ما يجري بالبلد فيه كثير من التجني على الديموقراطية . الذين يعتبرون أن افتعال أزمة سياسية ينطوي على تعسف في تأويل الدستور على صواب و لا يجانبون الحقيقة ، هو تعسف له أكثر من مظهر نقف بالأقل على ثلاثة منها : 1/ ارتفعت أصوات تتنبأ ( أو هي تميل إلى ) تكليف رئيس حكومة آخر بديل يكون من العدالة والتنمية في حال فشل بنكيران تشكيل تحالفه العسير ، غير أن مثل هذا التطلع لا يبدو مقنعا من الناحيتين السياسية والموضوعية وإن كان ممكنا دستوريا فالفصل 47 لا يلزم بالضرورة اختيار الأمين العام للحزب المتصدر للانتخابات رئيسا للحكومة ومعناه أن بنكيران ليس قدرا محتوما ،غير أن التعيين الملكي جاء تلقائيا وموضوعيا ولا يحتاج لمبررات ولم يتطلب كثير وقت بعد إعلان نتائج الاقتراع ، وبمعنى أوضح فقد كان اختيارا بديهيا دستوريا وسياسيا ،أخذ بالاعتبار مكانة الرجل على رأس حزبه وعلى رأس الحكومة المغادرة التي استنفذت السنوات الخمس لولايتها بما لها وما عليها . لا ندافع هنا عن رئيس الحكومة فهو أقدر على ذلك وليس هذا شاغلنا ، ولكن الرجل بخلاف آخرين - من "زعماء "هذا الزمن – امتلك الجرأة السياسية الضرورية وتقدم للانتخابات بيقين وبكل ما أوتي من تعبئة لربح الرهان في مواجهة المنافسين والخصوم . وإذا كانت تحسب عليه بالتأكيد أغلاط يصعب أن تغتفر، فلا يستسيغ سوى المتعسفون استبداله بغيره من شخصيات الحزب بمبرر تعطل تأليف الأغلبية . من يستطيع الادعاء بأن الرجل لا يقوم بغير تصريف مواقف حزبه ( آخر تصريحات الرميد تؤكد ذلك ) حزب حريص على تفعيل الديموقراطية الداخلية عند الإقدام على الاختيارات الأساسية وليس أقلها تحديد صيغة ومكونات التحالف التي يطمح الحزب المتصدر للانتخابات أن تشاركه في حكومة يمنحه الدستور حق تشكيلها واقتراح وزرائها على الملك الذي له وحده اختصاص التعيين ( الفصل 47 فقرة2 ) فيما يرجع لمجلس النواب اختصاص تنصيبها حيث إن الحكومة تعتبر منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب ، ثقة يعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، لصالح البرنامج الحكومي . ( الفصل 88 الفقرة الأخيرة ). إننا نجد في تصريح رئيس الحكومة المكلف نوعا من المزايدة لما أعلن أنه إذا اقتضى الحال سيعيد المفاتيح للملك فيما لو فشل في مهمته ، فمن المجازفة افتراض استبدال الرئيس المكلف بغيره من رجالات العدالة والتنمية لأنه لا يبدو حلا صائبا لتجاوز وضعية مفتعلة وتعسف فصيح قد يشرع الأبواب على أزمة حقيقة . 2/ يعزف بعضهم على أسطوانة اختيار شخصية من خارج الحزب المتصدر للانتخابات لتكون بديلا للرئيس المكلف حال فشله في نسج تحالف الأغلبية وفي هذا العزف النشاز انقلاب خطير على دولة القانون إذ لا يستقيم مع المقتضى الصريح الوارد في الفصل 47 ، فعلى أي سند يمكن اللجوء إلى هذا الاختيار المناقض للدستور الذي لا يعني سوى ركوب مغامرة غير محسوبة العواقب ؟ إن القرار الملكي بتعيين بنكيران إعلان صريح من جلالته التمسك بالمقتضيات الدستورية وبالمنهجية الديموقراطية التي طالما تباكى عليها عدد من الذين يتنكرون لها اليوم بسلوكهم وتناقضاتهم بعد أن كانت من أهم ما رسخته تعديلات 2011 من مكاسب في الإصلاح الدستوري . هنا أيضا لا يشغلنا شخص الرئيس المكلف ذلك أن المخاطر الحقيقية هي تلك التي تحدق بالتطور الديموقراطي في بلادنا لما تطالعنا حالات الشرود الواضحة التي تشذ عن القواعد السليمة في تأويل الدستور ، ساعية الرجوع بنا إلى عهد غير مأسوف عليه . 3/ المظهر الثالث الذي ينطوي على تعسف ظاهر في قراءة الدستور هو ذلك الذي يجعل بعضهم يتحدث عن الرجوع إلى صناديق الاقتراع من جديد ، فبغض النظر عن التحفظات المرتبطة بالكلفة المادية واللوجستية لهذا الخيار فإن التعسف الحقيقي يمس إرادة الناخبين المدلى بها يوم سابع أكتوبر ، نعم إن أكثر من نصف المسجلين عبروا بهجرانهم للصناديق عن رغبة أخرى مغايرة قد تكون مجرد تقاعس بالنسبة للبعض أو انعدام ثقة بالنسبة لآخرين أو معارضة صريحة للمسلسل برمته .. ولكن هذه الإرادة الغائبة عن صناديق الاقتراع بكل تعبيراتها يغيب اعتبارها في الواقع لما تحتسب الأصوات وترتب الأحزاب وتشغل ماكينة الآليات الدستورية .وبذلك ففي طي كل إعادة للانتخاب تشكيك في الإرادة المعبر عنها والتي أفرزت النتائج إياها التي بمقتضاها جرت الأمور غداة 7 أكتوبر . و هكذا سيكون من التعسف المطلق في تأويل الدستور سلوك أي طريق غير تلك المصممة في فصوله وأبوابه لإعادة الانتخابات . فلماذا كل هذا الإصرار على معاكسة نضج المسار الديموقراطي ؟ ولماذا كل هذا "الاجتهاد" في البحث عن اختلاق أزمة ، البلاد في غنى عنها ؟ نعم إن الدستور يحتاج بالتأكيد إلى سد ثغرات وترميمات لا مفر منها أكثر مما يحتاج إلى التأويل المتعسف الذي من شأنه تعقيد الأوضاع بينما الحلول ميسرة وكامنة فقط في تغليب حقيقي صادق لمصلحة الوطن ورفع اليد عن محاولات تطويع المشهد السياسي خارج إرادة الأمة التي تمارس سيادتها " مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها الذين تختارهم في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم .." تلك هي المعركة الحقيقية التي تحتاجها الديموقراطية المغربية ولكن أين نحن من كل هذا في الحالة التي يوجد عليها المشهد السياسي المغربي؟ وما أصعب التفكير في تفعيل كل هذا الترويج المغالط الذي تتقاذفه بعض وسائل الإعلام ويرجم به وبالغيب كثير من " المحللين " ... إن المناصرين لفكرة الرجوع إلى الصناديق من جديد مدعوون إلى إعادة قراءة دستور 2011 والتمعن في الصيغ التي لا يمكن خارجها إجراء استحقاق تشريعي جديد اللهم إذا بلغت الردة على مكاسب هذا الدستور مبلغ التخطيط لتعديله بما يخدم المفاهيم " الجديدة /القديمة " للتحكم في الخرائط ورسم المشهد السياسي المخدوم .