تشكل الأحزاب السياسية الملامح البارزة للديموقراطية في العصر الحديث باعتبارها تمثل الارادة الشعبية، وهي آليات ضرورية لأي مجتمع لتدبير الاختلاف بين التيارات الفكرية والإيديولوجيات السائدة داخله، عوض التطاحن والتنافر بينها، وهو الأمر الذي قد يهدد كيان ووحدة البلاد. فبدل التناحر القبلي والمذهبي الذي كان سائدا بالمغرب قبل ظهور نواة الأحزاب السياسية، أصبحت هذه الاخيرة ترمم الشقوق والتصدعات عبر الاهتمام بكل الأفكار والمطالب والاحتياجات وتطرحها في برامج انتخابية منذ الاستحقاقات الانتخابية لسنة 1960 التي عملت على ضمان مساهمة الجميع في بناء الدولة المغربية الحديثة بعيدا عن منطق الحكم الشمولي أو نظام الحزب الوحيد، وبعد أن مكن ظهير 1958 المواطنين والمواطنات من الحق في تشكيل الاحزاب والترشح للانتخابات وانتخاب من يمثلهم في مؤسسات الدولة. فالأحزاب في الأنظمة الديموقراطية تقوم بوظيفة غاية في الأهمية تنظيمية وتأطيرية وتثقيفية وتوعوية عن طريق تكثيف اتصالها بالقواعد والجماهير الشعبية فتنشر قيم المواطنة والمسؤولية القائمة على مبدأ المشاركة والمبادرة، وإن اختلفنا في تقييم درجة انتساب بلادنا للمنتظم الدولي الديموقراطي الذي سبقنا بكثير من خلال تقييم ومقارنة بسيطة للممارسة الديموقراطية، فإن الأحزاب السياسية المشكلة بالمغرب قبل سنة 1956 وبعدها قد سارت وفق التعاريف التي أعطيت للاحزاب ولعبت نفس الوظائف والأدوار، حيث رفعت شعار الاصلاح وخدمة الصالح العام، ودبجت هذه القيم والمبادئ في أدبياتها، كما هو الشأن في حزب العدالة والتنمية أو غيره من الأحزاب، حيث نجد الأحزاب المغربية الوطنية منها والادارية تحمل أدبياتها نفس الأهداف والمبادئ مع اختلاف في العمق والفهم. فمنذ إعادة تشكيل حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية؛ الذي اصبح يحمل اسم حزب العدالة والتنمية، عمل هو ايضا على رفع شعار الاصلاح في ظل الاستقرار بقوة منذ سنة 1998، حيث تعتبر هذه السنة انطلاقة ثانية للحزب الذي عرف التحاق أعضاء حركة التوحيد والاصلاح به، فتم الاهتمام بالتنظيم الحزبي، حيث ساهم تنظيم حزب العدالة والتنمية في تقوية جماهيريته، وأيضا في تحقيق انسجام أفكار اعضائه ونحت مواقفهم وملائمتها مع الواقع الميداني، حيث تم الانتقال من ادبيات "حركة التوحيد والإصلاح"؛ كمؤطر لسياسة الحزب ومناضليه، الى إنتاج خطاب ورؤية سياسية جديدة للحزب نابعة من الممارسة الميدانية التي كشفت عن مجموعة من الاختلافات والتناقضات والاختلالات في الادبيات النظرية السابقة، فتم إعادة تاطير الكوادر عبر مبادئ حديثة للعمل الحزبي انطلاقا من النماذج السائدة في العالم العربي والاسلامي ثم من خصوصية التجربة المغربية التي أخضعت الممارسة الديموقراطية لشروطها، فتم العمل على تقوية التنظيم الحزبي بفرض الانضباط اللازم للقرارات المتخدة في هياكله ، مع ترك مرونة في شق التعبير عن الافكار، وهو ما أضحى يعرف داخل الحزب بمقولة "الرأي حر والقرار ملزم"، التي استطاعت أن تجنب الحزب لعنة الانشقاقات التي عرفتها الظاهرة الحزبية بالمغرب بدءا بانشقاق حزب الاستقلال، ثم انشقاق حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مرورا بانشقاقات حزبية كثيرة، حيث عرف الحزب حرية كبيرة في التعاطي مع القضايا والأزمات، لكن مع فرض انضباط قوي للقرارات المتخذة من طرف مؤسسة الحزب. واستهلت وثيقة الورقة المذهبية لحزب العدالة والتنمية المصادق عليها في المؤتمر الوطني الخامس يومي 10 و11 ابريل 2004 في الفقرة الثانية "يسعى حزبنا الى ان يكون اضافة نوعية تثري التجربة الديموقراطية وتغني الحياة السياسية الوطنية وتسهم في تخليقها وبعث حركيتها لدعم التنافس الديموقراطي الشريف الذي يكون في خدمة المصلحة العليا للوطن، ان بعث هذه الحيوية وتخليق الحياة السياسية والحزبية وتدبير الشان العام يعتبر من منظور حزبنا مدخلا رئيسيا لانجاز تنمية شاملة قادرة على مواجهة التحديات التي تعيشها بلدنا على كافة المستويات". منطلقات واضحة حددت بوصلة الفعل لدى مناضلين تكاثفوا لحمل مشروع مجتمعي إصلاحي في مجتمع مغربي فقد ثقته في الأحزاب السياسية ونخبها التي جرت من تحت أقدامهم أدران كثيرة منذ انبلاج النضال الحزبي إبان الاستعمار الفرنسي ثم في عهد الاستقلال إلى اليوم. سنوات خلت من العمل السياسي الحزبي لم يستطع اي حزب فك شفرة الاصلاح المنشود، ولا زال المغاربة يحنون إلى تجربة حكومة عبد الله ابراهيم التي استمرت لسنتين يتيمتين من 1958 الى 1960، فرغم تعاقب الكثير من الأحزاب والشخصيات على التدبير الحكومي إلا أن مؤشرات التنمية والديموقراطية ظلت تراوح مكانها منذ الاستقلال الترابطي الذي أبدعته فرنسا وقبلته معظم مكونات الحركة الوطنية. ورغم قيادة حزب العدالة والتنمية لسفينة الحكومة منذ انتخابات 2012 التي تلت التعديل الدستوري لسنة 2011 بصلاحيات واسعة وغير مسبوقة في المشهد السياسي المغربي، فإن المواطن المغربي لازال يتساءل اليوم، ماذا تغير؟ فالمنطق يقول إنه لا شئ ثابت، فإما ان يحدث تغيير إيجابي في المشهد، بمعنى حدوث نقلة نوعية في وضعية المغرب الديموقراطية والتنموية، وإما ان تغييرا قد حدث للذات الحزبية التي لم تستطع القيام بالإصلاح المحدد في عقيدته الحزبية وغدا الحزب يراوح مكانه بسبب ضياع أو ضبابية رؤيته واستراتيجيته للإصلاح في واقع مغربي يعرف خصوصية قوة الادارة المتحكمة في كل مفاصل الدولة. وسأنطلق في تحليل هذا المعطى من استحضار الخصوصية المغربية في تجربة حكومة التناوب التوافقي سنة 1998 التي شكلت تجربة فريدة عندما أسندت رئاسة الحكومة لحزب قاد المعارضة منذ 1975 فيما قاد قياديوه من قبيل عبد الرحمان اليوسفي النضال التحرري والعمل السياسي قبل هذا التاريخ بكثير، حيث عرف المغرب سنة 1998 بداية تجربة الانتقال الديموقراطي بعد أن كان قاب قوسين من ذلك سنة 1992. وقد عرفت هذ التجربة انتكاستها الأولى عند تشكيل سنة 2002 كما صرح محمد اليازغي في نقاش حول وثيقة 28 نونبر 2003 الصادرة عن المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي: "أما فيما يتعلق بالحكومة الحالية فقد سبق لحزبنا ان انتقد غياب المنهجية الديموقراطية عند تأسيسها…." ، وكما صرح عبد الرحمان اليوسفي من مدينة بروكسيل يوم 25 فبراير 2003 ، " اما عن مشاركتنا ، وكيفما كان عدد وأهمية المناصب الوزارية ، فانها قد تعني اننا نزكي منهجية غير ديموقراطية في الانتقال الديموقراطي ، مع افتراض وجود ارادة سياسية فعلية لتحقيق هذا الانتقال". هنا، وأمام التشديد على وجود إرادة بينة للانتقال الديموقراطي والاصلاح عند الرجل الذي قاد التناوب التوافقي، فإننا نطرح سؤالا منهجيا: هل استطاع حزب العدالة والتنمية أن يحقق ما عجزت عنه حكومة التناوب التوافقي برئاسة عبد الرحمان اليوسفي؟ هل استطاع حزب العدالة والتنمية ان يحقق تراكما إيجابيا خلال الولايتين التدبيريتين للحكومة المغربية؟ قبل تجربة العدالة والتنمية في التدبير الحكومي تساءل الدكتور محمد نجيب بوليف في كتابه "الديموقراطية صنع المغرب" الصادر سنة 2010 إبان ترأس حزب الاستقلال للحكومة المغربية بعد ولاية حكومية للتكنوقراطي ادريس جطو، عن مآل التغيير المنشود ونجاعة التدبير الحكومي للتنمية بالمغرب حيث قال في كتابه: "…ألم يكن بوسع المغرب، بإمكانياته المادية والبشرية المتوفرة، أن يكون أفضل مما هو عليه الآن لو أنه انتهج طريقة أخرى في التسيير والتدبير؟ …."، وهو نفس السؤال الذي يطرحه اليوم الكثير من المفكرين والسياسيين بعد تجربة العدالة والتنمية في قيادة سفينة التدبير الحكومي، أي أن المتتبع للشأن السياسي بالمغرب سيقف على خلاصة أولية مفادها أن لا اختراق نوعي في نموذج تدبير الدولة في مرحلة العدالة والتنمية. وهنا نتساءل مع مناضلي حزب العدالة والتنمية ومتعاطفيه، لماذا لم يجد الحزب الطريق التي تؤدي للإصلاح؟ سؤال أظنه اليوم مشروعا ونحن على مشارف انتهاء الولاية الثانية من تدبير الحزب للحكومة المغربية، ماذا تحقق في ممارستنا الديموقراطية؟ ثم لماذا لم نتطور ديموقراطيا وفشلنا تنمويا؟ بينما تطورت دول أخرى كانت ترافقنا في التخلف عن الركب. فرغم وضوح رؤية حزب العدالة والتنمية للإصلاح بمستوياته وبمواصفاته فإن الحزب الذي قاد الحكومة لولايتين قد يجد نفسه خارجها ولم يحقق شيئا استراتيجيا في معركة النضال الديموقراطي من داخل المؤسسات، ربما تنبأ بذلك الاستاذ والوزير السابق الدكتور محمد نجيب بوليف حينما قال ان الذي يسير بسرعة 100 كلم في الساعة كمعدل، قد يتفاجأ بانه يتراجع عندما يرى واقع ان فاعلين آخرين يتحكمون في تدبير الشأن العام يتقدمون باكثر من 120 كلم، مما يدفعنا للتساؤل: هل هؤلاء الفاعلون لهم أيضا إرادة سياسية حقيقية للإصلاح؟ ذلك أن سؤال إرادة الاصلاح عنصر اساسي في نجاح أي حزب في مشواره السياسي. بعد مرور أزيد من 8 سنوات من التدبير الحكومي، كان من المفروض أن تظهر بعض المؤشرات الحقيقية للاصلاح السياسي والديموقراطي المنشود، والتي اتخدته الحركة الدعوية التي أفرزت حزب العدالة والتنمية شعارا لاسمها مقرونا بالتوحيد لله "حركة التوحيد والإصلاح"، فهل تمكن من التدرج كمبدأ للعمل الإصلاحي؟ هذا المبدأ الذي شكل خيارا للحركة في ميثاقها في أفق تفكيك جزء من المنظومة المتحكمة والتي يرى البعض انها تتمظهر كأنها دولة داخل دولة؟ هي أسئلة منهجية للتفكير في جدية المسار الذي اتخده الحزب الذي يعتبر الفاعل الاساسي والأبرز في الحقل السياسي منذ وصول رياح الربيع العربي الى أكثر من 150 مدينة مغربية وأخرجت ساكنتها إلى الشارع للاحتجاج عن عقم السياسة بالمغرب ولتعبر عن عدم رضاها عن طريقة توزيع الثروة بالبلاد، بعد أفول نجم حزب قاد النضال السياسي منذ مؤتمره الاستثنائي سنة 1975، إلا أنه أدى ضريبة الصراع مع جيوب المقاومة؛ كما سماها عبد الرحمان اليوسفي، حيث استنزف قواه في العمل السياسي متناسيا شحذ قواه التنظيمية واستمرار إنتاجاته الأدبية المؤطرة لمراحل النضال الديموقراطي. وهي سيرورة لن ينجو منها أي حزب إذا ما توفرت نفس الشروط، فوضعية الجمود الديموقراطي والتنموي خيمت على المغرب منذ انحصار موجات الزلزال الاجتماعي العربي وتصاعد ارتدادات الموجات المضادة لقوى النكوص الداخلية والاقليمية، فلم يعد يسمع صوت الإصلاح بقدر ما علا صوت البلوكاج والحصار السياسي. ومعركة القاسم الانتخابي اليوم التي تهدف محاصرة حزب العدالة والتنمية وتفتيت حصته البرلمانية، في أفق إنزاله عنوة من منصب ريادة العمل السياسي والحزبي بالمغرب تشبه ممارسة الأمس حينما استعمل التقطيع الانتخابي للتحكم القبلي في نتائج العملية الانتخابية التي جرت سنة 2007 ، حيث تم تعديل التقطيع الذي كان سائدا منذ سنة 2002 وذلك في اتجاه إحداث دوائر جديدة، أو تقسيم الدائرة الى دوائر صغيرة وإغراق التقطيع بدوائر ذات مقعدين أو ثلاث مقاعد، أو تقليص عدد مقاعد بعض الدوائر بالمقارنة مع التقسيم السابق خصوصا في المدن الكبرى ذات الكثافة السكانية الكبيرة، وذلك للحد من تأثير مفعول نمط اللائحة المطبق وتكريس نمط الاقتراع الفردي وتكريس تشتيت المدن الكبرى عوض توحيدها، ويفتح المجال لشراء الاصوات وتدخل الادارة، وكانت مدينة طنجة مثالا صارخا لهذا الحيف، حينما تم إدماج مقاطعة بني مكادة، لتمنح طنجةاصيلة ذات المليون نسمة 4 مقاعد فحسب، فيما أسندت لفحص انجرة مقعدين بعدد سكان اقل من 100 الف نسمة، وهو ما دفع أمين عام حزب العدالة والتنمية آنذاك؛ الدكتور سعد الدين العثماني، إلى رفع بيان حول التدبير الحكومي السي للانتخابات التي جرت في 7 شتنبر 2007. نفس الانماط للتحكم في المشهد السياسي استعملت لمحاصرة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في ريعان شبابه وعنفوان قوته التأطيرية تستعمل اليوم لتقليم أظافر حزب العدالة والتنمية المتصدر للعملية السياسية، وهي وضعية غير طبيعية لمن لا يفقه محددات اللعبة السياسية بالمغرب، حينما يرى أن امين عام حزب العدالة والتنمية الدكتور سعد الدين العثماني الذي يتم محاصرة حزبه بالقوانين المؤطرة للانتخابات هو نفسه رئيس الحكومة المنتجة لهذه السياسة التي تشوه الممارسة الديموقراطية ببلادنا. فكيف سيحدث الاصلاح اذا كانت منهجية واستراتيجية الاصلاح من الداخل لا تؤتي اكلها ، وما مصداقية العمل السياسي برمته لحزب العدالة والتنمية ، فهل سننتظر الشروع في الاصلاح من خارج مؤسسة الحكومة ؟ اظن جازما ان الحزب يجب ان ينخرط في التفكير من الان في نقد ذاتي حقيقي حيث يتم تقييم المرحلة بسماتها وخصائصها ، فهي مرحلة استثنائية في تاريخ وطننا قام الحزب بتدبيرها ، وهو ما يفرض تحديد نقاط القوة للبناء عليها وتشخيص نقط الضعف للعمل على معالجتها قبل فوات الاوان ، فتجربة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية شاخصة اليوم تفتح اسرارها لكل راغب في خوض معركة النضال الديموقراطي حقيقة وليس مجازا . هي مقارنة تجعلنا نتساءل عن واق القوة التنظيمية الحزبية اليوم في حزب العدالة والتنمية ؟ ولماذا تراجع الحزب في مجال الاستقطاب خصوصا في فئة الشباب والنساء والطاقات الكفؤة بالمجتمع وفي فئة رجال الاعمال والمفكرين والادباء …؟ وهل الحزب لازال يستطيع احتضان الرأي المخالف للقيادة ؟ ولماذا لم يستطع الحزب ان يذوب في جسم الدولة بدل ان يصبح مكون فريد ومختلف عن باقي المكونات ؟ وهل الحزب لازال اليوم قدره ان يحمل بعض سمات النشاة في ربطه بين الاصلاح السياسي والدعوي ؟ هي نقاط يجب ان يشملها النقد الذاتي ، بحيث يجب ان تعطى لها اهمية لكونها عناصر محددة لبقاء قوة الحزب وتجديد مساره النضالي ، فقوة الاحزاب المغربية هي ما ستجعلنا نلحق بركب الدول الديموقراطية التي استطاعت ان تنجح في تحقيق النمو والرفاه لشعوبها .