بعد استقالة غانتس وآيزنكوت من مجلس الحرب.. ما خيارات نتنياهو؟    "حماس" تطالب أمريكا بالضغط على إسرائيل لإنهاء الحرب    لأول مرة.. موريتانيا تدخل سباق التسلح المتطور    استطلاع: نصف الشباب المغاربة يفكرون في الهجرة "بأية طريقة"    طقس حار نسبيا مرتقب اليوم الإثنين    "عجمان" الإماراتي يستعين بالحسوني    أجوبة الباك تقصد 7 مراكز بجهة كلميم    فرق من طنجة تتصدر نتائج البطولة الوطنية لأولمبياد الروبوت العالمي    الرئيس الفرنسي يحل الجمعية الوطنية ويدعو إلى انتخابات تشريعية مبكرة    سيارة لنقل العمال تقتل عامل صباغة الطريق بطنجة (صور)    أزيد من 300 حاج مغربي استفادوا من مبادرة "طريق مكة" إلى غاية 9 يونيو الجاري (مسؤول أمني سعودي)    منتخب المواي طاي يتألق في اليونان    غانتس يستقيل من حكومة الحرب الإسرائيلية    اليمين الإسباني يتقدم بفارق طفيف على اليسار في الانتخابات الأوروبية    نحو 82 ألف مترشحا ومترشحة لاجتياز البكالوريا بجهة طنجة – تطوان – الحسيمة    لبنان تجدد دعمها لسيادة المملكة ووحدة ترابها    أزيد من 300 حاج مغربي استفادوا من مبادرة طريق مكة إلى غاية 9 يونيو الجاري        القوميون الفلامانيون يتصدرون الانتخابات التشريعية البلجيكية بنسبة 18%    الفنيدق: إحباط محاولة إدخال نصف طن من "المْعسّل" المهرب إلى المغرب    بقبلة على الرأس.. النصيري يعتذر عن رمي قنينة الماء    الصحافة البيروفية تشيد بموقف البرازيل من الصحراء المغربية            المنتخب المغربي يبدأ الإعداد للكونغو    طواف المغرب للدراجات 2024.. الفرنسي ناربوني زوكاريلي يحرز لقب الدورة ال 33    الاقتراع الأوروبي يخدم "فون دير لاين"    ألكاراس يكتب التاريخ ويصبح أصغر لاعب يفوز ببطولات كبرى على ثلاث أرضيات مختلفة    موريتانيا تنهزم أمام السنغال في تصفيات كأس العالم    العلامة بنحمزة.. الشرع لا يكلف الفقير ويمكن لسبعة أشخاص الاشتراك في أضحية    بنحمزة يوضح موقف الشرع من الاشتراك في أضحية واحدة    الحسيمة.. وزير الفلاحة يطلق مشروع لغرس 630 هكتار من الصبار المقاوم للقرمزية (فيديو)    الملك يبارك تنصيب الوزير الأول للهند    استطلاع: ثلثا المغاربة لا يثقون في أخنوش وحكومته    شغيلة الصحة تواصل التصعيد أمام "صمت الحكومة" على الاتفاق الموقع    مطار الحسيمة يستقبل رحلات جوية سياحية من لشبونة البرتغالية    منظمة الصحة العالمية تحذر من احتمال تفشي وباء جديد    سوق الصرف: الدرهم شبه مستقر مقابل الأورو (بنك المغرب)        فيدرالية اليسار تقود ائتلافا لدعم "حراك فكيك"    أعمال كبار الفنانين المغاربة تزين أروقة متحف الفن الحديث المرموق في باريس    توقعات أحوال الطقس غدا الاثنين    جازابلانكا.. حفل اختتام رائع للدورة 17 يمزج بين إيقاعات الكناوي وموسيقى الفوزين    تطوير مدرسة Suptech Santé.. مؤسسة البحث والتطوير والابتكار في العلوم والهندسة تتجاوز عتبة مهمة بين سنتي 2023 و2024 ( أزولاي)    تواصل ارتفاع أسعارها يصعب على المغاربة اقتناء أضاحي العيد..    هكذا عرفت الصين.. محمد خليل يروي قصة الفرق بين الصين في الثمانينيات واليوم    انطلاق بيع تذاكر مباراة المغرب والكونغو    المغرب يسجل حالة وفاة جديدة بفيروس كورونا    مهرجان صفرو يستعرض موكب ملكة حب الملوك    استطلاع رأي.. أزمة تدبير الغذاء تعصف بثلثي المغاربة    هذه تفاصيل أطروحة جامعية لفقيد فلسطيني خطفه الموت قبل مناقشة بحثه    عبد السلام بوطيب يكتب : في رثاء نفسي .. وداعا "ليلاه"    تشوهات الأسنان لدى الأطفال .. أكثر من مجرد مشكلة جمالية    نقابة تدخل على خط منع مرور الشاحنات المغربية المحملة بالخضر إلى أوروبا    العلامة التجارية الرائعة في تسويق السيارات المستعملة Auto 24 تفتتح فرعا لها بمدينة الجديدة    ماذا يحدث لجسم الإنسان حال الإفراط في تناول الكافيين؟    وزارة الصحة تعلن حالة وفاة ب"كوفيد"    الحج 2024: خمسة آلاف طبيب يقدمون الرعاية الصحية للحجاج عبر 183 منشأة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رأي : لمزمة تنتحر بربطة عنق مغتصبي التاريخ والطبيعة

"إن الذين شربوا السم من أجل شئ أحبوه، كانت وجوههم خالية من تعبير الألم حين ماتوا بالسم". محمد عبد الحليم عبد الله
يقول الفيلسوف والمؤرخ البريطاني"أرنولد توينبي Arnoold Toynbee" في معرض تحليله لأسباب انهيار الحضارات, "إن الحضارات لا تموت قتلا وإنما انتحارا", لا أدري لما أجد هاته المقولة تناسب ما تقع من أحداث الآن لمدينة "المزمة" التاريخية بأجدير، فكأني أراها تضحي بروحها في سبيل أن نعيش نحن المستقبل في تنمية وازدهار, و تنتحر كالعفيفة الشريفة لصون عرضها وعرضنا واستبقاء شرفها وشرفنا, قبل أن يدنّسه مغتصبي التاريخ والحضارات, أو تمدّ إليها أيدي لصوص الطبيعة والجمال من المقاولين وسماسرة العقار.
والأدهى من ذلك أن هؤلاء اللصوص ليسوا مثل الذين تعودنا عليهم, فلم يعودوا أولائك المارقين الممارسين لسرقاتهم في جوف الليل، أو المتخفيين عن أعين الناس خشية الإيقاع بهم، أو حتى المستحيين مما اقترفوه من اعتداءات على حقوق الآخرين، بل أصبحوا أشخاصا يُشار إليهم بالبنان، يمشون مزهوون بقدراتهم، منتشيين بما حصَّلوه ومما سيحصّلوه، مفتونون كقارون بشهرتهم، وبانحناءات القوم المعوَز وتطلعاتهم لشيء من عطاياهم. ولم لا وهم يعلمون أنهم يمهدون الطريق أمامهم لمصافحة أولى الأمر في الريف ومشاركتهم ما هو أعظم و أضخم: " مشروع تغيير الجغرافيا والتاريخ في الريف" فقدموا لهم "لمزمة" على طبق من ذهب, أو قل طبقا من الحضارة معجونة بالتاريخ ممزوجة بأشجار الصفصاف, إني أرى حضارة المزمة بأكملها منشورة على الطبق:
مراسيها, أسوارها, قوافلها, أسواقها, ميادينها, عساكرها, صياح الصيادين, بسط الجوامع, أضرحة الصالحين, نقش الأواني, بساتين الرمان وأشجار التين, فقدموا لهم ماضينا فكيف سنعيش حاضرنا؟ وأهدوا لهم غابتنا الوحيدة فكيف سنتنفس بعد الآن نقاء هوائنا؟
قدموا لهم "لمزمة" وحديقتها أمام صمت رهيب واستسلام عجيب, اللهم بعض الصيحات المتباعدة أو صرخات متقطعة يذهب صداها سدى في الهواء, فمازلنا نحن معشر الريفيين مجرد جملة اعتراضية, تتفنن هاته الدولة على حذفها وطمس معالمها, وهي تؤمن أن ذلك لن يؤثر في شيء فليكتب من يشاء ما يشاء, وليعترض من يشاء على ما يشاء, فلاشيء يهم فستفعل الدولة ما تريد.
فهل ثمة جهات يفزعها أن تسترجع الذاكرة الريفية إحدى أزهى فترات صحوتها فتكون وقودا روحيا للانطلاق في الحاضر؟ فماذا لو كانت "المزمة" موقعا أمريكيا أو أوروبيا فهل سيحدث لها ما يحدث في "المزمة" الآن من طمس لتراثها وتدمير لبيئتها؟
فمثلا تركيا في سنة 2013 وقعت مظاهرات غير مسبوقة تنديدا بخطة إزالة منتزه جيزي بقلع أشجار في ميدان تقسيم, في إطار خطة تطوير, وتضمنت تجهيز ممرات مشاة في ميدان تقسيم وإعادة إنشاء ثكنة عسكرية عثمانية هدمت عام 1940 , ثم تطورت الاحتجاجات إلى أعمال شغب, واتسع موضوع الاحتجاج ليشمل الاعتراض على سياسة الحكومة, وانتقلت من اسطانبول إلى مدن أخرى, كأنقرة وإزمير وموغلا وإنطاليا, وحازت على تغطية إعلامية قوية وردود فعل دولية قوية تندد بالقوة المفرطة التي استعملتها الحكومة لتفريق المحتجين حيث أصيب المئات واعتقل الآلاف وقتل البعض.
فما الذي يحدث لنا نحن معشر الريفيين؟ ألم نكن يوما ما يضرب بنا المثل في المقاومة والنضال؟ فهل هو استسلام للفساد والخمول وحياة العبودية؟ أم هو تغييبٌ ممنهج للوعي الريفي؟ أم هو أملٌ لحشد من البشر يعلو وجوههم البؤس والقهر ويعانون اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا, لأجل الاستفادة من هذا المشروع وتتغيرأحوالهم البائسة إلى حياة أفضل طالما وعدتهم الدولة بذلك, وينعموا من خيرات الأرض الضرورية التي باتت أمامهم ترفا غذائيا يراود أحلامهم ويغازل عيون أطفالهم, و يتمكنوا من العلاج من أمراض تفتك بأجسادهم وخصوصا السرطان وكأن هذه الأمراض خلقت لهم.
نحن لسنا ضد الاستثمار في الريف, والنهوض بالقطاع وما إلى ذلك من مبادرات ويتحول الريف من مغرب غير نافع إلى مغرب نافع, ويمكّن من خلق فرص شغل جديدة في هذا الربع العزيز من المغرب الذي لا يتوفر على أية أنشطة اقتصادية مهيكلة وبالتالي سيمكن من تقليص نسبة البطالة ويحقق مشروعا سياحيا يحترم الثقافة والتاريخ ويوفر فرصا للشغل ويحترم البيئة كما وعدونا بذلك, حيث أضحت البيئة أحد الرهانات المعاصرة ذات الارتباط الوثيق بالتنمية والنشاط الاقتصادي, وقد تعزز الاهتمام العالمي بموضوع البيئة وحمايتها بشكل أكبر من خلال مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية المنعقد بريو ديجانيرو 1992 ونتج عنه "اتفاقية مبادئ حماية الغابات", والمغرب من بين الدول المصادقة على هاته الاتفاقية, لكن ما نراه من تدمير لغابة جميلة بأشجارها وتنوعها البيئي كان مجرد تزييف لوعي البسطاء وإخفاء عوار الباطن بقشرة ظاهرية أنيقة تحت ذريعة التنمية الاقتصادية التي تعتبر الإبنة البارة للعولمة المتوحشة التي تزيد الفقير فقرا والغني غنا, كما عبر عنها الفيلسوف الألماني- الأمريكي هاربرت ماركيوز (H.Mrcuse 1898-1976) أنها تتسم بالطابع العقلاني للاعقلانيتها وبتعبيرنا الدارج قدرتها على تغليف السم بالعسل, حيث قال: "إن المجتمع الذي يضع الخطط ويشرع بالفعل في تطبيقها بغية تسخير الطبيعة بكافة مواردها المادية والبشرية والتحكم فيها, يغير بالتدريج أساس السيطرة فتصبح تبعية البشر لنظام أشياء موضوعي وعقلاني(للقوانين الاقتصادية وآليات السوق...) وهو بهذه العقلانية الفجة يزيف قيم الولاء والتضحية التي تشكل جزءا من إنسانيتنا".
فالريف باعتباره منطقة معوزة ومهمشة فحقا تحتاج إلى التنمية, ولكن عليها أن تحصل على التنمية الاجتماعية أولا, التي طالما كان جوهرها التكافل والتضامن وحماية الطبقات الأضعف في المجتمع, وحل المشكلات الناتجة عن التنمية الاقتصادية, فالتنمية كنموذج في المجتمعات الفقيرة يغيب عنه البعد الاجتماعي هي تنمية غير عادلة, كأي نظام تكون عدالته أساس مشروعيته, فقد أدى هذا النموذج إلى إحداث تناقض واضح في المسارات والنتائج بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي للتنمية طالما جوهر التنمية الاقتصادية في تجارب عالمنا المعاصر هو منطق اقتصاد الربح ومبدأ البقاء للأصلح, فلا نبالغ إذا قلنا أن التنمية ذات البعد الاقتصادي بمفردها قد أدت إلى تقديم الملايين من البشر قربانا على محراب الربح والفائدة والمنفعة. ولا نتمنى أن يقدّم المزيد من الضحايا من أهل ريفنا البؤساء منهم والمقهورين والذين ياما قُدّموا قربانا للفساد والأمراض والفقر والبطالة ومنهم حتى من راح ضحية المماراسات التعسفية للدولة, أمام قلة من بني جلدتهم تنعم بدفئ الفساد وسطوة المال.
لقد أوشك المشروع الاقتصادي على التنفيذ وأن يصبح واقعا ملموسا, وبدأت ملامحه تتشكل في الأفق فإن لم يستطع أبناء الريف الوقوف في وجه هذا المشروع بعدم تنفيذه, فما عليهم إلا استغلاله بشكل عقلاني بما يعود بالمنفعة عليهم وعلى منطقتهم, وأن يناضل جموع الفقراء والبؤساء منهم من أجل أن ينالوا حقهم من هذا المشروع وأن تصل إليهم حصتهم من هاته الكعكة, قبل أن تتوزع بين أصحاب المقامات والنفوذ, كما توزعت بينهم الكثير من الكعكات واستحوذوا على مشاريع كثيرة قبل هذا, مرسخين لثقافة اللصوصية التي لازالت تنازع من أجل البقاء في هذا الربع العزيز من هذا الوطن.
ولم أجد أفضل من مقولة الاقتصادي الفرنسي فرانسوا بيرو( François Perroux 1903-1998 التي عبر عنها في كتابه "التعايش السلمي"(Coexistence Paeceful 1958 ) لأنهي بها مقالي, لأني وجدتها تناسب كثيرا وضعنا هذا, حيث قال: "إنهم يعتقدون أنهم يضحون بأرواحهم من أجل الطبقة, وهم يلقون حتفهم من أجل صبيان الحزب, ويعتقدون أنهم يموتون من أجل الوطن, وهو يموتون من أجل رجال الصناعة, ويعتقدون أنهم يبذلون أرواحهم في سبيل حرية الشخص، وهم يبذلونها في سبيل أرباح الأسهم... ويعتقدون أنهم يموتون بأوامر من الدولة, وهم يموتون من أجل المال الذي يمسك بتلابيب هذه الدولة, ويعتقدون أنهم يبذلون أرواحهم في سبيل الأمة, وهم يبذلونها من أجل اللصوص الذين يكممون فاه هذه الأمة." ويعتقدون ويعتقدون – ولكن لم الاعتقاد في مثل هذا الظلام الحالك؟-
فهاهي "المزمة" تنتحر وتضحي من أجل الريفيين كما ضحت قبلها النكور سابقا, فنراها نصب أعيننا تكابد لحظة احتضار وجسدا ينتفض, فيظن المشاهدون من الخارج أنها تترنح رقصا وفرحا ولكنها في الحقيقة رقصة الألم, رقصة الاحتضار, رقصة ما بعد الموت.
فمالذي أصابك ياريفنا العزيز؟ رموزك تهوى, كنوزك تفنى وجراحك تنزف, فهل من مغيث؟ اللهم احفظ الريف وأهله, وألْهم الحكمة لمسئوليه والوعي لأفراده. بقلم: بشرى بلعلي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.