منذ تاريخ قديم وجد اليهود في المغرب بلدا آمنا للعيش والاستقرار وشعبا كريما فتح ذراعيه لاستقبالهم على امتداد مراحل الهجرات بعيدا عن الصراعات والاضطهاد. وإذا كان الدستور المغربي لسنة 2011 يعترف بالرافد اليهودي كواحد من الروافد الأساسية المكونة للهوية المغربية، فإن الأمر لا يشكل سوى استمرارا لعلاقة عريقة عاصرت مختلف الدول التي تناوبت على حكم المغرب ووجدت أوجها مع الدولة العلوية، وهي اليوم نموذج فريد في العالم العربي والإسلامي عندما يتعلق الأمر بالحديث عن العيش المشترك والتعدد الديني داخل المجتمع الواحد. تشير التقديرات والمراجع التاريخية إلى أن وجود المكون اليهودي في المغرب يعود تاريخه إلى ما قبل الميلاد، ومن بين المجموعات اليهودية التي تواجدت في المغرب هناك يهود "التوشفيم"، أو المحليين الذين يعود تاريخ قدومهم إلى المغرب إلى الفينيقيين، لكن أكبر موجة توافد لليهود على المغرب تعود إلى القرن الخامس عشر، وبالضبط إلى فترة محاكم التفتيش وقرار الطرد الذي شمل بشكل مشترك مسلمي ويهود الأندلس في ظل محاكم التفتيش؛ حيث قدر عدد الوافدين خلال هاته الفترة ب 20.000 شخص، عاشوا إلى حدود بداية الحرب العالمية الثانية. ولم يغير خضوع المغرب للاستعمار الأجنبي من مكانة اليهود داخل المجتمع المغربي؛ حيث تشير بعض الدراسات إلى أن عدد المغاربة اليهود بلغ في سنة 1940 حدود 250 ألف نسمة، وكان هذا الرقم يمثل نسبة 10 بالمائة من مجموع ساكنة البلاد، وبلغ مع حلول سنوات الخمسينات ال300 ألف يهودي مغربي. وعلى الرغم من الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له في أوروبا وعدد من الدول، أبى المغرب إلا أن يحفظ أمنهم وسلامتهم، وحرص على أن لا يكون هنالك فرق بين اليهود والمسلمين في حقوق المواطنة، بل ورفض المغفور له الملك محمد الخامس الخضوع لضغوطات حكومة فيشي بترحيل اليهود مؤكدا أن المغرب لا يضع تمييزا بين أبنائه على أساس الدين أو العقيدة. إن العناية التي يوليها المغرب منذ القدم لمكونه اليهودي لا تقتصر مظاهرها فقط على الجانب الاجتماعي وعيشهم جنبا إلى جنب مع المغاربة المسلمين في عدد كبير من المدن، بل يراعي في ذلك الخصوصيات الدينية في الجوانب القانونية والقضائية الخاصة بالطائفة اليهودية. وعلى سبيل المثال، فقد تم إصدار ظهيرين في ماي 1918 يخصان إعادة تنظيم المحاكم العبرية والتوثيق الإسرائيلي في المنطقة الجنوبية من المغرب، ثم ظهير 15 فبراير 1925 المتعلق بتنظيم المحاكم العبرية والتوثيق العصري بطنجة، وتلاه ظهير 20 مارس 1928 المتعلق بتنظيم المحاكم العبرية والتوثيق في منطقة الشمال، والتي تختص في مسائل قانون الأحوال الشخصية والإرث لليهود المغاربة. وفي مرحلة الاستقلال أصدر المغرب ظهيرين في مارس 1957 يرميان إلى تحديد عدد المحاكم العبرية بالمغرب وتعيين مراكزها والدوائر التي تغطيها، وأصبحت المحاكم العبرية تختص في قضايا الأحوال الشخصية خاصة الزواج وشروط التعدد ومعيار الذمة المالية للمرأة المتزوجة وحالات التعدد والزواج المختلط، كما تناول نظام الطلاق وما يرتبه من حقوق ونظام الإرث في الشريعة الموسوية، والمساطر المتبعة في اقتسام التركة والهبات والوصايا، وهي محاكم ما زالت قائمة وتبث في النزاعات المرتبطة بالأحوال الشخصية لليهود المغاربة من دون أن تجعلهم يخضعون للقوانين المغربية المستمدة من المرجعية الإسلامية. لقد ساهمت أجواء الاحترام والتعايش بين الأديان في المغرب في خلق نخبة يهودية شغلت مناصب مهمة، سواء في المجالات الاقتصادية أو العلمية أو الدبلوماسية أو الثقافية، أو حتى داخل بلاطات الملوك المغاربة. ومن دون الغوص في أسماء الشخصيات اليهودية البارزة في التاريخ المغربي القديم، سنكتفي بالإشارة إلى أن أول حكومة مغربية بعد الاستقلال تضمنت شخصية يهودية، هي الدكتور ليون بن زاكين الذي شغل منصب وزير البريد واستمر في منصبه حتى بعد التعديلات التي شهدتها تلك الحكومة، كما أن الرئيس الحالي للطائفة اليهودية سيرج بيرديغو يعتبر واحدا من الشخصيات اليهودية المغربية المعاصرة التي شغلت منصبا حكوميا؛ حيث عين وزيرا للسياحة سنة 1993 في حكومة عبد الكريم العمراني، ناهيك عن تعيين أندري أزولاي مستشارا اقتصاديا للملك الراحل الحسن الثاني والذي اختاره جلالة الملك محمد السادس مستشارا له أيضا بعد توليه مقاليد الحكم. ومن بين مظاهر حرص المملكة المغربية وعلى رأسها صاحب الجلالة على حماية الحرية الدينية لليهود المغاربة واحترام أماكن عبادتهم والمحافظة على موروثهم الثقافي والديني، يمكن التوقف عند مشروع تأهيل المقابر اليهودية الذي أطلق سنة 2010 بمبادرة ملكية، وهمّ 167 موقعا ب14 جهة بالمملكة، في عملية استثنائية تجسد اعتراف المغرب بروافده وتبصم عن واقع وثقافة متجذرة في التاريخ العريق للمملكة. وفي الإطار نفسه، جاء ترميم عدد من البيع اليهودية في المدن المغربية من بينها كنيس صلاة الفاسيين بفاس، وتأكيد جلالته في رسالة إلى المشاركين في تدشينه على تشبع المغاربة العميق بقيم التعايش والتسامح والوئام بين مختلف مكونات الأمة، وعلى التزام جلالته باعتباره أميرا للمؤمنين برعاية حرية ممارسة الشعائر الدينية لكل الديانات السماوية، بما فيها اليهودية. ولتأكيد الاستثناء المغربي في حفظ ذاكرة اليهود المغاربة ومنعها من الاندثار وتعريف الأجيال الجديدة بمساهماتهم في الثقافة والهوية المغربيتين، فإن المتحف اليهودي في الدارالبيضاء الذي أسسه سيمون ليفي سنة 2011 يبقى صرحا ثقافيا مهما ينفرد به المغرب في العالم العربي والإسلامي، ويربط الماضي بالحاضر، ويقدم صورة مشرقة لمغرب متسامح ومتعدد ومنفتح ومتصالح، وملتقى لحوار الثقافات والديانات. *الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج