- على سبيل البدء.. خلفت وفاة الطالب القاعدي مصطفى المزياني الكثير من اللغط ومن ردود الفعل، في المواقع الاجتماعية، كما على صفحات الصحافة الوطنية بشقيها الورقي والإليكتروني. حيث توزعت الآراء بين من اعتبر الوفاة انتحارا غير مبرر، أقدم عليه طالب من أجل قضية لا تحتاج كل هذه التضحية غير العادية، والتي وصلت إلى حد إلقاء بالنفس إلى التهلكة. مما ينفي –حسب هذا الفريق- اعتبارها "شهادة" بالمفهوم الشرعي للكلمة؛ (الشرع-هاهنا- بالمفهوم الاصطلاحي الديني) لانتفاء الشروط التي يطوِّق بها الشارع الحكيم القتيل الذي ينال هذا الوسم المشرف، في المتوفى إيَّاه. لذلك فالأنسب لهذه الوفاة- حسب هذا الفريق- هو الانتحار وليس الاستشهاد !!!. ومن ارتفع بالطالب مصطفى المزياني إلى مصاف شهداء اليسار المغربي الكبار من أمثال الشهيد المهدي بن بركة، والشهيد عمر بن جلون، .. كما قلده وسام الشهادة من درجة:"شهيد الشعب المغربي" الذي ضحى بنفسه في مواجهة الظلم والاستبداد. كما اعتبر هذه الوفاة وصمة عار في جبين الحكومة (حكومة الأقلية على حدِّ تعبيره)، التي اشتركت قطاعاتها المختلفة في عملية وأد حلم طالب مغربي في متابعة دراسته، في خرق سافر لحق من الحقوق الأساسة التي يكفلها القانون ومعه كل المواثيق الدولية للمواطنين- كل المواطنين- بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الأيديولوجية. كما اعتبر،هذا الفريق، إقدام رئيس الحكومة ووزيره في التعليم العالي على التعبير عن تضامنهما الخاص واللامشروط، في وفاة طالب، من فريقهم، استشهد في رحاب الحرم الجامعي، وعدم تحريك أي ساكن إزاء استشهاد الطالب مصطفى المزياني؛ حالة صارخة للتمييز الفج بين المواطنين المغاربة من قبل المسؤولين المغاربة الذين يفترض فيهم أن يتعاملوا بمساواة مع كافة المواطنين المغاربة على اختلاف توجهاتهم الفكرية، وقناعاتهم السياسية، أوالأيديولوجية، أوالدينية... بيد أن الذي استفزنا أكثر ونحن نتابع الحيثيات النقابية، والتداعيات السياسية، لهذا الملف؛ جنوح البعض إلى استصدار أحكام شرعية في حق المتوفى، تنفي عنه صفة الشهادة، وتحسم في مصيره الأخروي بين يدي ربه. بل ذهب البعض، أكثر من ذلك، حينما استبق حكم القضاء في ملف مقتل الشهيد عبد الرحيم الحسناوي، واعتبر ما وقع للطالب المزياني عبارة عن انتقام إلهي بسبب ولوغه في دم الشهيد الحسناوي،...آلخ !!. وهذا الأمر ذكرني بنقاش سابق عرفته الساحة الفكرية المغربية، وانخرطنا فيه، حول فتوى للسيد عبد الباري الزمزمي أثارت الكثير من النقاش، ومن ردود الفعل الغاضبة من قبل التيار اليساري المغربي، خصوصا الاتحادي منه..،أورد بعض حيثياته الباصمة التي لها ارتباط بالموضوع المُثار، قبل أن أختم بوجهة نظر خاصة حول وفاة الطالب مصطفى المزياني.. - الشهادة بين مرجعيتين: أصدر السيد عبد الباري الزمزمي، منذ عدة سنوات، فتوى ينفي فيها صفة الشهادة عن قتلى اليسار وعلى رأسهم الشهيد المهدي بن بركة. وقد رددتُ عليه- آنئذ- في إحدى الصحف الوطنية بمقالة عنونتها ب:"إلى السيد عبد الباري الزمزمي: قتلى اليسار شهداء، ولكن...!!"، أوضحت فيها أن لفظة الشهادة من الألفاظ العامة القابلة للتخصيص. فهي لاتخص شخصا دون شخص، أو فريقا دون فريق، أو ملة دون ملة، أو حساسية ايديولوجية دون حساسية،... إذ يشترك الجميع فيها من حيث إنها عنوان على مرتبة مشرفة ينالها" قتيل قضية عادلة". بيد أن وجه التخصيص فيها أن كل مرجعية أيديولوجية تنفرد، عن سواها، في تقييم تبعاتها، ولواحقها، وجزاءاتها،... فالشهيد في المرجعية الإسلامية، التي تمتح أصولها من الكتاب والسنة، من قاتَل لإعلاء كلمة الله. فقد سئل الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذْكَر، ويقاتل ليُرى مكانُه، من في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) رواه مسلم. وفي القرآن: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)] (آل عمران)...فقد ربط الله تعالى القتل، الذي يترتب عنه الحصول على وسام الشهادة التي من أفضالها ما ورد في الآية الكريمة، بأن يكون في سبيله. أي: أن يكون مقصود القتيل من نضاله، وجهاده، وجه الله تعالى لا سواه. سواء كان ذلك في طريق المدافعة السياسية، أو النقابية، أو الحقوقية،...أوفي طريق الدفاع عن النفس، أو المال، أو الأهل، أو الوطن،... المهم أن يكون مقصوده الله تعالى. إذ النية شرط أساس في قبول الأعمال- كل الأعمال- من عدمه . ولقد جاهد مع الرسول (ص) رجل أبلى البلاء الحسن فيما يبدو للناس؛ ثم قُتِل بعد أن أثْخَن في الكفار. ورغم ذلك قال عنه الرسول (ص): "إنه في النار". لأن نيته التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وأعْلمَها نبيه (ص)، لم تكن لله تعالى، بل كانت لأغراض دنيوية سواه (رد وصمة العار التي لحقته من النساء بسبب تخلفه عن غزوة أحد). وإن كنا لا نقدر- بعد توقف الوحي- أن نحكم بمصير أيًّا كان، هل هو شهيد بمفهومه الشرعي الآنف أمْ لا؛ فحسبنا أن نقول للمؤمن القتيل في سبيل الله:" نحسبه شهيدا والله حسيبه" !! أما الشهيد في المرجعية المادية، فهو كذلك "قتيل قضية عادلة"، تقام له التكريمات، والذكريات، ويمجد عند أصحابه، وتذكر أمجاده، وتركاته الفكرية، والنضالية، وعطاءاته في الدنيا، وقد يتدخل العالم للقصاص له... أي كل ما يهم من دنياه فقط. بيد أن آخرته، ومصيره عند ربه، فلا يهم هؤلاء من قريب ولا من بعيد!! فلقد لاحظنا أن هذا التيار يولي الأهمية الأكثر لهذه البصمات التي قد يخلفها شهداؤهم، في حين لا يعيرون أي اهتمام لسواها مما له ارتباط بآخرة الشهيد؛ إذ يعتبرون ذلك شأنا خاصا غير ذي جدوى. وهذا هو المَكْمَن الفارق بين نظرة كلا المرجعيتين إلى هذا الوسم النبيل. فالذي يصدر عن المرجعية الاسلامية يميل أكثر إلى المترتبات الجزائية للشهادة في الدار الآخرة؛ إذ يؤمن بأن للشهيد عند الله تعالى مرتبة عالية، وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأن الله قد أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،...لذلك تجده يترحم على الشهيد، ويدعو له، ويتمنى ان يتقبله الله في الشهداء عنده؛ ليناله من أفضال هذه المرتبة ما لا يعلمه إلا الله. كما يتمنى أن يلحقه الله به؛ فيذكر بمواقفه، وأعماله، وإنجازاته التي كانت منه في الحياة الدنيا والتي يُرَجِّح له الإخلاص فيها. كما يذكر بحاله مع الله من حيث قيامُه بواجباته الدينية، والتزامه بطاعة ربه،...ورغم ذلك كله فإنه لا يحسم بفوز هذا القتيل بهذه المرتبة الخاصة عند الله، بل يكل علمها إليه سبحانه وتعالى، لارتباط الفوز بها بالنية التي استأثر الله وحده بعلمها. لذلك فعندما نذكر اسم هذا القتيل نضيف إليه عبارة "الشهيد بإذن الله" . إذ الله وحده هو العليم بحاله ومصيره؛ ف" رُبَّ قتيل وسط الصفوف الله أعلم بنيته" كما ورد في الحديث. أما الذي يصدر عن المرجعية المادية، فلا يهتم إلا بما يربط، هذا الشهيد، بالحياة الدنيا؛ من عطاء، ومكانة، وتركة فكرية أو نضالية، تبقى للناس؛ ثم بما يرسخ له من ذكر الناس، وخلود اسمه في التاريخ ... ! خلاصة: بناء على ماسبق، نرى أنه من حق كل فريق أن يسمي قتيله بالشهيد، مادامت الشهادة في معناها العام هي القتل من أجل قضية عادلة. وتبقى الجزاءات والمترتبات الدنيوية أوالأخروية تمتح أساسها الشرعي (أقصد –هاهنا- المعنى اللغوي لعبارة: الشرع) من القناعة الأيديولوجية لكليهما...!!! - أخيرا.. كلمة في حق الطالب مصطفى المزياني.. إن الذي نعرفه عن الطالب مصطفى المزياني –رحمه الله- من خلال الإعلام - أنه احتج بطريقته الخاصة، لاسترداد حقه في التسجيل، وإبطال تهمة القتل عنه. وإن كنا ننأنى عن أنفسنا أن نتدخل في قضية مرفوعة أمام أنظار القضاء؛ إلا أننا لا نملك إلا أن نزعم أن الدواعي التي دفعت بهذا الطالب للاحتجاج، دواعٍ لا غبار عليها. وأن نضاله من أجل رفع الحيف عنه، لا اعتراض عليه. كما لا نملك– ولا يملك كل أحرار العالم- إلا التضامن معه في نضاله المشروع من أجل انتزاع حقه في متابعة الدراسة. لذلك فوفاته من أجل قضية عادلة، مما لا مراء فيه. كما ندين– بموازاة ذلك- كل المواقف المُشيطنة التي عبر عنها مناوئوه الذين ولغوا في النبش في نيته وقرروا في مصيره بين يدي ربه، حتى ربطوا نضاله بأمور لا علاقة لها بالموقف الذي عبر عنه، وجعله مقصده من الاحتجاج. مما أسقط الكثير منهم في جرم التَّأَلِّي على الله –الغفور الرحيم- في أمر هو من محض اختصاصه الذي لم يشركه أحدا من عباده، وهو قراره –سبحانه وتعالى- في مصير عباده (إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) . فقد جاء في الحديث القدسي عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : " قَالَ رَجُلٌ : وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلِيَّ أنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ " (رواه مسلم). فقد أُمِرْنا أن نحكم بالظاهر والله وحده يتولى السرائر، كما أمرنا أن نذكر موتانا بخير ... ومن أحسن ما قرأتُ وقدَّرتُ، في هذا السياق، ما كتبه أحد الخصوم المُفْتَرَضين للتيار القاعدي –البرنامج المرحلي- حول وفاة الطالب القاعدي مصطفى المزياني؛ حيث كتب يقول:" هناك في الجانب الآخر بعض الناس يهاجمون مصطفى المزياني منهم من أصدر فتوى دخوله جهنم ومنهم من قال أنه لا تجوز عليه الرحمة ومنهم من قال عقاب السماء ... شخصيا تألمت كثيرا لوفاة الطالب مصطفى المزياني. فقد خاض معركته من أجل ما يراه حقاً بكل ما أوتي من قوة، ولا يضحي شخص عاقل بحياته إلا من أجل شيء يراه أعظم وأثمن من الحياة. (...) لن أتكلم في الموقف الشرعي من موت الطالب مصطفى المزياني فذلك ليس من اختصاصي وحتى العلماء وأهل الاختصاص أصبحوا يخيفوننا بمواقفهم واجتهاداتهم الشاذة والغريبة، لكن معرفتي البسيطة بديننا الحنيف السمح علمتني أن الجنة سندخلها برحمة الله وأن مفاتيحها بيده سبحانه تعالى، ومن فضله وعلمه ورحمته أنه لم يعط هذه المفاتيح لأحد من خلقه". ا.ه (مصطفى بابا؛ الكاتب الوطني لشبيبة العدالة والتنمية). فالله نسأل له وللشهيد الحسناوي، الذي لم تتدخر – بالمناسبة- غالبية تصنيفات اليسار المغربي الوطني جهدا في التضامن معه، وتبني قضيته؛ المغفرة والرحمة، إنه ولي ذلك ومولاه... دمتم على وطن... ! صالح أيت خزانة -------------- ملحوظة: لا يفوتنا أن نسجل-هاهنا- أن حالة الطالب القاعدي الشهيد مصطفى المزياني قد لقيت تعاطفا كبيرا من مختلف تلوينات الصف الإسلامي المناضل، بذات الزخم والكم الذي عرفته حالة الطالب الإسلامي الشهيد عبد الرحيم الحسناوي من قبل أغلب تصنيفات اليسار التقدمي. والسر في ذلك أن كل هؤلاء لم يروا في الطالبين سوى أنهما مواطنان مغربيان؛ وكفى !. بيد أن ما أشرنا إليه- أعلاه- لا يمثل إلا حالات شاردة ومحدودة لمحسوبين على الصف الإسلامي. ولقد أَلْزمَنا التنبيه إليها، انتشارُها الواسع في صفوف الطلبة، وجنوح الكثير من خصوم هذا الفصيل لتبنيها...والله تعالى أعلى أعلم.