إننا نظلم الحرية حينما نطلق لها العنان كما اتقف، ونجعلها المشجب الذي نعلق عليه قصورنا، وأخطاءنا، ونزوات أفكارنا الماجنة، أو اعتقاداتنا الشاذة والشاردة. ونظلمها أكثر حينما نتحصن بها ضد هجمات وردود أفعال من نظلمهم بها، وننتهك أعراضهم، ومعتقداتهم، وأفكارهم،... دائما باسم "الحرية المقدسة" التي حمتها قوانيننا !. فليس من الحرية في شيء، ما يقدم عليه بعض "المتحررين" بيننا، حينما يتوسلون بها لتصفية أحقادهم الأيديولوجية مع خصومهم الجذريين، فيحولون الكلمة، والقلم، إلى أدوات للسخرية والاستهزاء منهم ومن معتقداتهم، ثم يدَّعون أن هذه الحرية مكسب نضالاتهم الطويلة ضد الاستبداد، والخرافة، والرجعية،.. والحقيقة أنها ليست سوى الوجه الآخر للاستبداد، والتجني، والظلم الذي يصرفونه في لبوس "حداثي" بمسميات شتى. وفي أفضل الأحوال يدعون منتقديهم، إلى سلوك ذات السبيل، واعتماد نفس الأسلوب في الرد؛ سباًّ بِسَبٍّ، ورسما برسم، وسخرية بسخرية،... في مسلسل من الإلهاء السِّبابي لا طائل من ورائه ولا فائدة !! إن ما حدث في فرنسا / الحرية، مؤخرا، يدفعنا لنتساءل: أين فائدة هذه الحرية التي ناضل من أجلها هؤلاء عقودا، وقدموا الأرواح، والضحايا من أجل أن ينعموا بها،.. لتتحول اليوم إلى مجرد أداة بين أيديهم، للاستفزاز، والسخرية، وإثارة الفتن، والأحقاد؟ أين قيمة الحرية التي تحول المرء إلى المسؤول الأول عن تصرفاته، والمطمئن إلى اختياراته؛ بعيدا عن الإكراه، والضغط، وتكميم الأفواه، فيما يكتبون ويقولون؟ أين هي الحرية التي تنتهي عند بداية حرية الآخر، مما يصنع بعض "المتحررين" فوق العادة، ممن يستبيحون حرمات الناس، وأعراضهم، وأديانهم،... ثم يشتكون من ردود أفعالهم غير المحسوبة، ويتباكَوْن على الحرية المضطهدة، وليس أحد أظلم للحرية منهم؟ !!!. فأين الحرية في سخرية مجلة "شارلي إيبدو" من نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-، وعرضه في رسم كاريكاتوري على شكل نستحيي – نحن المسلمين – أن نرسم به خصومنا، ثم مواجهة العالم المنتفض ضدها ب"موتوا بغيضكم يا عبيد السادة والشيوخ"؟. ألم تتجاوز هذه المجلة كل الحدود حينما طال قلمها رمز المسلمين وحبيبهم- صلى الله عليه وسلم-؟. فأين هي حدود هذه الحرية التي يتباكى اليوم عليها دعاتها، مما فعلته هذه المجلة؟ لماذا لم نسمع لأصواتهم همسا ولا طنينا، حينما أوغلت المجلة في معتقدات المسلمين؟ فماذا يعني أن نرفع، نحن المسلمين، لافتات كتب علينا "كلنا شارلي إيبدو" رغم خرقها لحرية التعبير، وسخريتها من أحد رموز ديننا؟ ألا يوحي ذلك بأننا نوافق – ولو ضمنيا- على ما تنشره هذه المجلة في حق رموزنا الدينية، وهو الأمر الذي أشار إليه- صراحة- أحد المتضامنين؛ المسلمين يا حسرة !!، حينما دعى الإعلام إلى رفع القدسية عن الله والأنبياء وكل الرموز الدينية،... دفاعا عن حرية التعبير(هكذا !!)؟. أم هو مجرد تضامن إنساني بريء مع مجلة سقط صحفيوها ضحية قراءة خاطئة للدين من قبل شبان حديثي عهد به، استٌغِلَّت حماستهم المفرطة لخدمة الدين، فشُحنوا من قبل تنظيمات الإرهاب "القاعدي" و"الداعشي"، و"البوكوحرامي"،... وهلم تشكيلاتٍ إرهابيةً وأطيافا، بنصوص القتل والجلد والقطع المبتورة من سياقاتها النصية، ومناطاتها الشرعية، حتى تحول عندهم الدين كتلة من نصوص القتل و الإهدار، لا رحمة فيه، ولا حرية، ولا رأي،...لتصفية حساباتهم مع الغرب الكافر !!؟ إننا لا نملك إلا أن ندين سلوك هؤلاء الشباب، لأن الرأي مهما غالى أصحابه فيه، لا يواجه إلا بالرأي. والحجة لا تقارع إلا بالحجة. ونحن نجزم أن فعلهم هذا لا علاقة له بالدين، بل إساءته له مما لا يختلف حوله اثنان. إذ الدين، بإجماع أهل العلم، محرم للنهي عن المنكر، ما ترتب عنه منكر أكبر منه، ولو كان هذا النهي سلميا وباللسان. ولا شك أن المفسدة التي خلفها صنيع هؤلاء الشبان، على الإسلام والمسلمين، أكبر بمئات المرات من مفسدة خلفتها رسوم تافهة في مجلة لم يسلم من سخريتها أحد، ولم تضر نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – لا من قريب ولا من بعيد؛ بل خدمت رسالته أحسن خدمة حينما أخرجت العالم أجمع – مسلمين وغير مسلمين- يندد ويحتج نصرة له – صلى الله عليه وسلم. لقد أخطأ هؤلاء الشباب حينما اعتقدوا، أن "خربشات" صحافيي هذه المجلة قد أضرت بالرسول- صلى الله عليه وسلم-، وأنهم بعملهم المتهور هذا، ينتصرون له، ويخدمون رسالته. والحقيقة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم – أكبر من أن تسئ إليه رسوم، أو تنتقص من مكانته هلوسات صحافي أخرق. فلقد فعل به المشركون، زمن الاستضعاف، أعظم من ذلك وهم يعلمون صدقه وأمانته، ومع ذلك ظل يدعو لهم بالخير، ويقول ": اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" . ولما كانوا ينادونه "مذمم" وينتفض الصحابة – رضوان الله عليهم – للفتك بهم، ينهاهم وهو يقول": دعوهم ، إنهم ينادون مذمما وأنا محمد". ولم ينتقم منهم ، زمن التمكين، بل قال لهم :" اذهبوا فأنتم الطلقاء ". لأنه – بكل بساطة – جاء رحمة للعالمين ، ولم يأت نقمة عليهم!!. ولنا في سلف هذه الأمة – أيام تحرر العقل وانطلاق الفكر- القدوة الحسنة، والسلوك الحضاري الرفيع، في مواجهة مثل هكذا حالات. ومن يقرأ التاريخ يجد من الأمثلة المشرقة، والنماذج الرائعة التي هزت أركان الكفر وقلبت موازين الاعتقادات الفاسدة، ما يحير اللبيب ، ويدهش الفطن النبيه. وأخطأت مجلة "شارلي إيبدو"، حينما أساءت إلى الحرية، واعتقدت أنها تمارس حريتها، بالسخرية من رموز المسلمين. كما أخطأ من ساند جنوحها نحو النيل من معتقدات الناس باسم حرية التعبير، وخرج يحمل يافطة:" كلنا شارلي إيبدو"؛ سواء بسواء !!! لأجل ذلك كله، فنحن ضد الإرهاب، ومع الحرية .. ولكن لسنا "شارلي إيبدو" !!! دمتم على وطن... !!