16/ بالأبيض والأسود كانت أمي تهتم بي كثيرا عندما كنت صغيرا، لدرجة لم يفتني أي لقاء بينها وبين نساء الحي أو من كانوا يزورنا بانتظام، حتى أصبحت ألقب بين اقرأني ب" ولد مو " لكن أبي كان ينهرني باستمرار ويقول لي: " حرفة الجلوس مع النساء لاتورث سوى البلاء " وفعلا من عاشر النساء في صغره أربعين يوما يصبح مثل السيف يذبح من كل الجهات ومع مرور الأيام كان أساندتي في الإعدادي يشهدون على تفوقي الكبير بالطبع ليس الدراسي وإنما الحجاجي. صراحة أصبحت مبدعا في أسرار البيوت وحروب الليل والشهوة . وصدق أبي عندما كان يقول إن سوق النساء لاتباع فيه سوى سلعة المتعة. كنا نقطن بحي إداري والغريب أن منزلنا المبني بالأجور الأحمر( وهو بناء عشوائي مائة بالمائة نبت كشوكة وسط المصالح الإدارية وسكن المسؤولين الذي كان بمواصفات خاصة ) وكان على مساحة متوسطة تتوسطه شجرة متوحشة وبئر يفيض منه الماء وبهو كبير كان يجمع كل نساء الحي وقت الشدة والرخاء، ومعه العديد من المساكن قد سلمتهم السلطة لرجالها من القوات المساعدة و الجنود المتقاعدين وكان منهم أبي ، الرجل المحارب ... حارب ماذا ؟ 5000 محارب من المغاربة المنتمون إلى منطقتنا والتي تعرف نسبة عالية من الأمية جلهم في ريعان الشباب والفحولة تركوا وطنهم وبيوتهم وانطلقوا إلى الجحيم ، أقصد الفيتنام ، يحاربون من أجل العلم الفرنسي وسحره الأزرق والأحمر وماهو المقابل.... لن تصدقوا ...فقد رجع منهم 500 فقط أشباه رجال ومعهم جبل من الكوابيس ... آبي لازال يستيقظ أربع مرات وهو يصرخ و يلعن الزعيم الفيتنامي" هو شيمين" و يقدم التحية العسكرية لفرنسا، مسكين في آخر الشهر يذهب رفقة بعض أصدقاءه الذين أطال الله في عمرهم ليستفيد بمبلغ جد جد هزيل لايتعدى 600 درهم وهناك من يقول له أنت أيها البطل، رجل محظوظ .... كان أبي يختلف كثيرا عني، رجل متدين بامتياز يعتقد اعتقادا راسخا أن الإنسان خلق فقط ليعبد الله ولهذا فهو لايتوقف عن نصحي كل يوم" اجعل الصلاة أعز شيئ في حياتك فسوف يعزك الله في كل شئ" غريب أمر هذا الرجل الذي لم تطأ قدمه يوما المدرسة ويتعثر في الحروف كما يتعثر الأعمى في غابة مشجرة، لايتوقف في إعطاء الدروس لي ولكل من يعرفه في شؤون الدين، كأنه قديس من قداس العصور الوسطى. كان أغلب الوقت يتحدث بثقة تامة وفي كل مرة ينهرنا ويقول لنا أنتم لاتعرفون شيئا في هذه الحياة فقد أفلستكم هذه المدارس النصرانية والتي كان يطلق عليها " السكويلا " وكان يترجمها لنا " بالشك والويل " و ينصحنا بمتابعة الدراسة بالكتاب القرآني فهو ملهم الدنيا والآخرة .وكان يدهشني كثيرا عندما أجده يتأبط المصحف الكريم ويفتحه ويبدأ في القراءة ، فقط أسمعه يتهجى بصعوبة خليطا من الكلمات والتي تنزل على رأسي كأمطار الصيف ، فأبتسم له بسخرية وأقول له : سنتين ياأبي أو أكثر وأنت تتلقى دروس محو الأمية بالمسجد ولازلت تصنع الكوارث، ولكن العيب ليس عليك وإنما على من يريدون محو التخلف بشحن رؤوس شيوخ على باب الموت وليس شباب على باب الحياة. فيحرك رأسه كأنه يفهمني. وكان غالبا ما يشتد غضبه عندما يؤذن المؤذن للصلاة ونحن مجتمعون، كل شباب الحي بمنزلنا نتابع عبر شاشة التلفزة ، وقتها كانت بالأبيض والأسود- وكان التلفاز الوحيد بالحي- مبارة في كرة القدم بين منتخبنا وإحدى المنتخبات في إحدى البطولات الإفريقية ونحن في هياج تام غير مبالين بالعالم من حولنا، فيتقدم لإطفاء التلفاز فيبدأ الصراخ والعويل كأننا في مأتم فيتراجع عن قراره الجنوني وهو يتمتم لقد أفسد اليهود عقولكم بهذا الاختراع الخطير " صندوق سحري وجلدة فارغة" وتحولتم بقدرتهم كالقطيع ، فيضرب الباب وراءه بقوة وهو يردد : فعلها اليهود، فعلها اليهود.......وعندما كبرت فهمت لماذا كان أبي يرجع كل شرور العالم إلى اليهود ؟ ولا أخفي عنكم كنت أحاول بكل الوسائل ألا أشبه أبي في أي شئ وأن أكون مختلفا عنه ومتميزا في كل شئ، وأن اهرب من كل مخلفاته لكن كنت أفاجأ بين الحين والآخر عندما يقدم أحد الأصدقاء في بعض الجلسات على الإثناء على أبي والتذكير بمناقبه ويختمها بالقول : حبذا لو كنتم تشبهون أباكم لكن للأسف النار لاتترك سوى الرماد . نبت كالشوك وسط منازل المسؤولين الاداريين بالحي، كان الفرق شاسعا بيننا وبين ابنائهم في كل شئ ،