أكدت سلوكات وتصرفات وتصريحات الأحزاب السياسية إزاء تشكيل الحكومة الأزمة البنيوية العميقة التي تنخر هذه الأحزاب التي لم يكن زعماؤها في مستوى رسائل الخطابات الملكية الموجهة إليهم أو فلسفة دستور 2011 أو مضامين القانون التنظيمي للأحزاب السياسية أو تحديات الوطن أو تطلعات الشعب. فلا رئيس الحكومة المعين كان حكيما وإستراتيجيا في تدبير ملف المشاورات بسرية ووضوح، ولا أحزاب الأغلبية السابقة كانت واضحة في مواقفها، ولا أحزاب المعارضة السابقة بقيت مخلصة لمبادئها؛ ما جعل الكل يهرول في كل الاتجاهات بهدف اقتسام ما سماه الخطاب الملكي بالغنيمة الانتخابية. وقد نتج عن هذه السلوكات والتصرفات ما يسمى بالبلوكاج، ما جعل بعض الأسئلة المقلقة تفرض نفسها منها: لماذا فشل رئيس الحكومة في تشكيل الحكومة؟ لماذا يجب انتظار تدخل الملك لإخراج الحكومة؟ لماذا لم يتمكن بنكيران وأخنوش من تشكيل الحكومة؟ هل أحزابنا قاصرة سياسيا وثقافيا لتشكيل الحكومة بعيدا عن تدخل الملك؟ بعد البلوكاج، هل خرج تشكيل الحكومة من يد بنكيران وأخنوش؟ لماذا يرفض أخنوش وجود الاستقلال في الحكومة؟ ولماذا قام إعلام الاستقلال بحملة شرسة ضد أخنوش؟ لماذا تتصارع أطر وأجهزة الأحزاب عن الاستوزار قبل تشكيل الحكومة؟ وهل سيفرض الملك معايير لاختيار وزرائه بعيدا عن اقتراحات الأحزاب؟ وهل يعقل أن يكون أخنوش وحزبه في المعارضة وهو الذي خلق ليحكم؟ ولماذا لم يلتزم رئيس الحكومة بالحفاظ عن سرية المشاورات؟ ولماذا لم تحترم الأحزاب تنظيم المغرب "الكوب 22" لنشر غسيلها الداخلي؟ وما هي رسائل الملك إلى رئيس الحكومة وباقي الأحزاب بعد سفره مباشرة بعد إنهاء أشغال "الكوب 22" في عز البلوكاج لتشكيل الحكومة؟ وبماذا يشعر رئيس الحكومة وقادة أحزاب التجمع والاستقلال والحركة والاتحاد الاشتراكي والاتحاد الدستوري والتقدم والاشتراكية بعد سفر الملك لإفريقيا دون أن يبالي بصراعاتهم وتركهم تائهين وحائرين وعاجزين؟ قادة أهم الأحزاب لم تراع تنظيم المغرب "الكوب 22" استغرب جل المهتمين استمرار قادة الأحزاب الراغبة في تشكيل الحكومة نشر غسيل صراعاتها حتى في عز تنظيم المغرب تنظيم "الكوب22". فقام موقع حزب العدالة والتنمية بنشر كلمة الأمين العام والرئيس المعين التي ألقاها يوم 5 نونبر أمام اللجنة الوطنية لحزبه يوم 14 نونبر، أي تاريخ الانطلاقة الفعلية لأشغال كوب 22 والتي أحدثت ردود فعل مختلفة خصوصا عند حزب التجمع الوطني للأحرار التي كان رد رئيسه قويا؛ ما أعاد عملية المشاورات إلى الدرجة الصفرية. وكذلك النقد اللاذع الذي وجهه حزب الاستقلال إلى أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، وهو يستقبل زعماء أفارقة لكوب 22. والأكيد أن هذا التطاحن بين الأحزاب والإفصاح من لدن رئيس الحكومة المعين عن مخططات الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر وعودة تحكم الدولة وتجييش أجهزتها لصناعة الخرائط الحزبية في عز تنظيم كوب 22 بحضور المئات من منابر الصحافة الدولية لأمر غير مسؤول؛ لأن كل كلمة تصدر عن رئيس الحكومة المعين من لدن الملك تكون لها تداعيات خطيرة وطنيا وإقليميا ودوليا مفادها أن المغرب يعيش أزمة سياسية. المغرب لا يعيش أزمة مؤسسات بل أزمة نخب وقيادات برهنت ردود فعل وتصريحات ومواقف جل قادة الأحزاب، خصوصا تلك التي تتشاور على تشكيل الحكومة، بأن المشهد الحزبي يعيش أزمة نخب وأزمة قيادات، وبأن الأزمة التي تعرفها البلاد حول تشكيل الحكومة ليست أزمة مؤسسات أو أزمة برامج أو رؤى أو مقاربات بل هي أزمة قيادات وزعماء الأحزاب الذين يتحايلون على أجهزتهم الحزبية لأخذ سلطة التفويض للتفاوض باسم الحزب وهياكله حول قبول المشاركة في الحكومة أو عدمها، وتحويل هذا التفويض من لدن الزعيم لتصفية حساباته أو تحقيق رغباته الشخصية. وهذا هو ما بدا واضحا اليوم من زعماء الأحزاب المشاورة لتشكيل الحكومة؛ فبنكيران، الأمين العام المعين لتشكيل الحكومة، يتشبث مع بعض الأحزاب لتشكيل الحكومة ليس على أساس برامج أو أفكار مشتركة بل على أساس شخصي هو موقف تلك الأحزاب من حزب الأصالة والمعاصرة وهو ما يفسر تشبث بنكيران بحزبي التقدم والاشتراكية الذي له 12 مقعدا والاستقلال، والشيء نفسه يقال على موقف أخنوش من حزب الاستقلال وشباط من حزب التجمع الوطني للأحرار. إن سلوك وخطاب قادة الأحزاب أثناء المشاورات مع بنكيران لتشكيل الحكومة أكد بالواضح أن المشهد الحزبي يعيش أزمة قيادات وأزمة أخلاق وأزمة مبادئ؛ ما جعلني أتفق تماما مع ما جاء في مقال الدكتور حسن طارق بإحدى الصحف اليومية: "لا يزال المشهد الحزبي، في جزء كبير منه، مجرد خليط هجين من القيادات التافهة التي لا تمتلك مشروعا جماعيا سياسيا أو ثقافيا أو قيميا خارج تدبير مشاريعها الشخصية الخاصة، قيادات بلا مصداقية ولا أخلاق مصابة على الأرجح بأعطاب مرض فقدان الاستقلالية المزمن وبالداء المزمن لانتظار الإشارات من فوق". عفوية بنكيران وعدم التزامه بسرية المشاورات من أكبر معيقات تشكيل الحكومة يؤكد أكثر من مصدر أن الأمين العام لحزب الدالة والتنمية يشعر بالمأزق الذي دخلت فيه المشاورات نتيجة تدبيره العفوي لمسار المشاورات وعدم التزامه بسريتها. والأكيد هو أن بنكيران ما زال يرتكب أخطاء قاتلة في عدم حفظ سرية المشاورات أو المفاوضات مع قادة الأحزاب التي يتشاور معها، لأن عفويته وثقته في بعض الصحافيين وفي بعض المنابر الإعلامية تخلق له مشاكل كثيرة تكون تكلفتها غالية عليه وعلى حزبه وعلى الوطن. وخير دليل على ذلك تسريبه للمشاورات التي أجراها مع أخنوش قبل اجتماعه مع أعضاء مكتبه السياسي والذي سبب له حرجا كبيرا معهم، وسبب – أيضا- حربا إعلامية بين الاستقلاليين والتجمعيين أثرت سلبيا في مسار المشاورات في تشكيل الحكومة مما أدخلها إلى النفق المسدود خصوصا بعد سفر ملك البلاد مباشرة بعد ترأسه أشغال الكوب 22 لإفريقيا رفقة أخنوش رئيس التجمع الوطني للأحرار؛ ما فهم منه غضب جلالته على رئيس الحكومة وباقي الأحزاب التي أكدت أنها ما زالت بعيدة عن الالتزام بالمنهجية الديمقراطية في تشكيل الحكومة. لذلك، يصعب الإعلان عن تشكيل الحكومة والملك خارج البلاد وإلى جانبه السيد أخنوش الذي انتخب رئيسا لحزب الأحرار الذي أصبح رقما أساسيا في المشهد الحزبي الحالي، ليس على أساس ديمقراطيته الداخلية أو حيوية تنظيماته أو قوة أجهزته المركزية والجهوية، بل على أساس مجيء أخنوش المقرب من القصر ومن رجال المال والقطب المالي الخصوصي والعمومي. تشكيل الحكومة تتطلب تنازلات من بنكيران ومن أخنوش يصعب تشكيل الحكومة إذا لم يقدم رئيس الحكومة بنكيران بعض التنازلات وذلك بقبول مقترح أخنوش بإدخال أحزاب الوفاق، أي التجمع والحركة الشعبية والاتحاد الدستوري إلى الحكومة، وقبول أخنوش مقترح بنكيران بقبول حزب الاستقلال في تشكيلة الحكومة المقبلة. وحتى هذا الاقتراح قد يبدو صعب التحقيق، لأن بنكيران لن يقبل بسهولة أن يتساوى حزيه الفائز ب125 مقعدا بحزب أخنوش الفائز ب37 مقعدا؛ لكن إذا كان هذا صحيحا من الناحية الكمية، فإنه من الناحية السياسية خطأ لكون حاجة بنكيران إلى أخنوش أكثر من حاجة أخنوش إلى بنكيران، لأن قيادته لحزب التجمع الوطني للأحرار- بعد فشل حزب الأصالة والمعاصرة في هزم البيجيدي- في هذا الوقت بالذات ليس بالبريء، بل هو جزء من مخطط إستراتيجي يستهدف حكومة 2021. والأكيد من بعد سفر الملك للخارج رفقة أخنوش سيفرض على بنكيران طلب التدخل الملكي لتشكيل الحكومة وقبول شروط أخنوش الذي يعرف بأن حضوره في الحكومة المقبلة أمر ضروري للأسباب سالفة الذكر إضافة إلى توقيعه عدة اتفاقيات مع عدد من الدول الإفريقية. تحديات المغرب تفرض وزراء في مستوى منهجية الملك وليس أشباه وزراء من القضايا التي سيتدخل فيها الملك هي وضع معايير في اختيار وزراء الحكومة المقبلة. وقد حدد جلالته هاته المعايير في خطاب داكار مشددا أنه لن يتسامح مع أي محاولة للخروج عنها: ا- تشكيل الأغلبية الحكومية ليست بالضرورة نتاج عملية حسابية عددية. ب- المناصب والحقائب الوزارية ليست غنيمة انتخابية. ج-حكومة جادة ومسؤولة. ح- حكومة ذات برنامج واضح وأولويات محددة. د- حكومة ووزراء لهم سياسة أفريقية موسومة بالشمول والتكامل. ه- موارد بشرة كفؤة ومؤهلة. ذ- الانسجام والفعالية. يفهم من هذه المعايير أن الملك يريد حكومة بوزراء أقوياء لمسايرة وتيرة عمل المؤسسة الملكية وطنيا وإقليميا ودوليا. وزراء في مستوى تحديات البلاد وتطلعات الشعب المغربي، لذلك سيختار الملك بروفيلات وزراء حقيقيين وليس ما تقترحه الأحزاب من شخصيات للاستوزار إرضاء للعلاقات العائلية وتلبية لضغوطات القوى المتحكمة في الأحزاب. تشكيل الحكومة المقبلة بيد الملك وليس بيد بنكيران أو أخنوش ليس في مصلحة الملك أو الوطن أن يعرف المغرب أزمة سياسية نتيجة فشل الرئيس المعين في تشكيل حكومة نظرا للتحديات الوطنية والإقليمية والدولية التي تعرفها البلاد لأسباب متعددة منها: أولا- دستوريا الفصل 47 من الدستور واضح، ولا يمكن تأويله لتعيين شخص آخر من الحزب الأول الفائز أو من الحزب الفائز الثاني. ثانيا- لا يمكن إعادة إجراء انتخابات تشريعية أخرى لكون هذا السيناريو يبقى صعبا ومكلفا سياسيا وماديا ولوجستيكيا بالنسبة إلى الدولة وإلى الأحزاب. ثالثا- سيضع الخيار الديمقراطي في وضع حرج والاستثناء المغربي في وضع صعب. رابعا- حاجة النظام اليوم إلى حزب العدالة والتنمية للحفاظ على التوازن والاستقرار الاجتماعيين. خامسا- مشروع عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي والتزام المغرب بالاتفاقيات الموقعة مع الدول الإفريقية يتطلب حكومة منسجمة وقارة إلى 2021 بوزراء أقوياء وبرلمان ودبلوماسية برلمانية قوية. وفي كل الحالات، يبقى دور الملك في تشكيل الحكومة محوريا. دستوريا الفصل 42 واضح، فالملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي. وانطلاقا من مضمون هذا الفصل، لن يترك الملك رئيس الحكومة وقادة الأحزاب، بمن فيهم أخنوش، يتناطحون ويهدرون الزمن السياسي المغربي وما ينتج على ذلك من فراغ مؤسساتي وخيبة أمل عند الشعب الذي صوّت ليرى حكومة تتصارع في خدمة قضاياه وليس زعماء أحزاب يتصارعون لخدمتهم مصالحهم الشخصية. والأكيد هو أن الملك لن يتسامح مع أي حزب يعيق تشكيل الحكومة لأن المغرب كما جاء في خطابه بداكار في حاجة: "لحكومة جادة ومسؤولة"؛ غير أن الحكومة المقبلة لا ينبغي أن تكون مسألة حسابية تتعلق بإرضاء أحزاب سياسية". وأمام هذا الوضع غير المعقول وغير المسؤول، سيمارس جلالته اختصاصاته الدستورية بكونه رئيس الدولة الساهر على حسن سير المؤسسات الدستورية وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي وتعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها الذي عليه أن يكون صارما في اقتراح وزراء حقيقيين ومؤهلين لغويا وسياسيا وتدبيريا ودبلوماسيا، لأن السنوات المقبلة ستكون سنوات التحديات للمغرب بكل المقاييس؛ لأن المغاربة - كما جاء في الخطاب الملكي بداكار- ينتظرون من الحكومة المقبلة أن تكون في مستوى المرحلة الحاسمة. *أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال الرباط