فتح بحث قضائي حول تعرض بعض المواطنين المغاربة للاحتجاز من طرف عصابات إجرامية ناشطة بميانمار    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    روسيا تسيطر على 3 بلدات جديدة والمعركة مستمرّة    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    الجيش والمولودية يكملان ركب المتأهلين إلى نصف نهائي كأس العرش    أخنوش يلتقي الرئيس العراقي والارتقاء بعلاقات البلدين في صدارة المباحثات    تعزيز التعاون القضائي محور مباحثات السيد الداكي مع نائب وزير العدل الصيني    الحسيمة.. درك النكور ينهي نشاط مروج مخدرات مبحوث عنه وطنيا    يعالج حموضة المعدة ويقي من الاصابة بالسرطان.. تعرف على فوائد زيت الزيتون    النيابة العامة تدخل على خط احتجاز مغاربة بميانمار    خلال أربعة أشهر.. كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي بميناء العرائش يصل ل6177 طنا    جامعة كرة القدم تصدر عقوبات تأديبية    الجيش يتأهل لنصف نهائي كأس العرش    قمصان جديدة ل"أديداس" بلمسة مغربية    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و 2033    "بلومبيرغ": المغرب يُثبت أسعار الفائدة بينما يُواجه الفاتورة الباهضة لإعادة إعمار الزلزال    وزير النقل يعلن عن قرب إطلاق طلبات العروض لتوسيع مطارات طنجة ومراكش وأكادير    وزير الفلاحة يفتتح الدورة الثالثة للمنتدى الدولي للصناعة السمكية بالمغرب    شركة تنفي استعمال الغاز والتسبب في اختناق عشرات التلاميذ بالدار البيضاء    تعبئة 10 ملايين درهم لإعادة استعمال المياه العادمة المعالجة لسقي المساحات الخضراء بمدينة الحسيمة    "فايننشال تايمز": واشنطن تشجع المغرب ودول عربية على الانضمام إلى "القبعات الزرق" في غزة    الجيش الملكي يقتنص تأهلا مثيرا لنصف نهائي كأس العرش على حساب أولمبيك الدشيرة    الأمثال العامية بتطوان... (599)    رئيس سلوفاكيا في حالة حرجة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال    سفر أخنوش يؤجل اجتماع المجلس الحكومي    انتخاب المحامية كريمة سلامة رئيسة للمرصد المغربي لمكافحة التشهير والابتزاز    "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    النصيري على رادار مدرب إشبيلية السابق    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    بعثة المنتخب الوطني المغربي النسوي لأقل من 17 سنة تتوجه إلى الجزائر    إضراب كتاب الضبط يؤخر محاكمة "مومو" استئنافيا    وسط "تعنت" ميراوي .. شبح "سنة بيضاء" بكليات الطب يستنفر الفرق البرلمانية    تطوان تستضيف الدورة 25 للمهرجان الدولي للعود    مدينة محمد السادس طنجة تيك تستقطب شركتين صينيتين عملاقتين في صناعة مكونات السيارات    إلزامية تحرير الجماعات الترابية من « أشرار السياسة »    النقابة الوطنية للتعليم fdt وضوح وشجاعة لاستشراف المستقبل        التويمي يخلف بودريقة بمرس السلطان    وفاة "سيدة فن الأقصوصة المعاصر" الكندية آليس مونرو    دراسة: صيف 2023 الأكثر سخونة منذ 2000 عام    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على أداء سلبي    قصيدة: تكوين الخباثة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    زنيبر: رئاسة المغرب لمجلس حقوق الإنسان ثمرة للمنجز الذي راكمته المملكة    الرئيس السابق للغابون يُضرب عن الطعام احتجاجا على "التعذيب"    رجوى الساهلي توجه رسالة خاصة للطيفة رأفت    معرض الكتاب يحتفي بالملحون في ليلة شعرية بعنوان "شعر الملحون في المغرب.. ثرات إنساني من إبداع مغربي" (صور)    وفاة عازف الساكسفون الأميركي ديفيد سانبورن عن 78 عاما    رسالتي الأخيرة    لقاء تأبيني بمعرض الكتاب يستحضر أثر "صديق الكل" الراحل بهاء الدين الطود    الأمثال العامية بتطوان... (598)    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    الأمثال العامية بتطوان... (597)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديثُ اليَومِ والأَمْسِ عن زَمَانِ الوَصْلِ بالأندَلسِ..!
نشر في هسبريس يوم 07 - 09 - 2016

الحديثُ عن الأندلس حديثٌ عن الحبّ، والصَبّ، والصّبابة، والجوَى، والهوَى ،عن الزّمن الذي مضى وإنقضى، عن خلجات النفوس المكلومة ، وزفرات القلوب الخاشعة، العاشقة، الوالهة، الولهانة ، والمعنّاة ، الحديث عن "الأندلس" ، حديث عن ذاك الحلم الضّائع بين ثنايا الزّمن وطيّات السّنين، عن ذلك الحلم الذي تبعثر،وتبخّر، وإندثر مع دياجي الفجر وأصبح يطفو على ثبج الذاكرة فى إسم "الفردوس المفقود" هذا النّعت الذي غدا مصطلحاً مؤلماً،مثيراً منغّصاً، مُستهلكاً مكروراً، الذي ما فتئ ينثال على شفاهنا، ويترى نصب أعيننا، ويتكرّر على مسامعنا، ويندسّ فى العديد من النّصوص، والمراجع، والمصادر، والمظانّ، والوثائق، والمخطوطات، والمقالات،والدراسات، والقصص، والرّوايات ، والأشعار، والحكايات،والكتب، والتآليف، والبحوث،والأطروحات التي كُتبت،وما زالت تُكتب عن عن هذا الصّقع الأندلسي القريب، البعيد، فى هذه الجزيرة، أو شبه الجزيرة المحروسة التي ما إنفكّت ذكراها تتغلغل فى أعمق أعاميقنا،وتزكو فى مُضَغ وجداننا لصلاتها الوثقى، وعلاقاتها المتينة، وأواصرها العريقة، الإثنية منها،والعِرقيّة، والرّوحية، والدّينية، والتاريخية، والجغرافية، والفكرية، والثقافيّة، واللغويّة، والشعريّة، والفنيّة، والعاطفيّة بتاريخنا، وثقافتنا، وهويّتنا، وبعالمنا العربي،والأمازيغي،المترامي الأطراف على إمتداد التاريخ، والزّمن، والمسافات.
الأندلس.... حديثُ اليَومِ، والغد، والأَمْسِ، عن زَمَانِ الوَصْلِ بالأندَلسِ هو حديث عن الشّعر، والنثر، والحنين، والأنين، والشّوق، والتاريخ، والأدب، والفكر، والفلسفة ، وعن الخَرْجَات، والمُوَشّحات،والطروبدور، أو دور الطرب، والفلامنكو، أو الفلاّح المنكوب.. والوَصْلات، والزّجل ،والخجل، والوجل، والعُمران، والمِعمار، والمَرمر المَوْضون، والرّخام المَسْنون، والدرّ المَكْنون،والعيون المُسْبلة، والحَواجب المُزجَّجة ،والأسىَ، والأسف، والآه التي سرعان ما تغدو آهات...
نصّ نثري يتدثّر بدفء الشّعروسحره ،وينتعش برقّته ،أو نثر شعري يتسربل بروعة السّرد ويزهو برشاقته ، تغلّفهما لوعة الحنين ،وصدىَ الأنين، يتعانقان فى تقاربٍ،وتداخلٍ،وتناوشٍ،وتدانٍ،وتلاحمٍ أبديّ،فى سديم الزّمن، وصُوَى المسافات، وَثَبَج الذكريّات ...يناغيان ذكرى"الفردوس المفقود" الذى غدا حلماً جاد به غيث هَمىَ، فى زمانِ وصلٍ بالأندلس، لم يكن وصله إلاّ حلما، فى الكَرَى، أوْ خِلْسَةَ المُخْتلس ..لا فضّ اللهُ فاكَ أيّها الشاعر المكلوم ...!
الأندلس.. فردوس مفقود أم موجود..؟!
هل يحقّ لنا حقّا أن ننعت (الأندلس) "بالفردوس المفقود"... !؟ فقد سمّوه فردوساً، ولكنّه ليس مفقوداً كما وُهِمُوا،إنّه هنا موجودٌ، حاضرُ الكيان،قائمُ الذات،إنّه هنا بسِيَره وأسواره،وبقاياه وآثاره، ونفائِسِه وذخائِره،إنّه هنا بعاداته وطبائعه، فى عوائده وأهوائه،إنّه هنا فى البريق المشعّ، فى المدائن، والضّيع، والوديان،فى اللغة والشّعر، والعلم والأدب، فى لهجة القرويّ النائي،والفلاّح المغمور،إنّه هنا فى الإباء الذي يميّز العربَ الأقحاحَ وإخوانَهم فى الله، وفى العِرق ،والوطن، والمصيرالأمازيغ الصّناديد الذين أقاموا معاً صرحَ حضارة مشعّة أنارت دياجي الظلام فى أوربّا دهرئذ ،إنّها هنا فى النخوة ،والشهامة، والإباء ،والحزازات القديمة،التي ما تزال تفعل فى ذويها فِعْلَ العُجْب !.
الأندلس.. أيُّ سرٍّ أنتِ كائنٌ وقاطنٌ فينا وبيننا ؟ أيّ سِحرٍ أنتٍ ساكنٌ بين طيّات الألسن، ومَخادع القلوب.. ؟
يتساءلون وقد علت جباهَهم علائمُ الشّدوه،وأمارات الدّهشة والسُّؤْل، كيف حدث ذلك ..؟ كيف إستطاعت سنابكُ خيولهم المسوّمة بقيادة طارق بن زيّاد الفاتح المغوار رحمه الله أن تطأ ثرىَ هذه الأرض البِكر،وأن تقام واحدة من أكبر الحضارات الإنسانية إزدهاراً وتالّقاً ، وسطوعاً وتوهّجا أشعّت على العالم المعروف فى ذلك الإبّان...؟
يتساءلون كيف تسنّىَ لهؤلاء القوم الغُبْر الوِشاح، البُداةُ الجُفاةُ أن يضطلعوا بكلّ ذلك؟، وتزدادُ حيرتهم ، ويتفاقمُ ذهولُهم ، كيف دانت لهم الدّنيا، ودالت لهم الدّول..؟ كيف أمكن لهم أن يُروِّعُوا كسرىَ فى إيوانه ..؟ وأن يجعلوا الرّومانَ يفرّون تحت وخزات الرّماح ،وتحت وطأة السلاح، وثقلِ الصّفاح ..؟ إنّهم ليسوا قوماً قساةً ،عتاةً ، جفاةً ،كما وُهِموا ، بل إنّهم قوم فاتحون ، مبشّرون بحضارةٍ، وعلمٍ، وتاريخٍ، وعمران .
هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعِقيانها هياماً ، ثمّ سرعان ما خبتِ الضّياء، وجفّتِ المآقي، هذه الواسطة فى عقدٍ من جُمان، مُرصّعة تزيّن جيدَ الزّمان، كيف وهنت قلادُتها ..؟ وتناثرت حبّاتُها ، وإنفرط عِقدُها ..؟ وتحوّلت إلى عَبرَاتٍ حرّىَ متّقدة، ملتاعة تبكيِ العهدَ، والجدَّ،والحظّ، والدّار.. ؟
غاض النّبعُ الرّقراق
هكذا كانت البداية ثمّ أفلت الشمس بدون شروق قريب، وغاض النّبعُ الرّقراق،ولم يبق سوى وميضٍ خافتٍ نتلمّسُه هنا وهناك ، سرعان ما تحوّل إلى بريق مُشعٍّ قويّ نفّاّذ ، تراه فى هذه الأعين النُّجل ، والحواجب المزجّجة، ذات الملامح العربية الأصيلة، والأمازيغيّة الأثيلة، والجذور المولّدة ،والقَسَمات الدقيقة،التي تحملك فى لمحٍ من البصر،أو فى رمشةٍ عين إلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جِنان الرّصافة والجِسر،أو تتيه بك فى غياهب المسافات السّرمدية اللاّمرئية.
الأندلس .. إنّها هنا متوهّجة فى العادات المشرقيّة والمغاربية الجميلة ، فى إرتعاشات الأنامل ، وإنحناءاتها، فى ضرباتِ الأكفِّ والأرجلِ المتوالية المتناغمة التي تذكّرك بمرّاكش الحمراء ، وبجرش والبتراء ، وبزحلة الأرز ،وحَماة القاهرة، وأدواح الشّام المكلوم، إنها هنا فى هذه الأقراط العربية المدلاّة عبر جيد فى بياض النّرجس، بضٍّ ناصع ، ذي ذوائب فاحمة، إنّها ما زالت شامخةً فى قصر الحمراء، سامقةً جنّة العريف، منمّقةً فى الزخارف والأقواس، فى النقوش المرصّعة، والمرمر المَوْضُون، والرّخام المَسْنُون، وإفريز الخشب المحفور، إنها فى نوافير المياه ، والبِرَك،والأنهار، والوديان،والجداول والجدائل، فى السّواقي ،والموشّحات، والأزجال والخَرْجات الأندلسية الرّخيمة،إنها هنا فى هذه الرّاح التي لا تلبث أن تتحوّل إلى روحٍ متلألئةٍ حيّةٍ محاورة ..!
أيّها العاشق الولهان المؤرّق ببعد النّوى،البعيد القريب ، إنهم يحنّون إليكَ ، ويتغنّون بكَ وبإسمكَ ، قَلَوْك زمناً ، ولكنّهم سرعان ما فاقوا من سُباتهم ، وثابوا إلى رُشدهم ، وتخلّوا عن نُكرانهم ،وجحودهم ،فراحوا يشيّدون لكَ الأبنيةَ، والمجسّمات، والتماثيل المخلّدة،ولكنّهم فى خَبَل من أمرهم ، ذلك أنّ ربيعك دائم متجدّد، لا تراه الأعين ، ولا ترمقه إلاّ في الحدائق والجِنان ،أو على ضفاف الأنهار المنسكبة ، والفوّارات المنسابة ، بل إنّها فى النغمات والآهات، والخُطى، والعيون، والحواريّات ،إنّه ربيع طلق يختالُ ضاحكاً ،باسماً لا يعقبه صيف قائظ،، بل يتولّد منه ربيع تلو ربيع .!
جيراننا الإسبان يَتَأورَبُونَ أحياناً أكثرَ من الأوربيّين أنفسِهم..! وأحياناً أخرى تشطّ بهم الأحلامُ بعيداً بعيداً ،ولكنّهم فى الحالتين أبداً يظلّون مشدودين إلى ماضيهم القريب والبعيد، مُلتصقين بأرضهم التي تعاقبت عليها حضارات ، فخورين بأجناسِهم ، وجيناتهم،مزهوّين بمحتدهم، وتاريخهم الحافل،موثوقين إلى عاداتهم الدّخيلة، مشدوهين بلغتهم المزدوجة، وتقاليدهم العريقة ، قالها وكرّرها غير ما مرّة.. " أنطونيو ماتشادو"، و فدريكو غارسيا لوركا"، و" رفائيل ألبرتي"،و" دامسو ألونسو" ،و" فيثينتي أليكسندري"، مثلما قالها قبلهم "إبن زيدون"، وابن هانئ"،وإبن خفاجة، وابن عبد ربّه "،" وابن زُمرك "،وإبن حَمديس، و"ابن الخطيب"،و"ابن سَهل"، وحمدونة بنت المؤدّب، وولاّدة بنت المستكفي،وابن حزم،وابن الآبار،وابن بسّام.. وسواهم !.
طوقُ الحَمَام
يضحكونَ مِنكَ وعليكَ ،وهم فيكَ ومنكَ وإليكَ ، ينكرون طبائعَك وعوائدَك ، وهم الذائدون عنها.هنا حطّ الشّاعرُ يوماً رحله، بعد أن هجرَ القصرَ وترفَه، والشّعرَ ولغوَه، بعد أن بنى معبداً للخشوع والصّلاة، فكانت له جنّة الخلد، هنا فى هذه الحياة الدّنيا قبل الآخرة، وخلّف لنا وراء ظهره ثماني من الرّواسى الرّاسخات ، إنها تعدّ عدّاً،ضاربةً جذورَها فى عُمق التاريخ ، تعلو في عنانَ السّماء، ألوانها مزركشة زاهية، يعانق قوسُ قزحِها الآفاقَ البعيدةَ، معلنة للملأ أجمعين أنّها ما زالت ها هنا قائمة الذات، ثابتة، في الصّور والمنقوشات ، فى الدّور والقصور، فى فتنة الحمراء، وجنّة العريف، و فى برج الذهب، والخيرالدا، وفى الجعفريّة، وقصر الظفرة ،وفى القلاع الحرّة، والحُصون المنيعة، وفى الرّقصات، والعيون،والشّعر والفكر، وفى العقل، واللسان، والجَنان.
إنّها ها هنا تَسْلُبُ لبَّ العاشقين، وتروي صدىَ، وتشفي أوامَ، الهائمين،من دوحها إنطلق ذات مساءٍ هديلُ حمامةٍ نائحاً ذات مساء، حزيناً، باكياً، شاكياً، يلقّن المحبّينَ والعاشقينَ أصولَ العشق، والهيام، والهوى،والحبّ، والصّبابة والجوى،إنّهم لا يمقتونك، بل مُعجبون، إنّهم يفرّون منك إليك، يغيبون بك عنك وإليك، فيظنّون أنهم أنت..! هكذا تحدّث الفقيه، العلاّمة، الحافظ ،الشاعر، الأديب ، الإمام البّحر، ذو الفنون والمعارف ابنُ حزم الأندلسي القرطبي.
الأندلس هذا النّهر الجارف المنهمر، من يستطيع الغوصَ فيه، أو الدنوّ منه لآب إلى النّبع الأوّل ، هذا الوادي الرّقراق الذي شقّ النّسيمُ عليه يوماً جيبَ قميصه، فانسابَ من شطّيْه يطلب ثارَه، فتضاحكت ورقُ الحَمام بدوحها هزءاً ، فضمَّ من الحياء إزارَه. الأندلس هذه الفاكهة المحرّمة المعلقة فى شجرةٍ ليس لها جدع قائم ، من يطولها يطول الخلد ، وتعود إليه الحياة فى ثوبٍ قشيبٍ جديدٍ متجدّد. الأندلس هذه الأغرودة الحلوة الهائمة الحالمة التى تنطلق عند الأصيل،من حنجرة رخيمة (لفلاّح منكوب) " فلامنكو"..! على ضفاف الآهات،وتحت ظلال رموش العُيون المُسبلة ، تتمازج فى رونقٍ بديع،وبهاءٍ رائع مع ترانيم،وزقزقات، وتغاريد الطيوروالعصافير،ووجه المليح مشعّ مثل الثريّا ،والسّاقي المؤدّب يسقي بالأواني البندقية ، والعيدان تصنع تواشي منوّعة، فلا يملّ السّمعُ منها ولا يشبع، ولا يكلّ اللحظ ولا يدمع ، ولا يفلّ القلب منها ولا يشفع ، هذا الحسنُ الباهرُ، والجمالُ الظاهرُ، هذه الأنثى الحسناء، التى تغنّى بمفاتنها الشّعراء، وصدح ببهائها المنشدون،والعاشقون فجاءت مَسوقةً مُنقادةً، هاشّة، باشّة، فرحة، جذلة ، كغادة فاتنة أو كغجريّة رائعة ، يسافر شَعْرُها الحريريُّ الفاحمُ المجنونُ فى كلّ الدنيا، ثمّ سرعان ما يعود لينسدلَ على الخصر حُسْنَا وبهاءً...! صدقتَ أيها الشّاعر العاشق الولهان ، صدقتَ أيها الشّاعرالمُعنّى المكلوم، وصدق حبّك للأرض لتي نعتوها بالفردوس ، وللمرأة الولود،المخصاب ، كيف لا وحولك ماءٌ، وظلٌ، وأنهارٌ، وأشجارُ ...!
آخر البكّائين..
شكراً لك أيّها الشّاعر الرّاوي المتيّم المجيد ،المقتفي لآثار السّلطان السيّئ الطّالع أبي عبد الله الصّغير ،آخر البكّائين على الفردوس المفقود، تقتفي أثرَه، كما يقتفي الشاعر التشيلي"بابلو نيرودا " لآثار أرجل النوارس على الرّمال،فى الشطآن النائية،شعرك غذاء للنّفس،والعقل،والوجدان معاً ، نصّك سجّاد طائر، وسردك زورق من ورق بلّوري ساحر، ينقل قارئه فى رحلة ممتعة إلى عمق التاريخ،عبر قاربٍ إسمُه اللغة فى أرقى مظاهرها، وأبهى حللها ، لتطيرأو تطوف به على ثبج الزّمن السّرمد، وغياهب المسافات، مهما شحط المَزار، أوبَعُدت الديار، جَلَمُكَ الأعلى يراعٌ أو بَوْصلة بيد ربّان يجيد فنّ القول، ويتقن فنّ الغوص والإبحار فى مباهج اللغة وشواردها، أشرعته كلماتك الموفية، وحيزومه أسلوبك السّلس،الذي يأخذ بمجامع القلوب، أخرجتَ لنا تلك الدّررالنفيسة، والصدفات المتلألئة التي ترصّعُ فلكك بالقوافى الغرّ، والقصائد الموشيّة. تتبع خطوات آخر المُتأوّهين على ملكه الضائع فى الأندلس، أبي عبد الله الصغير،باحثاً عنه فى سديم الليالي، والدياجي الحالكات بمصباح ديوجين لرصد آهاته وزفراته، وتسجيل حسراته وتنهيداته، رحلتك متعة وفائدة وهي عِبرة لمن يعتبر ،فالعِبرة أمّ الخبرة ، والتاريخ ما زال معلمّنا الأوّل والأخير، فهل من مُصغٍ ، وهل من متّعظٍ ، قالها الشاعرالصّديق الأمجد الناصر بالله " كفّ إذن عن قراءة التاريخ،وإقرأ الحاضرَ لترى كيف تعود إليك الصّور، وتسترجع المعاني ما رسب فى قعرها من ثمالات". أبوعبد الله الصغير صَغُرَ فى أعين الناس ، ولكنّه كبر فى أعيننا ،إنه ينبض حياةً وحيويّةً، ويتدفّق خصوبةً ونضرةً، لقد إرتقيت بأنفاسنا بحلو الكلام، وطلاوة البيان،ولكن سرعان ما إنهدّت قلوبنا مع تنهيدة أبي عبد الله، لحظة التسليم المذلّ، على الرّبوة العالية ،أو الأكمة المُرتفعة إيّاها التي ما زالت تحملُ إسمَه،والتي ظلت وصمةَ عار مرسومة على كلّ جبين، بتنازله المُخزي عن درّة المدن،وبهجة الحواضر،غرناطة الحمراء ،آخرالمعاقل الحضارية للأندلس فى هذا الفردوس المأسوف عليه ،إنّه :" وترٌ تحطّم أو تمزّق في قيثارة جُنح الليل"... و"جفّت مآقي دموعنا على غرناطة الأولى،وبكينا أخواتها اللاّحقات"...!. "فالحضارات دُوَلُ... والسؤدد برهة" ... صدقتَ،وأبلغتَ،وأقنعتَ،وأفدتَ،وأمتعتَ، وأصبتَ أيّها الشاعرالماجد المكلوم...!
إبن زُمْرُك..شاعر الحَمراء
شاعر الحمراء الذائع الصّيت إبن زُمْرُك الهائم والمتيّم فى الأندلس، وماضي الأندلس، وشعر الأندلس،وأدب الأندلس، وموسيقي الأندلس، وتاريخ الأندلس،وعمران الاندلس، ورفاهية وترف الأندلس، وقصور،وحصون الأندلس، خطّ على حاشيةِ مرمرٍ مَسنون، وذهبٍ مَوضون ،وكتبَ فى الألبوم الشّعري - الوحيد فى بابه فى العالم - المَنقوش على جدران بهو الأسود،أو ساحة السّباع بغرناطة الحمراء هذه الأبيات التي يقول فيها :
يذوبُ لجينُ سالَ بين جواهر / غدا مثله فى الحُسن أبيضَ صافيَا
تشابه جارٍ للعيون بجامد / فلم ندرِ أيّاً منهما كان جاريَا
ألمْ ترَ أنّ الماءَ يجرىِ بصفحها / ولكنّها سدّت عليه المَجاريَا
كمثلِ مُحبٍّ فاضَ بالدّمع جفنه / وغِيض ذاك الدّمعُ إذ خاف واشيَا
قال الشّاعرالإسباني الغرناطي الشّهير " فيدريكو غارسيا لوركا " معلقاً على هذه المأساة :" لقد ضاعت حضارة رائعة ، لا نظيرَ لها ،ضاع الشّعر، ضاعت علوم الفلك ، ضاعت الفنون المعمارية، وضاعت حياة مُترفة فريدة ، لا مثيلَ لكلّ ذلك فى العالم أجمع".
وقال" بلاسكو إبانييز": " جعل المسلمون من إسبانيا في ذلك العهد كالولايات المتّحدة الأمريكية، يعيش فيها المسلم، والمسيحي، واليهودي بحريّةٍ تامّة، ومن غيرِ تعصّب ،و عندما كانت دول أوربا تتطاحن،وتتقاتل في حروب دينية وإقليمية فيما بينها، كان المسلمون والاسبان واليهود يعيشون فى سلام كتلةً واحدة، وأمّة واحدة،فزاد سكان البلاد ، و إرتقى فيها الفنّ، و إزدهرتِ العلومُ، و أسِّست الجامعات. سَكَنَ ملوكُها القصورَ، وعاش شعبُها في الرّخاء ، بينما كان ملوك بلدان الشمال يبيتون في قلاعٍ صخريّةٍ سوداء، و شعوبُها تعيش في أحقر المنازل والدور " .
*عضو الأكاديمية الإسبانيّة الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.