معذرة، لن أترشح ! انتهت جوقة الترشيحات، وانتهت معها معركة الشد والجذب التي رافقت جشع مرشحي أغلب الدكاكين الانتخابية للحصول على التزكيات، وتصَدُّر اللوائح؛ بين من سعى للقِمَّة، ولم يرضَ بغير الرأس مقعدا، ومن رضيَ بالوصافة رغم باعِ النضال، والسبق الحزبي والممارساتي، ومنُ اخْتِير، لوضعه الاعتباري في مجتمع الكبار، ك"أرنب سباق" ل"إثقال" لائحة الحزب، والدفع بها إلى الأمام، بعد مساومات، ووعود، ومن رضي بذيل اللائحة، لغاية في نفسه ونفس حزبه العتيد، رغم استحالة فوزه بالمقعد لقوة اللوائح المنافسة على غنيمة المجلس، ومن زُكِّيَ ليُكَمِّل خصاص اللائحة، فتسبب في طعن الخصوم فيها بسبب سوابقه المانعة، ومن اختير- في المقابل- لبلائه الحسن في خدمة الوطن والمواطنين، فكان نبراسا أعاد الأمل إلى الكثير من النفوس الناقمة. لكن الذي أثارنا في كل هذا الخضم النشاز، هو ظهور كائنات على اللوائح المتبارية (مِمَّنْ مَجَّهم المواطن وما عاد يطيقهم)، ظلت تقسم الأيمان الغلاظ أنها لن تترشح لهذه الانتخابات مهما كانت الدواعي والدوافع، مبررة "قرارها" أنها قد تصدقت من عمرها، ووقتها، وجهدها، ما يكفي لتترك المجال لغيرها من طاقات الحزب التي لم تجرب بعدُ تسيير الشأن العمومي !. بيد أن هذه الأيمان الغلاظ، التي ظلت ترميها ذات اليمين وذات الشمال، ما لبثت أن تحولت إلى مجرد "بروباكاندا" سياسية لجس نبض المناضلين والمناضلات، والكشف عن نوايا المنافسين المُحْتَمَلين من الرفاق والإخوان، على سدة الرئاسة المُؤَمَّلة في حالة النجاح، ومن تم العمل على قطع الطريق أمامهم، بتحييدهم من المنافسة بالطرق التي يعلمها الجميع. ولقد انتهت بسبب ذلك بعض اللوائح إلى ردهات المحاكم، وأخرى أثيرت حولها معارك سيكون لها ما بعدها على استقرار الحزب، ومستقبله. قلت: ورغم هذه الأيمان الغلاظ بعدم الترشح، وجدنا أصحابنا متربعين على رؤوس اللوائح، ويردون على المغفلين أمثالنا بأنهم إنما ترشحوا نزولا عند رغبة القواعد التي ألزمتهم بالبقاء في التسيير؛ فاختاروا البقاء بعد أن تبين لهم أن الانسحاب إلى الخلف لن يخدم الحزب؛ بل سيَفُتُّ من عَضُدِه، ويُنهي وجوده من الساحة، ووو... !!. وهي خدعة ليست جديدة في عالم السياسة والسلطة؛ فقد انحاز إليها الكثير من صناديد السياسة والحكم، من الحكام والزعماء، عبر تاريخ الاستبداد السلطوي العربي؛ فقد التجأ إليها المقبور جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967، حينما صرح في خطبته الشهيرة أنه سيتنحى نهائيا عن الحكم، لكنه ما لبث أن استمر في الحكم بعد أن نجح "بلاطجته" في إنزال عشرات الآلاف إلى الشوارع يطالبونه بالبقاء؛ لتنجح الحيلة، ويستمر "الزعيم" !. وفعلها، اليوم، الانقلابي عبد الفتاح السيسي حينما صرح، بعد الانقلاب، أن مكانه الطبيعي هو الثكنة وليس قصر القبة، ثم عاد لينزع بذلته العسكرية، ويترشح للرئاسة، ويبرر هذا التراجع برغبة الشعب التي لا تقهر !!. وفعلها قبله المقبور الحبيب بورقيبة حينما صرح بعد استقلال تونس أن مهمته قد انتهت، وأن مكانه الطبيعي هو مكتب المحاماة، ونزل الشارعُ يحمله على الأكتاف إلى سدة الحكم. ثم الرئيس اليمني الأسبق "صالح" قبل الثورة، وغيرهم...وهكذا يفعلها كل مسؤول استلذ المنصب، واستطاب خضوع رقاب الرعاع على عتبات سلطانه الماجد.. !. وهي ذات الحيلة التي يلجأ إليها، اليوم، بعض زعماء الأحزاب السياسية المخلدون، ورؤساء الجماعات، والجمعيات،...الكل – على مشارف تجديد الرئاسيات- يعتذر عن الاستمرار في التدبير والتسيير، ثم ما يلبث أن يعود بعد أن تخلو الساحة من المنافسين، ويكسب ثقة المغفلين من جديد، بعد أن ينجح في تحويل تَبَرُّمِه الثعلبي الخبيث، إلى وسيلة لاستدرار عطفهم، وتوهيمهم بزهده في المقعد والمنصب... وإذا قيل له، قال: "إنها رغبة القواعد الذين ربطوا بقاءهم في التنظيم بترشحي" !!. · مجالس ما بعد 4 شتنبر، أو خدعة المجالس ! بعد 4 من شتنبر، سيتكرر نفس السيناريو اللصيق بالممارسات اللاديمقراطية البائدة لأغلب الأحزاب المغربية، والذي بدأت ملامحه تَعِنُّ في خلال هذه الحملة التي لم يكن أغلبها نظيفا بالمرة، ولا محترما البتة.. ممارسات أبانت فيها أغلب الأحزاب عن جشع للفوز غير مسبوق، بحيث تحولت أغلب المهرجانات إلى حلبات وميادين للقذف والسب والتنقيص من الخصوم، والكذب على الشعب، لم ينجُ من اقترافها، يمين ولا وسط، ولا يسار، مما زاد المقتنعين بالعزوف عن التصويت عزوفا، ودعاة "مَمْصَوْتِينْشْ" - على وزن "مصايمينش"(!)- شماتة، و"أصحاب الشكارة" تفاؤلا بربح رهان الأصوات المدفوعة الثمن، التي لا تشارك إلا لتبيع صوتها على مذلة الحاجة، و"قلة الشيء"، والْتَذهبِ البرامج، والأحزاب، والأخلاق، والوطن،... بعد ذلك إلى الجحيم !. نعم، بعد 4 شتنبر، ستتحرك ماكينة المساومات، وستتشكل تحالفات عجيبة وغريبة، بين المعارضة والأغلبية، وسنشهد على صراعات قد تصل- لا قدر الله !!- إلى جرائم بين أبناء البيت الحزبي الواحد، من أجل الظفر بالكرسي الرئاسي مهما كان الثمن. كما سنشهد على عمليات تهريب/"اختطاف" المنتخَبين ليوم الحسم، وشراء أصوات المرتزقة منهم، لترجيح كفة هذا الرئيس أو ذاك، وستتحول الوجوه الذلولة، البريئة، التي اعتادها المواطن المغفل خلال الحملة الانتخابية، تتنقل بين الدروب والحارات والمداشر، توزع عليه الوعود الوردية، والابتسامات الصفراء المفتعلة، وشيئا من المرقة و"الزرقة"،...إلى وجوه عنيدة؛ يعلوها العبوس، ويقهرها الجشع، ويُداعِبها القلق ! . وهكذا، ستتشكل المجالس، من نفس الوجوه التي ظلت جاثمة على صدور المواطنين لعقود، بعد أن تهدأ عاصفة التحالفات، والارتزاقات، والمساومات، والخدع، وستعود الحياة إلى حالتها الرتيبة، ويعود- مرة أخرى- رئيسنا المبجل- المُفَوَّض من قبل الشعب- زَعَمَ !- للسير على نهجه السابق، إلى كرسيه الوثير لاستئناف "عمله"، أقوى وأشرس في التزام نهجه البائد في إخلاف الوعود، وإرجاء التغيير والإصلاح، والحرص على خدمة "الصالح الخاص"، وحماية الفساد والمفسدين،... لتتكرر المسرحية، وتستمر المعاناة، وتتأبَّد الانتظارات !!. ويبقى المواطن المقهور- في الأخير- هو من سيدفع ضريبة استمرار المهزلة، وإعادة إنتاج البؤس، والفساد، والاستبداد، بسبب سوء اختياره لممثليه، أو لامتناعه عن التصويت، وفسحه المجال ل"أصحاب الشكارة" لتغطية القلة المشاركة بالمال الحرام، والفوز بالرهان،... ولاتَ حين مَنْدَم !! · ختاما.. لقد آن الأوان للأحزاب، التي تحترم نفسها، وتريد الخير لهذا البلد، أن تقطع مع أساليب الاستحمار والاستبلاد والديماغوجية السمجة التي تمارسها مع هذا الشعب في الشوارع، والأزقة، والساحات العمومية، وهي تعرض عليه "أشياءها" الغامضة، ووعودها المضحكة. نعم، لقد آن الأوان أن نصْدُق مع "شعب العزوف" في المدن والقرى والفيافي والقفار والجبال والصحارى الذي فضل أن يبقى بعيدا، عن هياكل الأحزاب ومهرجاناتها وانتخاباتها ووعودها، واختار لنفسه العزوف عن المشاركة في سياستهم، و ننزل إلى ساحته، ونؤطره، ونقاسمه خبزه ومعاناته، ونشعره- فعلا لا قولا- أنه ليس هو الوحيد الذي سيتحمل ثقل "القفة"، و أخطاء الحكومة في تدبير الأزمات؛ بل "ثمن الحل" سيسحب على الجميع، وسيسهم فيه الجميع، وسيصطلي بنار نتائجه المُرَّة الجميع؛ كل حسب قدرته، وكل حسب موقعه. لا فضل لغني على فقير، ولا لرئيس على مرؤوس، ولا لوزير على غفير.. الكل سواسية في تقاسم أعباء الأزمة، والكل معنيٌّ بالتضحية للتخفيف من مخلفاتها، والحد من لَأْوَائها. نعم، لقد آن الأوان للأحزاب التي تحترم نفسها، أن تعيد الاعتبار لدورها الفاعل في تأطير المواطن، وخدمة الوطن، بالقطع مع هذه "الموسمية" التي تجترها لعقود من الضحك على ذقون المغاربة، وتحول احتكاكها بهذا الشعب إلى فعل يومي، تتحول معه الحملة التي تستجدي فيها أصواته مرة كل ست سنوات، إلى حملة يومية تستقصي فيها معيشه اليومي، وتُسائل فيها انتظاراته المستعجلة، و تربت على جروحه المتقرحة بفعل عوادي اللامبالاة، والفساد؛ بالعودة إلى أحضانه، لتصالحه مع السياسة التي لا يفهم منها إلا وسيلة لاغتناء عديمي الضمير، وأذاتا للتحكم والفساد.. دمتم على وطن.. !!