهي تود الهيمنة على مصادر الموارد الطبيعية في عالم تتناقص فيه هذه الموارد حتي يمكنها الاحتفاظ للإنسان الأمريكي بمعدلاته الاستهلاكية العالية، فهذا هو وعد الحداثة الداروينية له.
ثمن مرتفع
وقد اتضح لنا جميعا أن الثمن المادي والمعنوي لمنظومة الحداثة الداروينية مرتفع للغاية، ولنأخذ الجانب المادي أولا: تتحدث بعض الدراسات عما يسمي رأس المال الطبيعي الثابت fixed natural capital أي العناصر الطبيعية التي لايمكن استبدالها، وثمة إحصائية تذهب إلي أنه لو تم حساب التكاليف الحقيقة لأي مشروع صناعي غربي(أي حساب المكسب النقدي المباشر مخصوما منه الخسارة الناجمة عن استهلاك رأس المال الطبيعي الثابت) لظهر أنه مشروع خاسر، وأن المشروع الصناعي الغربي قد حقق ماحقق من نجاح واستمرار لأن الجنس البشري بأسره قد دفع الثمن، وقام الإنسان الغربي وحده بأخذ الغنيمة، وقد أدى هذا إلى فداحة ثمن التقدم الذي تنادي به الحداثة الإمبريالية الداروينية: تآكل طبقة الأوزون تلوث البحار التصحر الناتج عن قطع الغابات النفايات النووية تلوث الهواء تزايد سخونة الغلاف الجوي
والحداثة الداروينية لها أثرها علي نسيج المجتمع، وعلى منظوماته الحاكمة.. ولنذكر بعض الظواهر الاجتماعية السلبية المختلفة:تآكل الأسرة تراجع التواصل بين الناس الأمراض النفسية تزايد الإحساس بالاغتراب والوحدة والغربة ظهور الإنسان ذي البعد الواحد هيمنة النماذج الكمية والبيروقراطية علي الإنسان تزايد العنف والجريمة(يعد قطاع السجون هو أسرع القطاعات توسعا في الاقتصاد الأمريكي) الإباحية( التكاليف المادية لإنتاجها والتكاليف المعنوية لاستهلاكها) السلع التافهة(التي لاتضيف إلى معرفة الإنسان ولاتعمق من إحساسه، والتي تستغرق وقتا إجتماعيا في إنتاجها واستهلاكها) تضخم الدولة وهيمنتها من خلال أجهزتها الأمنية والتربوية على الأفراد تضخم قطاع اللذة والميديا وغزوها حياةالإنسان الخاصة ودورها الضخم في صياغة صورة الإنسان وطموحاته وأحلامه، برغم أن القائمين علي هذا القطاع لم يتم انتخابهم ولاتتم مساءلتهم تزايد الإنفاق علي التسلح وأدوات الدمار الشامل(يقال إنه لأول مرة في التاريخ البشري ينفق الإنسان علي السلاح أكثر مما ينفق علي الطعام والملبس) ظهور إمكانية تدمير الكرة الأرضية إما
فجأة(من خلال الأسلحة النووية) أو بالتدريج(من خلال التلوث)، وكل مايسببه هذا من قلق للإنسان الحديث، وعند هذه النقطة تلتقي الآثار المادية بالآثار المعنوية بحيث لايمكن التفريق بين الواحد والآخر.
قبر يكفي لدفن العالم
وقد أدرك كثير من المفكرين الغربيين هذه الجوانب المظلمة للحداثة الداروينية، فعبارات مثل أزمة الحداثة وأزمة المعني والأزمة الأخلاقية كلها عبارات تتواتر في علم الاجتماع الغربي، وتدل على تنامي هذا الإدراك، وفكر الخضر تماما مثل رفض العولمة والرأسمالية المتوحشة وفكر مدرسة فرانكفورت، ونظريات التنمية الجديدة التي تتحدث عن التنمية المستديمة والدعوة إلى تطوير عولمة تراحمية هي كلها محاولات لرفض الحداثة الداروينية التي تهدد سكان الكرة الأرضية، وتهدد إنسانية الإنسان، وفي مجال نقده للحداثة الداروينية قال روجيه جارودي(قبل تحوله للإسلام):إن معركة عصرنا هي ضد أسطورة التقدم، والنمو على المنوال الغربي، فهي أسطورة انتحارية، وهي أيضا معركة ضد الأيديولوجية التي تتسم بالفصل بين العلم والتكنولوجيا(تنظيم الوسائل والقدرة) من جهة، والحكمة(التبصر بالغايات وبمعني حياتنا) من جهة أخري. هذه الأيديولوجية تتسم بأنها تؤكد فردانية متطرفة تبتر الإنسان عن أبعاده الإنسانية، وفي نهاية الأمر خلقت قبرا يكفي لدفن العالم.
وهو محق في ذلك تماما فالحداثة علي النمط الغربي بدأت بادعاء أنها ترى الإنسان مركزا للعالم وانتهت بكلمات ميشيل فوكو: لايسع المرء إلا أن يقابل بضحك فلسفي كل من لايزال يريد أن يتكلم عن الإنسان وعن ملكوته وعن تحرره.. فسيضمحل الإنسان مثل نقش على رمال الشاطيء تمحوه أمواج البحر، بدأ العالم بدون الإنسان وسينتهي بدونه، وما يتأكد في أيامنا هذه ليست غياب الإله أو موته بقدر ما تتأكد نهاية الإنسان.
إن وعد الحداثة الغربية كان هو تأكيد مركزية الإنسان في الكون، ولكن تحققها تاريخيا يسير بنا كلنا بخطى حثيثة نحو موت الإنسان بل وموت الطبيعة. والموقف الإنساني من الحداثة الداروينية المنفصلة عن القيمة هو جزء من هذه الثروة العالمية ومن المحاولة الرامية إلى مراجعة المفاهيم المعادية للإنسان التي سيطرت علي الحضارة الحديثة.
مشروع حداثي عربي وإسلامي
ولذا، فقد يكون من الأجدى أن يوحد الجميع قواهم وأن يتعاونوا على توليد المشروع الحداثي العربي والإسلامي كجزء من المحاولة الإنسانية العامة التي تحاول تجاوز الحداثة الداروينية، المنفصلة عن القيمة، المبنية علي الصراع، والتنافس والتقاتل والاستهلاك المتصاعد حتي نتوصل إلى حداثة إنسانية، تنطلق من إنسانيتنا المشتركة، حداثة تدير المجتمع بطريقة مختلفة، فهي لاترى الإنسان مادة محضة، ولاتنفصل عن القيمة.. وإنما تدور في إطار منظومة قيمية ترى أن تحقيق السعادة لايكون بالضرورة عن طريق زيادة الثروة ونهب الطبيعة، واستغلال الإنسان، وانما عن طريق تبني قيمة إنسانية تبني مثل العدل والتكافل والتراحم، والتوازن(مع الذات ومع الطبيعة)..وفي ذلك خيرنا.. وخير الإنسانية كلها.
والله أعلم
الدكتور عبد الوهاب المسيري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.