كشفت وزارة الصحة الأسبوع الماضي عن أرقام صادمة وواقع مفجع حول ظروف إقامة المرضى النفسيين بضريح"بويا عمر"، ورغم أن كثير أشياء من هذا الواقع المأساوي كانت معروفة من قبل بفضل تحقيقات الصحف وبيانات الجمعيات الحقوقية، فإن ما أعلن عنه وزير الصحة كان مرعبا ومثيرا للغضب، ويتطلب ترتيب خطوات عملية ملموسة ومستعجلة لتغيير هذا الواقع. المكان الذي نتحدث عنه هنا يعرفه الجميع، ومنذ سنوات عديدة، وتدري السلطات عنوانه وتفاصيل ما يجري بداخله، لكن الجميع كان وفيا لأسلوب"كم حاجة قضيناها بتركها"، واليوم سبق لوزير الصحة أن تحدث عن هذه المأساة ووعد بالانكباب عليها، وهو ما فعل، وقدم دراسة ساهم في إعدادها متدخلون كثيرون، وأعلن عن خطوات سيتم اتخاذها. ربما تكون هذه القرارات غير كافية، ولكنها أيضا تأتي لمعالجة واقع صار معقدا ومركبا وله امتدادات، ما يفرض تركيزا ودقة وميزانيات وبدائل عملية، لأن المعضلة ليست مجرد قرار إداري يمكن إلغاؤه بتوقيع، وإنما هي مرتبطة بظاهرة ثقافية واجتماعية أفرزت واقعا ريعيا ولوبيات مستفيدة فضلا عن ضحايا يعانون من مآسي وانتهاكات، وكل هذا يتطلب اليوم المعالجة برصانة وذكاء وضمن مقاربة شمولية. المرضى والمدمنون هم في حاجة للعناية والعلاج، والظاهرة ككل تتطلب وجود عرض صحي عمومي كاف في مجال الصحة النفسية والعقلية بمختلف جهات المملكة، ذلك أن اللجوء إلى الأضرحة ينتشر في مناطق عديدة بالبلاد، و"بويا عمر" نفسه يقصده الناس من جهات وأقاليم مختلفة، وهذا يعني الحاجة إلى تثقيف وتوعية وتحسيس عبر مختلف الطرق، وبمساهمة السلطات المحلية ومختلف الفاعلين المدنيين في كل الجهات، والفقهاء والعلماء في المساجد، والهيئة التربوية في المدارس، ووسائل الإعلام، وخصوصا الإذاعة والتلفزيون، ومهنيي الصحة ومنظمات المجتمع المدني... لا بد إذن من إنماء الوعي وسط شعبنا وإنقاذه من الشعوذة والدجل. من جهة ثانية، بلادنا في حاجة لتكوين وإعداد أطباء وممرضين في مجال الصحة النفسية والعقلية بالعدد الكافي وتغيير النسب المتوفرة اليوم، كما يقتضي الواقع اليوم إيجاد فضاءات كافية للعلاج بمناطق مختلفة حتى لا يعمد الناس إلى اللجوء للأضرحة والدجالين. يجب أن يكون متاحا للمرضى الولوج للعلاج في مراكز عمومية تتوفر فيها الكفاءة وجودة الخدمات وحسن الاستقبال والرعاية، وتكون قريبة من أسرهم، ويتوفر لهم فيها الاندماج اللازم والتأهيل المطلوب، بالإضافة إلى حماية حقوقهم، وكل هذا يتطلب إرادة جماعية قوية ورصد اعتمادات مالية كافية وإعمال تخطيط وبرمجة ناجعين وبلا أي تماطل أو تسويف أو بيروقراطية. يمكن مثلا الآن تشديد المراقبة حول ما يجري داخل"بويا عمر" وغيره، والحرص على حماية حقوق المرضى وتحسين ظروف إقامتهم وعلاجهم الطبي، ولكن في إطار الانكباب المستعجل والمستمر على نقل المرضى تباعا نحو مراكز علاجية حقيقية يتم تخصيصها لهم في أكثر من جهة، وبالتالي تطوير منظومة عمومية وطنية متكاملة تتيح حق العلاج والتأهيل للمرضى... لقد وضع وزير الصحة يده على ملف آخر من جراح قطاعنا الصحي الوطني، وهو يستوجب مساندة جماعية من كل القطاعات الحكومية ومن القطاع الخصوصي ومنظمات المجتمع المدني والمهنيين وهيئات حقوق الإنسان لكسب هذه المعركة ولتوفير البديل العملي القادر على إنقاذ مئات المرضى والتخفيف عن أسرهم... مهما كان الأمر يتعلق بمأساة، فهو نتاج ظاهرة اجتماعية وثقافية وواقع استمر لعقود وصارت له تعقيداته وخيوطه المتشابكة ومنظومته الريعية الممتدة، وليس وزارة الصحة وحدها من تستطيع اليوم حل كامل هذه الإشكالية، التي للتذكير لم تحرك ملفها الحكومات السابقة، وإنما الأمر يفرض اليوم مساندة وزير الصحة ودعمه بغاية النجاح في ذلك... هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته