حدثان سياسيان جليلان،عاشهما العالم الكبير ألبرت أينشتاين،فأخرجاه من البوتقة الرفيعة لعوالم الكائنات الرياضية،نحو اختبار ملموس لما يجري بشكل واقعي فوق الأرض.يتعلق الأمر الأول،بإلقاء القنبلة الذرية،على مدينتي هيروشيما وناكازاكي، فبدا جليا، بعد التجلي الواضح لجرم الفاجعة،المسؤولية المعنوية غير المباشرة حقيقة لاينشتاين،لأن السلاح الفتاك،خرج من جوف نظرية النسبية.وكان العالِم الذي تردد بداية،سيتراجع عن موقفه كي يقتع الرئيس روزفلت،بضرورة صنع القنبلة،بعدما تأكد أو أشيع في أمريكا-الواقعة ليست واضحة-أن الألمان، تحت إشراف فيزيائي شهير آخر اسمه هايزنبرغ،يترأس فريقا علميا بتوجيه مباشر من هتلر،قد أوكلت له مهمة صنع السلاح الذري، بل، نجحوا في تحقيق الانشطار النووي.انتاب أينشتاين،شعور فضيع بالذنب،حيال مافعلته عبقريته باليابانيين،لكنه صرخ في وجه منتقديه :((المعادلات لاتنفجر)). المستجد الثاني،يعود بنا إلى سنة1952،حينما عرض بن غوريون رئيس وزراء الدولة العبرية،على أينشتاين أن يصبح : ((الرئيس المختار للدولة المختارة)) ،بعد وفاة شاييم وايزمان، أول رئيس لإسرائيل،وهو في الأصل عالم وأستاذ جامعي،درّس الكيمياء في جامعتي جنيف ومانشستر،مما هيأ له لحظة تولى منصبه السياسي،نسج علاقات واسعة مع عدد كبير من العلماء وفي طليعتهم أينشتاين. أشياء شتى،قيلت عن حيثيات الأمر،كما تراكمت التأويلات بخصوص ترشيح قادة إسرائيل،لأحد أهم الشخصيات البشرية على امتداد التاريخ،الفيزيائي المنحدر من أبوين يهودين،الذي اضطرته الملاحقات النازية كي يغادر موطن ولادته ألمانيا،متوجها نحو أمريكا حيث استقر هناك، غاية وفاته عام.1955لكن الشيء الثابت،يكمن في رفض أينشتاين رفضا مجملا،لمفهوم الدولة اليهودية التيولوجية العقائدية،بحيث سنلاحظ أن مجموعة من آرائه وكتاباته السياسية ومراسلاته المنصبة على الموضوع،وهي بالمناسبة غنية يطويها أرشيف الجامعة العبرية،استشرفت منذ تلك الحقبة،الآفاق المظلمة التي ستحكم عمل الصهيونية،فقال :((إن دولة تنشأ كما نشأت إسرائيل،لدولة جديرة بالفناء)). أينشتاين،لا يتحدث تحت تأثير رومانسية حالمة ،لعالم لائكي، كوني التوجه،إنساني المرجعية،صاحب عقل جبار يعلو على المرجعيات والمذهبية والأصولية،ممتعضا أشد النفور،من النزعات القومية الصغيرة. لكنه الخبير ببدايات الملف ومنتهاه،المطلع على تفاصيله التاريخية،منذ سنوات برلين،حينما عاين بؤس اليهود الهاربين من الاضطهاد في بولونيا وروسيا،فكان البعض منهم،يطرق بابه طلبا للمال أو الطعام.تأثره بذلك الوضع،جعله يتعجب من انعدام التكافل،بين أفراد اليهود الألمان.أقول،صار منخرطا في يوميات القضية إلى غاية وفاته،فكان الائتلاف والاختلاف،التجاوب والتعارض،الاحتضان والرفض،التجاذب والتنافر،بمعنى ظل أينشتاين محتفظا دائما بمساحات العقل بينه وبين أهل جلدته،غير أن أسطورة دعمه لإسرائيل،انبثقت بالضبط مع خطاب نعيه بصحيفة نيويورك تايمز. لما أوشك، زعماء الكيان الإسرائلي، على إعلان قيام دولتهم،كتب أينشتاين،مايلي:((إن إدراكي للطبيعة الجوهرية لليهود، يقاوم فكرة دولة يهودية ذات حدود وجيش وقدر من السلطة الدنيوية،بغض النظر عن مدى تواضع هذا القدر.إنني أخشى من الدمار الداخلي،الذي سيلحق باليهودية،خاصة من تطور نزعة قومية ضيقة داخل صفوفنا كنا قد حاربنا ضدها بقوة بدون دولة يهودية)). مبرر عدم قبوله رئاسة إسرائيل،وإن كانت وظيفة بروتوكولية ورمزية،تقاسمته عبارات علنية محكومة بدواعي أدبيات الدبلوماسية،مثل"أنا رجل علم ولست رجل سياسة"،و"السياسة أصعب من الفيزياء"أو"لقد قضيت حياتي وأنا أهتم بعالم الأشياء وحبذا لو كانت لي القدرة الطبيعية أو التجربة الكافية للاهتمام بعالم البشر…،إنها مسؤولية صعبة بالنسبة إلي"،فالبعد المضمر،اكتساه صراع شديد بين أينشتاين ورموز فكرة إنشاء الدولة العبرية،برزت تجلياته من خلال تصريحات غير رسمية وردت عند الطرفين،هكذا همس بن غوريون، لحظات عقب توجيه رسالة إلى أينشتاين،لترشيحه رئيسا :((لم يكن ممكنا إلا أن نعرض عليه الرئاسة،لكن الويل لنا لو أنه قبل)) ،كما أن السبب الجوهري، لرفض العالم الفيزيائي، برره تصريح جانبي :((إنني مضطر أن أقول للشعب الإسرائلي أشياء كثيرة لايحب سماعها))، أبرزها وهي التي تعكس الأطروحات التي بقي مقتنعا بها ضمنيا حتى آخر يوم في حياته،أنه يشاطر حقا اليهود،حلمهم بوطن، لكنه يعارضهم جذريا،حول الانتقال الإيديولوجي إلى بناء الدولة،لأنها مرتبطة بفكرة الوطنية الضيقة،تصور غير سليم في منحاه العام،فما بالك إن انتهى الأمر بيد جماعة من المتعصبين الحاقدين،الذين يلوحون علنا بمبادئهم العنصرية،يقول بهذا الخصوص : ((أن يكون لهم وطن لا يضطهدهم فيه أحد ولا أريدهم أن يضطهدوا أحدا،فعرب فلسطين لهم الحق في الوطن الوحيد الذي عرفوه،ولايستطيع أحد أن ينكر عليهم ذلك)). سنوات العشرينات،دعا أينشتاين إلى مايشبه الحكم الفيدرالي بين العرب واليهود في فلسطين،وصياغة دستور يضمن حق الشعبين في اتخاذ القرارات عن طريق آلية التصويت.رفض قرار التقسيم البريطاني،مطالبا بدولة علمانية يتعايش الجانبان داخلها.سنة1930، وجه رسالة تحذيرية إلى أعضاء المنظمة الصهيونية العالمية،مفادها:((أنه سيوقف كل دعم لهم إن لم يتوصلوا إلى سلام مع العرب)).أواخر الثلاثينات،في خضم الثورة الفلسطينية ضد الإنجليز واليهود،خاطب أينشتاين أبناء شعبه قصد تذكيرهم،بأن اليهودية تتعارض والدولة القومية،لأنها ديانة كونية.أواسط الأربعينات،صرح علانية بمايلي:((فكرة دولة إسرائيل،لا تتوافق مع رغبات قلبي.إنني لا أفهم لماذا نحن بحاجة إلى دولة كهذه،فالدولة القومية فكرة رديئة وقد عارضتها على الدوام.إننا نقلد أوروبا التي دمرتها القومية)).قبل اندلاع حرب1948،أرسل برقية إلى نيويورك تايمز،مشددا على أن متطرفي الجانبين،العربي واليهودي،يدفعون بفلسطين نحو حرب عقيمة.خلال نفس السنة،ندد جدا بمذبحة دير ياسين،واصفا عبر رسالة،لأحد أصدقائه الأمريكيين المدافعين عن حرية إسرائيل،أسماء مثل مناحيم بيغن وإسحاق شامير بالمجرمين،الذين يترأسون منظمات إرهابية،كتنظيم أرغون وعصابة شتيرن. في السياق ذاته،كشف صاحب أعتى نظرية فيزيائية معاصرة،عن عجزه كي يستوعب تناقضات شخصية بن غوريون، الاشتراكي و الأممي ثم الصهيوني العنصري،الذي يتبادل الرسائل معه وغاندي،لكنه في الوقت ذاته يبني عصابات الهاغانا، ويصنع السلاح ويفضل اليهود عن العرب،ثم يقبل تكتيكيا بقرار التقسيم مع استنفاره الدائم لحروب توسعية. سنة1949،ألقى أينشتاين، كلمة بمناسبة حصوله على دكتوراه فخرية من الجامعة العبرية،أشارت بأصابع الاتهام إلى الإنجليز،باعتبارهم المسؤولين عن اندلاع الحرب،مؤكدا على :((أن اليهود والعرب كانوا راغبين في تحقيق السلام المبني على التفاهم،بدل الاحتكام إلى العنف،لولا ضغوط خارجية)) ،ملحا على ضرورة إقامة تعاون بناء بين الشعبين،وفق قاعدة الثقة والاحترام المتبادل.الانجليز،توخوا تبني نفس أسلوبهم الاستعماري بالهند،حينما كانوا يزرعون عوامل الفتنة بين المسلمين والهندوس.عام1953،اجتمع أينشتاين بالصحفي المصري محمد حسنين هيكل،بمناسبة زيارة الأخير إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية،فعاد محملا من طرف العالم الكبير،برسالة إلى جمال عبد الناصر، يستفسره عن خطة لحل الصراع العربي الإسرائلي،ثم يقترح نفسه كوسيط فعال في القضية،لكنه لم يتلق جوابا عن مبادرته تلك،فقام ببعث رسالة مماثلة إلى الزعيم الهندي نهرو،كي يعيد ثانية، طرح الأمر على عبد الناصر.سنة1955،توفي أينشتاين، دون أن يتلقى جوابا. إجمالا،ينهض مشروع أينشتاين على فصل واضح بين اليهودية والصهيونية،كارها لكل التصورات العقائدية،أوضح مثال في هذا الصدد،يشير إلى نقاشه الحاد مع حاييم و ايزمان،حول معاناة الفلسطينيين،وحين أجابه الرئيس الإسرائلي بمرجعية توراتية : ((إن الله وعد اليهود بهذه الأرض)) ،لم يتردد أينشتاين في دحض مثل هاته القناعات الخطيرة،جازما:((يجب أن لانقحم الله في هذا النقاش،لأن كل فريق يرى الله إلى جانبه،وإذا كان الله هو من وعد اليهود بهذه الأرض،فهو الذي أقام العرب لها))... . إن مشاكل العالم ومآسي البشرية،سببها فقط صغرحجم جماجم السياسيين،وضيق منظورهم وتبلدهم الذهني والحسي،فماذا لو جربت الإنسانية،الحكم الحكيم، لرجل من طينة أينشتاين،بل جل المنتمين إلى صنف العلماء والشعراء؟