بدعوة من الدكتور محمد الأشهب، أستاذ الفلسفة بجامعة ابن زهر، قام الطالب سمير بوسلهام، الذي يشرف على رسالته لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع يخص الفيلسوفة الأمريكية نانسي فرايزر، التي أثارت نقاشا عالميا إثر إلغاء الزيارة التي كانت ستقوم بها إلى جامعة كولونيا؛ بتقريب القارئ بالعربية من اهتماماتها لمعرفة دواعي دعمها الشعب الفلسطيني وتوقيعها على بيان "فلاسفة من أجل فلسطين"، يأتي تقديم هذه النبذة عنها. نص الباحث سمير بوسلهام: نانسي فرايزر Nancy FRASER (1947) فيلسوفة أمريكية، وهي أستاذة الفلسفة والفكر السياسي في المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعية بنيويورك، الملاذ الأمريكي للفلسفة "القارية"، والجامعة التي لطالما اعتبرت أيقونة للفلسفة الأوروبية داخل أمريكا في مقابل الاتجاهات السائدة للفلسفة "التحليلية" الأنجلو-أمريكية. وبشكل أكثر تحديدًا، تنتمي فرايزر إلى مدرسة "النظرية النقدية" في السياق الأمريكي، أي خارج فرانكفورت (ألمانيا)؛ وتندرج أعمالها إلى جانب مفكرين آخرين مثل يورغن هابرماس وأكسيل هونيث وراينر فورست وسيلا بنحبيب في إطار الفلسفة الاجتماعية، بما هي حقل نظري يهتم بربط رهانات الفلسفة العملية بالعلوم الاجتماعية، من أجل تشخيص أزمة المجتمع الرأسمالي المعاصر وتحليل توجهات الصراع داخله، والتنظير النقدي لآفاق تجاوز معضلاته وأمراضه الاجتماعية، وذلك وفق رؤية بينية تتجاوز الحدود بين التخصصات المعرفية. عرفت فرايزر بسجالها مع يورغن هابرماس، خاصة في ما يتعلق بتوسيع مفهوم الفضاء العمومي ليأخذ في الاعتبار أشكال عدم المساواة الجندرية والطبقية والعرقية، في إطار ما أسمته الفضاء العمومي ما بعد البرجوازي، إضافة إلى إسهامها في إرساء مفهوم الفضاء العمومي العالمي في سياق صعود العولمة النيوليرالية، كما عرفت أيضا بسجالها مع أكسل هونيث حول مفهوم الاعتراف وعلاقته بالعدالة الاجتماعية، إذ دافعت عن تصور متكامل للعدالة يجمع بين الحق في الاندماج الاجتماعي، من خلال تعزيز المساواة المادية والاقتصادية للأفراد والمجموعات من جهة، والحق في الاعتراف الثقافي من جهة ثانية، ثم الحق في التمثيلية السياسية من جهة ثالثة؛ وهي الأوجه الثلاثة للعدالة المتمثلة في "إعادة التوزيع" و"الاعتراف" و"التمثيلية السياسية"، التي تنتظم مجتمعة حول مبدأ معياري أشمل تسميه فرايزر "التكافؤ في المشاركة". اشتغلت فرايزر منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي بالتفكير النقدي حول التحديات الكبرى التي تواجه المجتمع المعاصر، بما في ذلك النقاش حول أهمية إعادة التوزيع الاقتصادي، والحق في الاعتراف الثقافي، والمشاركة السياسية؛ وانخرطت منذ ذلك الحين في السجال الفلسفي حول أسس العدالة الاجتماعية، سواء في سياق أزمة "دولة الرفاه الاجتماعي" أو في سياق تراجع النموذج "الاجتماعي" للدولة، وصعود السياسات الليبرالية الجديدة واتجاه المجتمعات المعاصرة نحو العولمة العابرة للحدود الوطنية. تشكلت الخلفية الفكرية لفرايزر من خلال رافدين، أحدهما المشاركة السياسية الناشطة، خاصة في الحركة المناهضة لحرب الفيتنام والنضال المناهض للإمبريالية في إطار اليسار الجديد بالولايات المتحدةالأمريكية، ونضالها في إطار الحركة النسوية، وتحديدا النسوية الاشتراكية، وثانيهما تكوينها الفلسفي- النقدي، الذي كان يمتح من منابع قارية وأنجلو-أمريكية متنوعة، أهمها الفلسفة البراغماتية الجديدة، مع كل من أستاذها جاكوب بيرنشتاين وريتشارد رورتي، والفلسفة الماركسية والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت وما بعد البنيوية مع مشيل فوكو. وهي المرجعيات النظرية التي ستعيد فرايزر صياغتها ومراجعتها نقديا حتى تتلاءم مع إطارها النظري، بشكل يستجيب لمقتضيات الربط بين النظرية والممارسة السياسيتين، جوابا عن إشكالات تفاقم أشكال الظلم والهيمنة والإقصاء داخل المجتمع الرأسمالي المعاصر. تدعونا فلسفة فرايزر إلى الجمع بين مختلف الجهود التحررية التي يحبل بها المجتمع المعاصر من أجل إرساء أسس وقواعد المساواة والعدالة الاجتماعية في مجتمع خال من الهيمنة، بما في ذلك جهود الحركات النسوية، وحركة مناهضة العنصرية وما بعد الاستعمار والحركات الإيكولوجية والعولمة البديلة، وكل الحركات الداعية إلى تحرير الفئات التابعة والمضطهدة. وفي الوقت نفسه تنتقد فرايزر توجه بعض هذه الحركات إلى الانغلاق، والتوجه نحو "الانفصال" (separatism) وإلى اختزال مسألة "العدالة" في أحد بؤر الصراع مع استبعاد بؤر أخرى، ما يؤدي أحيانا إلى الدخول في تصادم مع باقي التوجهات. لهذا يمكن القول إن مجمل المجهود النقدي والفكري لنانسي فرايزر يصب في مجرى إيجاد سبل وإمكانات مد الجسور بين مختلف جبهات النضال وجمع قوى التحرر المجتمعية باختلاف مقولاتها (العرق، الجندر، الطبقة، البيئة، العولمة) تحت سقف واحد: مناهضة الهيمنة، توجيه بوصلتها نحو مبدأ معياري يضمن شروط تحقق العدالة: تكافؤ المشاركة. ينصب اهتمام فرايزر في المرحلة الأخيرة من مشروعها النقدي على نقد وتشخيص توجهات الأزمة الرأسمالية النيوليبرالية وفق منظور عالمي عابر للحدود الوطنية، وهو المشروع الذي تتوقف فيه بالأساس على إعادة التفكير في مفهوم "الشغل" Labor، من خلال فحص التحولات التي طرأت على الشغل في سياق الرأسمالية النيوليبرالية، والطرق التي تستمر بها الرأسمالية النيوليبرالية في تحقيق التراكم وتعميق أزمات المجتمعات الإنسانية والطبيعة على حد سواء، عبر آليات اقتصادية وغير اقتصادية بما فيها آليات النوع الاجتماعي والعرق والإمبريالية والتفاوت الطبقي. تكشف نانسي فرايزر إذن من خلال هذا المشروع الفكري عن الروابط الخفية بين الجندر والعرق والطبقة من خلال ربطها بالأشكال الثلاثة للشغل في المجتمعات الرأسمالية: الشغل المُستغَل، والشغل المُصادَر، والشغل المنزلي. فماذا لو كانت النضالات المعاصرة المناهضة للعنصرية وللإمبريالية ونضالات النسوية في حقيقة الأمر صراعات عمالية غير معترف بها على أنها كذلك؟ وكيف يمكن أن ننظر إلى مختلف الصراعات التي تخوضها الحركات الاجتماعية المعاصرة على أنها صراعات حول الشغل؟. وقد كان هذا هو الموضوع الذي ستحاضر فيه فرايزر في جامعة كولون بألمانيا، في إطار دعوتها كأستاذة زائرة بكرسي ألبيرتوس ماغنوس، لولا أن أقدمت الجامعة المذكورة على إلغاء عقدها بسبب موقفها الداعم لفلسطين، الذي عبرت عنه من خلال التوقيع على "بيان الفلسفة من أجل فلسطين".