المغرب يخلد يوم إفريقيا في نيويورك    النفط يرتفع مع التوقعات بإبقاء كبار المنتجين على تخفيضات الإنتاج    كيوسك الأربعاء | اكتشاف جديد للغاز بمنطقة اللوكوس    قتيل و3 جرحى في حادث تدافع خلال مباراة لكرة القدم بالجزائر    كوريا تدين عمليات الاستهداف بمناطيد بيضاء تحمل "نفايات"    قراءة في تطورات ما بعد حادث وفاة رئيسي و مرافقيه..    المكسيك تطلب الانضمام إلى قضية "الإبادة" ضد إسرائيل أمام محكمة "العدل الدولية"    أولمبياكوس يُعول على الكعبي للتتويج بالمؤتمر الأوروبي    نادي إندهوفن يجدد الثقة في الصيباري    طواف المغرب الدولي للدراجات يشهد مشاركة 18 منتخبا وفريقا    بصدد موقف وزير العدل من "عقود الزواج" في الفنادق    وزارة الداخلية تستنفر مصالحها الترابية لتيسير العطلة الصيفية بالمغرب    دبابات إسرائيلية تصل إلى وسط رفح مع استمرار القصف    ماذا نعرف عن الولاية الهندية التي تحمل مفتاح إعادة انتخاب ناريندرا مودي؟    بوريطة يتباحث مع "وانغ يي" في الصين    الإسراع في بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد بمناسبة انعقاد الدورة العاشرة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني العربي    اكتشافات جديدة لكميات هائلة من الغاز الطبيعي في منطقة اللوكوس    قراءة في ندوة الركراكي : أنا من يتحمل مسؤولية اختياراتي    صندوق النقد يرفع توقعات النمو في الصين إلى 5 بالمئة    استقالة مسؤولة كبيرة بوزارة الخارجية الأمريكية بسبب الحرب في غزة    توقعات أحوال الطقس ليوم الأربعاء    سلطات سبتة تُعلن قرب استخدام تقنية التعرف على الوجوه بمعبر "تراخال"    29 قتيلا و2760 جريحا حصيلة حوادث السير بالمدن خلال أسبوع    البِطنة تُذهب الفطنة    وزيرة الانتقال الطاقي تقول إن تصاميم مشروع خط الغاز المغربي- النيجيري "قد انتهت"    العربية للطيران تدشن قاعدة جوية جديدة بمطار الرباط-سلا    بايتاس يشيد بالسيادة المالية للمملكة    تزايد عدد حجاج الأمن الوطني وحمُّوشي يخصص دعما استثنائيا    ضجة "القبلة الحميمية"..مسؤول يبرئ بنعلي ويدافع عن "ريادة" الشركة الأسترالية    الجيش والرجاء يحققان الفوز ويبقيان الصراع على اللقب متواصلا    القضاء يدين مختلسي أموال مخالفات السير بالحبس النافذ والغرامة    اعتراف إسبانيا وإيرلندا والنروبج رسمياً بدولة فلسطين    حكم قضائي غير مسبوق لصالح مغربية أصيبت بمضاعفات بسبب لقاح أسترازينيكا    الرباط.. استقبال الأبطال الرياضيين المنعم عليهم من طرف صاحب الجلالة بأداء مناسك الحج    الأمثال العامية بتطوان... (610)    وسط أجواء روحانية.. حجاج الناظور يغادرون إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج    البطولة الوطنية الاحترافية القسم الأول (الدورة 28).. النتائج والترتيب    عمالة تاونات تودع حجاجها المتوجهين إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج هذا العام    هل تراجع الرئيس التونسي عن دعم مخطط الجزائر في بناء اتحاد مغاربي جديد؟    ظاهرة "الشركي" ترفع الحرارة بالمغرب بين 37 و42 درجة وسط الأسبوع    الركراكي: منتخب المغرب يمتلك "جيلا ذهبيا" من اللاعبين قادر على إحراز الألقاب    عبد الكريم برشيد: في معرض الكتاب الحكواتي الجديد يحكي الاحتفالية الجديدة    باريس.. حضور قوي للفن المعاصر المغربي ضمن المعرض الطلائعي    تصفيات كأس العالم 2026: الركراكي يكشف لائحة "أسود الأطلس" لمباراتي زامبيا والكونغو برازافيل    مجموعة «رياح كريستالية» تلهب الجمهور بمهرجان فاس للموسيقى العريقة    خط أنابيب الغاز بين المغرب ونيجيريا يبدأ بربط موريتانيا بالسنغال    وزيرة الخارجية المالاوية: المغرب نموذج يقتدى به لما حققه من تقدم في مختلف المجالات    ٱيت الطالب: المغرب يضطلع بدور محوري في تعزيز السيادة اللقاحية بإفريقيا    السيد صديقي يطلع على تقدم المخططات الفلاحية ويطلق مشاريع مهيكلة بالرحامنة وقلعة السراغنة    ملابس النجمات تتضامن مع غزة ضد الرقابة    ايت طالب يناشد من الأمم المتحدة إنقاذ المنظومة الصحية في فلسطين    ارتفاع أسعار النفط في ظل توقعات انتعاش الطلب في الولايات المتحدة    "مستر كريزي" يعلن اعتزال الراب    بعد فوضى سوء التنظيم.. سامي يوسف يوجه رسالة خاصة لجمهوره بمهرجان فاس    خبراء ينصحون بفترات راحة لممارسي رياضة الركض    كيف اكتشف المتحف البريطاني بعد عامين سرقة مجوهرات وبيعها على موقع التسوق "إيباي"؟    انطلاق أولى رحلات مبادرة "طريق مكة" من البيضاء    الغضب يؤذي القلب وقد يقتلك .. كيف؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العنف والمقدس : تقديم ونقد لنظرية روني جيرار
نشر في هسبريس يوم 13 - 04 - 2015


الجزء الأول
لقد ألف روني جيرار (René Girard)، عضو الآكاديمية الفرنسية، كتبا قيمة تبحث في موضوع المقدس وعلاقته بالعنف. ومن بين كتبه أربعة جمعت في نهاية 2007 بمجلد ضخم تحت عنوان “من العنف إلى الإله”. أود هنا تلخيص هذه الكتب الأربعة في مقالتين كي يطلع قراء العربية على محتوى منظومته النظرية مترجمة مما كتبه بنفسه. وسأتطرق بمقالة نقدية ثالثة لأوجه من اليهودية والمسيحية والإسلام رغم أن روني جيرار اكتفى بمدح التوراة والأناجيل التي يعتبرها كتبا تكشف لنا سر العنف المؤسس للديانات العتيقة. إنني مقتنع مثله بأن ديانات التوحيد تزيح النقاب عن أمور عتيقة وعنيفة ولكنني أميل إلى الإعتقاد أنها تحاول، في نفس الوقت، إسدال الستار على عنف من نوع جديد، ليس بأقل ضراوة من العنف المقدس لدى القدامى. أعتقد أن إنسان التوحيد ما زال أكثر الحياوانات ضراوة رغم أنه يحاول التغطية عليها بقِناع شعري شيق وأنيق ولكنه لم يعد قادرا على مخادعة أطفال اليهود والنصارى والمسلمين. أعتقد أنه قد حان أوان تحمل مسؤولياتنا كبشر لنتخلص من أقنعة الدين ومن التحدث باسم الآلهة. لنتحدث باسمنا وكفى.
قبل ست سنوات لم أكن أعرف من هو روني جيرار إلى أن ينبهني أستاذ فرنسي للفلسفة إلى ما ألفه هذا الآكاديمي. لقد انبهرت حقا لما اكتشفت أطروحته حول العلاقة الوثيقة التي تربط بين العنف والمقدس بكل ديانات البشرية. لأول مرة عثرت على فهم شامل لمعتقدات البشر، قديما وحديثا، دون سابق إقصاء لمن ينعتهم أهل التوحيد بالضالين المشركين أو الوثنيين الجاهليين. ولكي أفهمه حق فهمه قمت بدراسة ومناقشة كتابه الضخم مرات عديدة إضافة إلى قراءة مؤلفات أخرى لروني جيرار حول مواضيع مكملة لهاته النظرية.
الرغبة ناتجة عن المحاكاة
انطلق روني جيرار في خمسينات القرن الماضي من تدريس الأدب المقارن ليكتشف ظاهرة المحاكاة في نشوء ونشوب الرغبة، ليؤلف كتاب “كذب رومنسي وحقيقة روائية” الذي خصصه لخمسة روائيين أوروبيين عاشوا في مجتمعات وحقب مختلفة وفي بيئات متباينة. لم تكن لغتهم مشتركة ولا كان لهم نفس الأسلوب ولم يتظافر لهم نفس الميراث الأدبي. وبالمقابل، توفر لديهم نفس الفهم للمحاكاة في الرغبة (في التلهف).
التلهف المُحاكي يحذو حذو تلهف آخر. رغبة تُحاكي رغبة أخرى. وهكذا، فلئن هاجم دون كيشوط (Don Quichotte) طواحين الريح فإنه يعتقد أن أماديس الچولي (Amadis de Gaule)، النمودج المثالي الذي هو قدوة كل الفرسان الشاردين، كان سيفعل نفس الشيء لو كان مكانه. وكذلك هو شأن إيما بوفاري (Emma Bovary) : فهي “تُبرمج” رغبتها وفقا لما جاء بالروايات التي تشبعت بها في شبابها.
فأجمل الأمثلة للرغبة المُحاكية يجده روني جيرار، بكل بساطته، في قصيدة شعرية. إنه الوصف المشهور لحب باولو (Paolo) و فرانشيسكا (Francesca) في ثنايا الكوميديا الإلهية لدانت. تزوجت فرانشيسكا أخَ باولو لتصبح إذن زوجة أخيه. فتَواجُدُ أخ زوجها بجانبها لم يكن من شأنه، في بداية الأمر، أن يشوش خواطرها ولا تشوش خاطر زوجِها باولو بتَواجُدها هي بجانب أخيه. لكن، في يوم من الأيام، كان الإثنان يقرآن معا رواية لانسلو البحيرة (Lancelot du Lac) وفي اللحظة التي تبادر فيها الملكة چونييفر(Guenièvre) ، زوجة الملك أرثور (Arthur)، بتقبيل بطل القصة لأول مرة، في تلك اللحظة بالذات، أدار كل من باولو وفرانشيسكا وجههما نحو الآخر ليتبادلا قبلة، محاكين بذلك ما ترويه القصة.
فالعالَم الحديث يصفق لهاذين البطلين اللذان يتمادان في حبهما، بما في ذلك داخل جهنم الذي ولجاه إثر الخيانة الزوجية وإثر الإنتقام الذي طاردهما به الزوج. وهكذا نرى عالمنا الحديث يُطْبق بصُوَّرِه النمطية الرومانسية على هاته القصة ليتحدث عن “عفوية” وعن “أصالة” الرغبة وعن الهم الإنفرادي لكل واحد من المحبوبين للأخر وعن تجاهلهما للعالم الخارجي، من دون أن ينتبه عالَمنا الحديث لتقوُّله على دانت ولفهمه عكس ما يكتبه الكاتب. هذا هو ما أسميه “الكذب الرومانسي” الذي يُسقِط، من دون أي اكتراث، فَهْمَه الأناني للرغبة على “الحقيقة الروائية” لدانت، أي على كشفه لآلية ”الرغبة المُحاكيَّة”.
لو التزمنا بالنشأة الدانتية للرغبة هاته، توجب علينا الإعتراف بأن باولو وفرانشيسكا أقلُّ اكتراثا بعضهما بالآخر من إهتمامهما بما هما قيد قراءته. شغفهما يتدفق من نفس المنبع الذي تنبثق منه حماقة دون كيشوط، أي من مؤلفات، كما هو شأن إيما بوفاري.
رغم أن هاته الرغبة مستعارة، مستمَدَّة، فإنها تترك إنطباعا وكأنها ليست أقل قوة. فالدغمائية الرومانسية والعصرية تعتبر الرغبة الأشد قوة وكأنها عفوية بالضرورة. بإطباقه على القصيدة وتصوره لرغبة غير ملوثة بالآخر، لرغبة غير حاضرة بالقصيدة، يخون هذا “الكذب الرومانسي” الشاعرَ إلى أقصى حد ممكن.فهو لا ينتبه أنه لما يُقصي من القصيدة نظريتها الدينية للخطيئة فإنه يحطم، في نفس الوقت، قوةَ إيحاءها. وبالفعل، من أين لنا بهاته القوة الملموسة للرغبة الآثمة ؟ لا يمكننا، بالضرورة، أن نجد نشأتها سوى بما هو أمامنا من عناصر معرفية : نشأت من المحاكاة. لا يقول دانت أكثر من هذا عن هاته الرغبة.
إن الرغبة الناتجة عن محاكاة ليست أقل قوة من الرغبة العفوية بل هي الأكثر شدة وهي الرغبة الحقيقية الوحيدة. إنطلاقا من مفارقة غريبة حقا ولكن أساسية، نرى أن الرغبة صادقة لأنها رغبة مُحاكيَّة (تلهف منبثق من تقليد). فالشاعر دانت واقعي إلى حد أننا نقرأ نصه وكأنما نحن أمام إحساس حقيقي بالرغبة. فالمحاكاة المتواجدة بنصه تَغِيب عن بصيرتنا كما تَغِيب عنها في حياتنا اليومية. وقوته الشعرية تبلغ منتهاها عند القارئ عبر حجاب من الجهل.
يُدين دانت هنا دَوْر الوسيط للفاحشة الذي لعبته الكتب لمدة طويلة. وتقوم بهاته المهمة في عصرنا قنوات أشد إيحاء من الكتب : السينما والتلفزيون. فدانت لاهوتي يشجب الزاني والزانية وهو، في نفس الوقت، شاعر ينفذ للحقيقة الروائية. لكن الكذب الرومانسي ما فتئ يعود كل مرة، كسرب من الذباب، ليدندن حول القصيدة.
ويصنف روني جيرار ما يمكنه أن يصبح موضوعا للرغبة إلى صنفين : فهناك أولا ما يمكن اقتسامه، أي بالإمكان أن نشترك في تملكه. فتقليد رغبة موضوعها من هذا النوع يؤدي إلى تعاطف بين من يشتركون نفس الرغبة. وللأسف الشديد هناك أشياء من نوع ثان : نوع يستحيل اقتسامه أو لا نريد أن نقتسمه مع أحد، موضوع نتعلق به إلى حد أننا لا نريد أن نتخلى عنه لمن يقلدنا. فالزوجة التي يحتكرها الزوج لنفسه موضوع نموذجي في هذا المقام. فتقاطع رغبتين عند موضوع لا يمكن اقتسامه يعني أن المُقلِّدَ ومثاله لا يمكنهما أن يشتركا في نفس الرغبة دون أن يصبح أحدهما حاجزا في وجه الآخر وتؤدي تفاعلاتهما ليس إلى إنهاء الرغبة بل إلى تأجيجها لتصبح متبادلة ومتواجهة. هذا هو ما يسمى المنافسة المُحاكِيَّة أو المقلِّدة.
فالشعور الإيجابي الذي يدفع بالمريد (بالتلميد) في بداية الأمر نحو تقليد مثاله ينجلي لتحل محله كراهية تشتد هوسا كلما ظلت مختلطة بمشاعر التبجيل. وتؤدي المنافسة المقلِّدة إلى مزايدات تتفشى كالوباء عبر المحاكاة وغالبا ما ينتج عنها تفسخ للمجتمعات.وفي كل دورة من التصعيد الحلزوني، توحي المنافسة للخصوم بنفس الإستراتيجيا لينتصروا على منافسيهم، وبنفس الحيل ليخفوا أهدافهم. كلما قالوا أو فعلوا شيئا أو عبروا عن شعور إلا وعادت لهم أقوالهم أو أفعالهم أو مشاعرهم منعكسة على مرآة منافسهم “الشيطانية”.
فالمنافسة المقلِّدة متفشية ولكن قليلون هم الكتاب الذين يكسرون حاجز الصمت بشأنها لينددوا بالمغالطات التي تلابسها. لكي لا نواجه تقليدنا للآخر، نخفي الصراعات الناتجة عنه وراء قناع تجميلي نسميه معارضة أفكار أو آراء أومعتقدات. فالإختلاف الأساسي الذي تقلصه المنافسات المُحاكيَّة هي المسافة الفاصلة بين المثال ومُقلِّده.
والإختلاف الحقيقي بين دون كيشوط وضحايا الرغبة المقلِّدة العصريون يكمن في استحالة عودة آماديس للحياة ليشارك البطل المقلِّد أطباق الحلوى المفضلة لدى التواقين لوجاهة الفرسان. يُعَّدُّ دون كيشوط أسعد ضحايا الرغبة تبعا لرغبة الآخر. إنه في منأى عن التنافسات المقلِّدة وبالتالي عن هذا الداء العصري بامتياز والذي لاحظه نيتشه دون أن يصفه بدقة : إنه الحسد، le ressentiment بالفرنسية، خليط من التبجيل والكراهية، ألْهم أغلبيةَ العصريين فكرةَ تَحَوُّلِ مثالاتهم ليصبحوا حواجز ومنافسين.
آلية كبش الفداء : كيف يتحول الإجماع على الظلم إلى تقديس للعنف
بعد رصده لظاهرة المحاكاة التي تنطلق منها الرغبة يلاحظ روني جيرار أن الرغبة في تملك ما لا يمكن اقتسامه مع الراغبين فيه مثلنا قد يؤدي إلى العنف وأن ذلك العنف لا يتأجج ولا يتفشى إلا في حالة ما إذا رافقته ظاهرة المحاكاة : عنف يقابله عنف مضاد إلى أن يختلط الحابل بالنابل ويصبح من الصعب جدا أن نفرق بين الظالم والمظلوم، بين المقلِّد والمقلَّد فيعم التشابه بين كل المشاركين في العنف وتنتج عن كل ذلك فتنة عارمة.
وبعد دراسة دقيقة لأساطير قديمة وأخرى ما زالت متداولة لحد الآن، بالشرق وبالغرب، بإفريقيا وبأمريكا... لاحظ روني جيرار أن كل تلك الأساطير تحكي لنا قصصا متشابهة تبحث فيها الجماعة عن مسبب النوازل التي تصيبها. وفي كثير من الأحيان يتأتى لها الإجماع على نعت آثم واحد ثم الإقدام على تصفيته جماعيا ودون محاكمة. والغريب في الأمر هو أن هاته العملية التي يذهب ضحيتها أبرياء، تؤدي إلى عودة الهدوء وإلى إخماد نار الفتنة. وسرعان ما تعتبر الجماعة تلك العملية خارقة للعادة إلى حد تقديسها لانها تؤدي إلى الخلاص من ويلات مرتقبة. ويلاحظ المفكر كذلك أن مثل تلك الضحايا لا يتم إختيارها بشكل عبثي كل العبث : ليس لها أبدا من يدافع عنها وبالتالي لا يؤدي قتلها للثأر.
ومغبة المحاكات لا نعايشها فقط عندما يندلع العنف بل يلاحظها روني جيرار كذلك في حياتنا اليومية : لما نسأل “الخبراء” عن سبب العنف بعالمنا وتهديداته المتزايدة، فإنهم يُجمِعون على تقديم جواب تلخصه كلمة واحدة ، غير مقنعة كما هو واضح للعيان : عُدْوَان. فسبب العنف حسب هؤلاء الخبراء يَكْمن في عدوان المعتدين وحدهم. واللجوء لهاته الكلمة مَنْفَذ فائز لأنه يُبَرِّئ تقريبا كل الناس من كل مسؤولية فيما يلعبه العنف من دور متزايد الأهمية بعالمنا.
فلْنتَفحص “خبراءَنا” أنفسَهم، خبراء في شؤون العنف. إنهم في أغلب الأحيان باحثون ومفكرون، يتأملون ويمارسون نشاطا ذهنيا في هذا الموضوع. واضح أن أغلبيتهم لا ترتكب أبدا إثم “العدوان” ضد جيرانها. فهل معنى هذا أنهم حقا مُسالِمون كما يعتقدون ؟ أكيد لا ! لهم طموح كبير ويتنافسون بقوة وهم شغوفون بمسابقاتهم.
ولنذكر بتعريف العنف المُقلِّد (المُحاكي). فكلما حاكينا رغبات مِثالنا، كلما أصبحت لنا نفس الرغبة. إبتداء من ذلك تستفز وتُغيض كل رغبة الرغبةَ المقابلةَ لها وتزيد كل واحدة منهما من حِدَّة من تُجاريها. والنتيجة ليست قساوة جسدية ولكنها عنف معنوي يقترب من التعنيف الجسدي وينتهي به الأمر دائما إلى التحريض عليه. يقال إن المنافسة المُحاكيَّة تلعب دورا مرغوبا فيه بكثير من الميادين. وهي بالفعل تشجع على إنتاج آلاف الأشياء الصالحة. ولكن لا يمكن دعم هاته المنافسة دون إتخاذ بعض التدابير اللازمة. إنها السبب الرئيسي والأساسي للعنف بين البشر. يوحي هذا الجواب بسؤال جديد لم يكن بمقدرة كتاب “كذب رومنسي وحقيقة روائية” أن يجيب عليه لأنه لم يطرحه. كيف كانت الثقافات العتيقة تتقي شر المنافسات المُحاكيَّة ؟
لفهم ما تهتم به الديانات العتيقة، يعتقد روني جيرار أن الأساطير المؤسسة لها هي أهم مورد. تبدأ هاته الأساطير، في أغلب الأحيان، بالإشارة، وبشفافية كبيرة، إلى فتنة عنيفة تندلع خلالها المنافسات لتنحل إثرَها الإختلافات الثقافية. لا تعتبرالمجتمعات الإنسانية نفسها أبدا مسؤولةً عن تلك الأزمات. تعتقد أنها ضحية لعدوان خارق للطبيعة، أو لخلل بالكون أو لوباء متفشي بسرعة كما هو شأن الطاعون الذي ورد بمسرحية “أوديب ملِكا”. وفي آخر المطاف ينبثق نظام جديد من هاته الفوضى العارمة، بعدما يمر المجتمع عبر محنة جماعية تضع حدا للأزمة. وتتخذ هاته المحنةُ - التي غالبا ما تبقى غامضة - شكلَ إِجْمَاع لقتل ضحية واحدة من دون محاكمة.
ولما تحتد المنافسات ينساق الخصوم نحو الإستغناء عن موضوعِ تنافسهم ليصبحوا هم أنفسُهم موضوعا للتطاحن. يتأجج العنف ولكن، مع قليل من الحظ، نراه يتفشى وينتقل بسرعة وينتهي أخيرا إلى تجمع يميل نحو الإجماع ضد شخص من الجماعة، يبدو أنه عادي. فكلما تعددت الرغبات المستقطبة ضد شخص كلما ظهرت نزعة أقوى نحو تجمع الرغبات الأخرى ضده. وبالتالي تتعاظم إمكانية حدوث “ظاهرة تضخم كرة الثلج” ضد ذلك المسكين. وهذا السلوك ناتج عن ظاهرة المحاكاة بطبيعة الحال. وكلما تقدمت الأحداث كلما انقلبت فوضى الضغائن المتنافسة، بشكل عفوي، إلى “إجماع ضد واحد”. إجماع يجلب السلام على حساب نفس الشخص : إنه “كبش الفداء” بعينه.
وبعدها يمكن لكل غرائز العنف أن تنتقم دون قيد من تلك الضحية التي لا أحد يدافع عنها. فالكل يجمع على أنها السبب الوحيد للكارثة. ونتيجة الإجماع ضد هاته الضحية هو إخماد الفتنة بتهدأته للجماعة. إنه النفع الذي تجنيه الجماعة من ذلك العنف : يقع الإختار من دون وعي على ضحية لا يثير عذابُها أي ثأر، وبالتالي يضع هذا العنف حدا للعنف عوض إذكاء دوامة. يعتقد روني جيرار أن هذا هو ما يصفه أرسطو في كتاب “فن الشعر” كcathartique بمعنى مُطَهِّر، مُفرِغ للأمعاء. هنا تكمن فائدة الدين العتيق : إنه يطهر ويفرغ أحشاء العنف بواسطة العنف نفسه. إنها ظاهرة كبش الفداء. بفضله تستعيد الجماعة وحدتها ضد ضحية وحيدة، وبالتالي حولها، لتُصْلِح ما أصابها من أضرار بالغة تسببت فيها أزمة محاكاة.
يزعم بعض الملاحظين أنهم لا يستوعبون هاته الظاهرة. لكننا لو كنا حقا لا نفهم “قدرة التطهير” التي ينطلق منها أرسطو لما أسبغنا على عبارة “كبش الفداء” أبدا معناها الدقيق الذي يشير إلى اسقطاب للعنف الجماعي ضد فدية واحدة.في بداية الأمر، لم تكن عبارة bouc émissaire (كبش الفداء) تعني سوى ضحية الطقس الديني المشهور في “يوم الغفران”، أي ذلك العنز الذي يجليه الكاهن الأكبر للقفار بعد أن يُحمِّله، رمزيا، بآثام إسرائيل. ثم تطورت دلالة هاته العبارة بالغرب المعاصر (منذ القرن السادس عشر أو السابع عشر حسب ما ورد بالقواميس) لتشير إلى الظاهرة التي حددت معناها هنا. إنها ظاهرة مرعبة، لكنها جد ثمينة بالنسبة للمجتمعات : الإجماع ضد ضحية لا تعي الجماعة أن لا صلة لها بالموضوع وأنها بالتالي بريئة. جماعة يوهما إجماعها.
باقتضاب : يتعلق الأمر بظاهرة لاتتحقق سوى عبر المحاكات، تقليد يعتبره المفكر جوهريا في نشأة الدين العتيق. فتبجيل “كبش الفداء” مرده أنه قادر على جلب المُصالحة. هذا هو التعريف الذي يقدمه للدين العتيق ونظريته الرئيسية حول ما يربط بين “العنف والمقدس”. والديانات العتيقة التي ما زالت متداولة لا تحتوي على أي دليل قاطع لصالح هاته النظرية ولكننا نجد بها مئات من المؤشرات المتواترة التي تدلنا على صحتها وتؤكدها. فالقسمات المتكررة عند أبطال- ضحايا هاته الديانات تعني أن طريقة اختيارهم ليست عبثية كل العبث. تُفجَع هاته الضحايا بعاهات جسدية تشمئز لها النفس، بتر وأعطاب وتشوهات. لقد لاحظ بعضهم - عن حق - أنه لو اجتمع كل أبطال الأساطير بمكان واحد وشاسع لكان ذلك أشبه ما يكون ب”ساحة المعجزات” cours des miracles (تواجدت بالمدن الفرنسية قديما ساحات يجتمع بها قطاع الطرق والشحاذون والمعطوبون والمتسولون. وسميت “ساحات المعجزات” لأن كثيرا من المعوقين كانوا وكأنما “يشافون” فجأة من أعطابهم المفتعلة لما يعودون لمضجعهم هذا بالليل. أما في النهار فيتوزعون بشوارع المدينة ليستعطفوا الناس بعاهاتهم.).
بجانب من هم مثيرون للقزازة نجد خلابين وجذابين. فعدد غفير من أبطال الأساطير هم بمرتبة الملوك والأمراء، ما يثير حسد وحقد رعاياهم. فلكل هاته الضحايا خصوصيات بارزة، باعثة على الإشمئزاز أو عكسه، بحيث يتعذر أن يكون اختيارها عبثيا كل العبث. على خلفية رمادية متماثلة لدى الغوغاء هنالك إذن ما يجذب الإنتباه قبل أن يتحول إلى عداء، إما من جراء الخوف والنفور الذي يتسبب فيه المعوقون والمعطوبون عند الجهلاء، إلى يومنا هذا، وإما من جراء الحسد الذي تتسبب فيه الإمتيازات عند الذين تنقصهم.
وإن لم يُكَوِّنوا أغلبيةً فإن الأبطال الخارقين للعادة، كأوديب مثلا، كثيرو العدد إلى درجة الدلالة على مغزى. ولتوضيح هذا يجب أن نضيف لهاته القسمات ميزة أخرى يتصف بها أبطال الأساطير بحيث لا يمكن أن يكون ذلك من باب الصدفة، حتى ولو لم تكن منتشرة بكثرة. تقدم لنا الأساطير بعض أبطالها ك “زوار أجانب”. وهاته الإشارة الدقيقة تدلنا، على أن هناك معيارا مشابها لما سبق وصفه في اختيار الضحايا : الخوف من المجهول والذعر مما هو شاذ بشكل استثنائي.
فالخاصيات الأكثر أهمية عند أبطال الأساطير من شأنها أن تستقطب ضدهم هيبة وإهتمام جماعات منعزلة تجهل العالم الخارجي جهلا تاما. لو تساءلنا عما ستكون عليه ردة فعل جماعات منغلقة حين لقاءها بالعالم الخارجي، توجسنا أن الأجنبي سيكون في بداية الأمر مَحَطَّ فُضول أكثر من أن يُسَبب الريبة. لكن قد يؤدي أي حدث، ولو بسيط جدا، إلى تصفية جسدية سريعة للغريب الطائش. وإن تبع تلك الواقعة تطهير طويل الأمد لكانت كافية لتأليه الضحية المجهولة الهوية.
للصدفة دور مهم في عملية اختيار أكباش الفداء المألهة ولكنها تتأثر كذلك وإلى حد بعيد بتخوفاتنا وبأحكامنا المسبقة، إلى عصرنا هذا. وَصْفُ عملية الإنتقاء هاته بأنها ليست عشوائية بالجملة يُمَكِّن من الأخذ بعين الإعتبار لمؤشرات، هي بالفعل قليلة العدد، لكنها كافية لتصور النشأة المحتملة للدين العتيق.
تَفْهم المجتمعات التي يُحَدِّق بها خطرُ الفتنة حق الفهم هولَ ما تتخلص منه لما تُجْمع على تصفية ضحية. خلال الأزمة تكون الجماعة مهددة برمتها وها هي ضحية قادرة، لوحدها، على إستعادة النظام والسلم. لا يمكننا أن نحلم بحل إقتصادي أكثر من هذا لإنهاء الأزمة التي كانت ستجرف بكل شيء. كان من المرتقب أن يكون هنالك عشرات الضحايا أو أزيد من ذلك وها نحن نرى أن ضحية واحدة كافية لشفاء الجماعة. أليس هذا بخارق للعادة (معجزة) ؟لكي تحصل الجماعة على “كبش للفداء” يجب أن تجهل أنه “كبش للفداء” : من اللازم أن تعتبره كمذنب فعلا، كآثم “يستحق الموت”، على ما يبدو، إذ يصبح مُخَلِّصا حقيقيا للجماعة بعدما تُجمِع على اختيارته عن طريق المحاكاة. لما تتوالى عمليات المحاكاة بسرعة فإنها تتسبب في اختلال المجتمعات، ولما تتسارع أكثر من ذلك تتحول، في بعض المرات، إلى آلية تعيد التوازن والسكينة للجماعة مقابل أضحية واحدة.
يرى روني جيرار داخل الديانات العتيقة تعلقا شديدا بظواهر “كبش الفداء” لدى الجماعات التي تجني منها منفعة. وتُعتبر هاته الظواهر كقوى تتجلى من تلقاء نفسها وتثبت قدرتها على منح الخلاص للجماعة متخذة هيئة آلهة مرعبة ولكنها نافعة في آخر المطاف. كان الظهور العفوي ل”كبش الفداء”بالمجتمعات العتيقة يقف مباشرة في وجه العنف، وهو إتقاء للعنف بطريقة غير مباشرة عبر النحر الطقوسي الذي هو تكرار مقصود لظواهر عفوية ومحاكاة يعتريها تمويه متقن كل الإتقان. فلما كانت العلاقات البشرية تنذر بالتدهور في جماعة ما، أسرعت لمسابقة الأحداث إتقاء منها للعنف (التقوى معناها الوقاية أو الإتقاء قبل أن تعني الخشية والخوف) دون انتظار ظاهرة محتملة الوقوع لا يمكن الإعتماد عليها.
فالتضحية الطقوسية محاكاة لظاهرة كبش الفداء العفوية بالإقدام على نحر ضحية اختيرت عمدا لتلك العملية. كي تضمن الجماعة نجاحا لعمليتها فإنها غالبا ما تلجأ أولا إلى تقديم عروض تذكر بقيام الفتنة العنيفة التي كانت قد سبقت عملية التطهير العفوية والتي ساعدت ولا شك على ظهورها. المقصود إذن هو نجاح عملية تطهير مصطنعة، ولإحراز ذلك الفوز تلجأ الجماعة لأداءٍ وَفِيٍّ للملابسات التي رافقت عملية التطهير الطبيعية المؤسسة لتلك الطقوس.
تدلنا آلاف المؤشرات على أن الجماعات العتيقة جدا تميل، في بداية الأمر، إلى انتقاء أشخاص هم أشبه ما يكون بمن يرتجى إبعاد الداء عنهم. وفي نفس الوقت يقع الإخيار على أشخاص أقل قدرا في نظر الجماعة، أضحيات يستباح نحرها : أجانب، عبيد، أسرى الحرب أو أيتام. ومع تقدم الزمن، حلت البهائم محل الأضحية البشرية، إنتقال هو بمثابة تقدم ملحوظ في مقاومة العنف. هذا ما يسجله مشهد مشهور بالتوراة حيث لا يُنْحر إسحاق بل يُعَوَّض عنه بكبش، في آخر لحظة.
لا تقوم آلية كبش الفداء بوظيفتها على أحسن وجه إلا عندما تبقى حقيقتها غامضة، غائبة عن وعي الجماعات التي تدين بالديانة المنبثقة منها. فكلما فهم المتدينون ما تدل عليه تضحياتهم كلما فقدت من نجاعتها. فالانطباع الناتج عنها لا يعود كافيا لمخادعة العنف. فطقوس التضحية العتيقة يصيبها الهرم، لكن فقدان نجاعتها بالمجتمعات التي تهيمن عليها الشعائر، يؤدي بدوره إلى أزمة (فتنة) ولظهور كبش فداء جديد يضمن بعثا للمؤسسات وللشعائر الدينية.
المحرمات إتقاء لنشوب الرغبة ثم العنف داخل الأسرة والعشيرة
وبجانب الأضحيات نجد مؤسسة دينية عتيقة أخرى، إنها المحرمات. فأينما ساد العنف سابقا لا يُسْتبعد أن يَتَفشى من جديد. وجيلا بعد جيل، نلاحظ أن لهيب التطاحن المُحاكي (عنف يليه عنف مضاد) غالبا ما يتأجج أولا فيما بين الأقارب. فبعضهم قريب من البعض، وهم أشخاص متشابهون جدا بحيث أنه من الطبيعي أن يتوقوا لنفس الأشياء. في عدة مجتمعات عتيقة يعتبر الأخوان التوأمان كنموذج، إن صح التعبير، لعدوين متنافسين لا تحمد عقباهما بحيث تتوجس تلك المجتمعات منهما شرا لا لشيء سوى أنهما توأمان وتُقْدِم في كثير من الأحيان على تصفيتهما عند الولادة إتقاء لعواقب وخيمة. لم يفصل الدين العتيق بواسطة المحرمات بين المنافسين الحاليين فحسب بل يتعداهم ليفصل بين ذريتهم كذلك، أي بين متنافسين في المستقبل، غدا ثم بعد الغد.
لو كانت المحرمات حقا كما يصفها علماء النفس والرواد الحاليون، لو لم يكن لها معنى، ولو كانت متجذرة في مَقْتٍ مرضي للجنس لَتَمَّ حظر كل نشاط جنسي. فالعذراء التي كان محرما عليها نكاح هذا أو ذاك (القريب) كانت محللة لشخص آخر ولربما كانت ملزمة عليها نكاحه. ما كانت تحلم المحرمات العتيقة بالتوصل إليه هو توزيع كل الأشياء المرغوب فيها مسبقا حتى لا تدع مجالا للتطاحنات من جراء المحاكاة. ولا يتعلق الأمر بالنكاح فحسب. لم يكن سبب المحرمات إذن هو مقت غير معقول للملذات، وإنما تخوف، له ما يبرره، من نشوب الفتنة داخل الجماعة.
لو لم يكن للشعائر الدينية وللمحرمات دور في إتقاء العنف على مدى التاريخ البشري لما دامت وقتا طويلا كهذا. فالقرن العشرون الذي اقتربت نهايته تخلى في كثير من الميادين، ومنها علم الإنسان (الأنتروبولوجيا)، عن المنطق السليم فانصرف هذا الأخير بدوره عن قرننا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.