تعرف المدرسة المغربية مجموعة من الاختلالات الخطيرة التي تعيق فعلا دور المدرسة في التربية والتعليم وإنتاج المعرفة وترسيخ القيم... ويعتبر الهدر المدرسي مظهرا من مظاهر هذه الاختلالات, أسبابه متعددة منها: * ما تتحمل فيه الدولة المسؤولية الكبرى والمباشرة عندما نجد عبر التراب الوطني مناطق معزولة ومهمشة لا تتوفر على مدارس لأبنائها, أو مؤسسات تعليمية تعاني من خصاص مهول في الأطر التربوية والإدارية, أو أن هذه المؤسسات لا تتوفر على أبسط وسائل التدريس... إضافة إلى مسلسلات الإصلاح غير الناجعة, وما تطرحه البرامج الدراسية من صعوبات وعراقيل أمام التلاميذ والمدرسين... الشيء الذي يعيق السير العادي للدراسة وتحقيق الجودة المنشودة... *وهناك سبب آخر طارئ وخطير يتمثل في الأثر السلبي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والذي يؤدي إلى الفشل الدراسي. وكل سبب من هذه الأسباب السابقة يحتاج إلى وقفة متأنية ودراسة وافية, إلا أنني في هذه المقال سأركز على السبب الأخير: (الأثر السلبي لتكنولوجيا المعلومات على تعليمنا). لا ننكر الاستفادة الكبيرة التي تتيحها الأنترنيت ووسائل التكنولوجيا الحديثة والمواقع الالكترونية والاجتماعية في التحصيل والمعرفة والخدمات والتواصل الاجتماعي... لكننا معنيون أيضا بالكشف عن الوجه الآخر لهذه الوسائل بالوقوف على آثارها السلبية على تعليمنا, والمتمثلة على العموم في سوء استعمال التلاميذ والطلاب في المدارس والمعاهد والجامعات المغربية للوسائل التكنولوجية الحديثة. إن استعمال الهاتف النقال مثلا بغاية أخذ صور للآخر دون إرادته يعتبر إساءة كبيرة له, وتعدٍّ سافر على حقوقه وحريته, خاصة في ظل ما تعرفه وسائل التكنولوجيا الحديثة من تطور مبهر, ففي مجال الصورة, تتوفر الوسائل التكنولوجيا على أدوات معالجة الصور وتعديلها وإدخال بعض المؤثرات عليها ونشرها بكل حرية عبر المواقع من أجل السخرية أو الانتقام أو التهديد والابتزاز وغيرها من النوايا والدوافع العدوانية. ونستحضر هنا ما هو أفظع, وأقصد الأشرطة المصورة (الفيديوهات) التي انتشرت في المواقع الإلكترونية على نطاق واسع, وتدور حول تصوير الأستاذ داخل القسم بعد استفزازه وإخراجه عن صوابه, أو تصوير التلاميذ لبعضهم البعض في حالة شغب, وتصوير المراهقين في وضعيات مخلة بالأخلاق ونشرها بجرأة خطيرة وبدون رقابة أو وازع أخلاقي وغيرها من هذه الانتهاكات التي باتت تكتسح مجال التعليم في بلادنا, والتي وصلت بعض الحالات إلى المحاكم. إضافة إلى تداول فيديوهات إباحية أوعنيفة بين التلاميذ من خلال هواتفهم المتطورة والمزودة بالأنترنيت. وقد يتم ذلك داخل الفصل الدراسي. الصورة في هذه الحالات السابقة نوع من أنواع العنف المعنوي والتسلط الذي يتعرض له المتعلمون والمتعلمات والأطر التربوية في المدرسة, الشيء الذي يحدث ضررا بالغا بسمعة المدرسة. وإلى جانب الاستعمال السيئ للصورة عبر الوسائل التقنية الحديثة, هناك مظاهر أخرى للآثار السلبية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الرفع من نسبة الهدر المدرسي وتتمثل في ما يلي: إدمان التلاميذ والطلبة على مواقع التواصل الاجتماعي (الفايسبوك وتويتر واليوتوب والمدونات ومواقع الدردشة). وهذا له آثار سلبية على حياة المتمدرسين التعليمية. تبادل الرسائل النصية الإلكترونية بين مستخدمي التكنولوجيا خاصة في أوساط التلاميذ والطلاب. وما تسببه من انشغال عن الدروس ومن تأثير خطير على تعلم اللغة, فطريقة كتابة الرسائل النصية خاصة بهم (لغة عربية عامية بحروف لاتينية وأرقام بدل بعض الحروف) إضافة إلى الاختزال والاختصار.. الشيء الذي يسبب تدني مستوى المتعلمين في القراءة والكتابة. مظهر آخر من مظاهر الاستعمال غير السليم لهذه الوسائل التكنولوجيا الحديثة يتمثل في ظاهرة الغش بوسائل حديثة ومتطورة جدا, تتجاوز بكثير إمكانيات الأساتذة في منع الغش وضمان تكافؤ الفرص.. معظم المتعلمين اليوم يعولون على الغش في الفروض المحروسة والامتحانات الإشهادية, ويتوكلون على هواتفهم النقالة المتطورة وأدوات أخرى تقنية دقيقة, فلا يدرسون ولا يراجعون ولاينتبهون ولا يهتمون... والخطير في الموضوع هو سرعة تفشي هذه الممارسات السلبية في المدارس والمعاهد والجامعات. ومن نتائج هذه المظاهر السابقة التي انتشرت في المدرسة المغربية في الفترة الأخيرة: حالة الفوضى في قطاع التربية الوطنية, والعنف وعزوف التلاميذ عن الدراسة وعدم متابعتهم للدروس وغياب التركيز والتفاعل والانخراط في العمل الجماعي في الفصل, والشرود ونوم بعض التلاميذ أثناء الدرس بسبب السهر أمام جهاز الكومبيوتر, وغياب في الحضور... الشيء الذي أدى إلى تراجع كبير في مستوى التحصيل والرسوب ومغادرة المدرسة مبكرا: المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية .. عزلة المتمدرسين وابتعادهم عن أسرهم وعن المدرسة, وعدم الانخراط في مشاريع مستقبلية ذاتية, فأغلبهم لا يعرف عن الطموح والتخطيط المستقبلي شيئا. إهدار الوقت والجهد والطاقة بسبب إدمان الانترنيت على حساب وقت الدراسة والتحصيل العلمي كل هذا يحدث في غفلة منهم ومن آبائهم. هذه بعض مظاهر التأثير السلبي للتكنولوجيا الحديثة على تعليمنا, والتي تساهم بشكل مباشر وغير مباشر في الهدر المدرسي. استنتاجات: المفارقة هي أن العالم اليوم يعرف تطورا هائلا ومستمرا لوسائل الاتصال الحديثة, وتلاميذنا وطلابنا يواكبون التطور ومستجدات وجديد وسائل الاتصال والمعلوميات بالحصول على أحدث هاتف وأحدث جهاز كومبيوتر بأية طريقة (ابتزاز الآباء أو طرق أخرى مشروعة وغير مشروعة لا يهم), يحسنون استخدامها لكنهم, للأسف الشديد, قليلا ما يستخدمونها في صالحم وفي تطوير ذواتهم والإفادة منها في الدراسة وتحسين مكتسباتهم المعرفية, ويظلون نتيجة ذلك خارج نطاق الانتفاع بالوسائل التكنولوجيا الحديثة بالرغم من حيازتهم لها. والمفارقة الغريبة والخطيرة الأخرى في الموضوع هو أن العالم في عصر المعرفة هذا, يعتمد اعتمادا شبه كلي على تكنولوجيا المعلومات والاتصال لتطوير الآداء والزيادة في المردودية واكتساب المعرفة, ونحن في المدرسة المغربية نعاني من سوء استعمال هذه التقنيات, فاستعمالها في الغالب يؤدي إلى نتائج عكسية. وفي ظل هذه الوضعية نطمح أن يحسن شبابنا استعمال واستغلال هذه الوسائل والانتفاع بها, إلى حين الوعي والقدرة على تجديدها وتطويرها وابتكارها كما يحدث في الدول المتقدمة. اقتراح بعض الحلول: عديدة مظاهر سوء استعمال التلاميذ والطلاب والشباب في المدارس والجامعات والمعاهد لوسائل التكنولوجيا الحديثة. والمدرسة المغربية تواجه تحد كبير يتمثل في كيفية جعل التكنولوجيا الحديثة في خدمة المدرسة والتلميذ, وتحويل التأثير السلبي لهذه الوسائل إلى تأثير إيجابي, والحد من نزيف الهدر المدرسي. وفي محاولة لاقتراح بعض الحلول أطرح الأسئلة التالية: ما مدى مسؤولية التلاميذ في استعمال الهاتف النقال استعمالا سلبيا يضر بهم وبالآخرين؟ هل هم واعون بالآثار السلبية لطبيعة تعاملهم مع هذه الوسيلة والوسائل الأخرى الحديثة التي بين أيديهم؟ وهل يعلمون استعمالا آخر إيجابيا غير ما توصلوا إليه بأنفسهم أو بتأثير من بعضهم البعض؟ وما الضرورة الملحة التي تجعل طفلا في المدرسة يمتلك هاتفا نقالا جد متطور يكلف مبلغا ماليا كبيرا في غياب رقابة الأسرة ومتابعتها؟ وأين دور الأسرة ودور المدرسة ودور الإعلام والوزارة والدولة وكل الأطراف المعنية؟ أن يجد التلميذ بين يديه وسيلة اتصال حديثة مبهرة ذات استعمالات متعددة, يجيد استخدامها, فغالبا ما يجد متعة في إنجاز فعل لا يدرك خطورته وعواقبه الوخيمة. ألا يتطلب الأمر تدخلا من الأسرة والمدرسة بالمنع أو توجيه الاستعمال لغاية نفعية. إن هذه الظواهر تستدعي تدخلا مدروسا من الدولة والوزارة والأسرة والمدرسة والإعلام والجمعيات.. وإيجاد الطرق الكفيلة بجعل الوسائل التكنولوجية الحديثة تلعب دورها في تطوير التعلم لا تدميره.. إنجاز بحوث ميدانية حول الظاهرة ومعرفة الوضعية والأرقام الحقيقية وبناء دراسات وخطط للتصدي للظاهرة وتحويل التأثير السلبي للوسائل التكنولوجيا إلى تأثير إيجابي في التعليم. إعادة النظر والحزم في مسألة امتلاك الأطفال لهواتف نقالة داخل المدرسة بدون رقابة الأسرة وبدون تأطير من المدرسة ووسائل الإعلام. اعتماد الوسائل الحديثة في نشر التوعية التربوية وأقصد الإعلام السمعي البصري. زرع ونشر القيم والأخلاق واحترام الحريات واجتثاث العنف في نفوس المتعلمين. على الدولة أن تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية المدرسة المغربية من خطر مواقع التواصل. على الآباء والأمهات أن يراقبوا أبناءهم أثناء اسخدامهم للأنترنيت ويراقبوا فتحهم لحسابات في مواقع التواصل الاجتماعية أو لا يسمحوا بذلك إن اقتضى الأمر ذلك. مرافقة الآباء لأبنائهم ومساعدتهم وتعويدهم على البحث الجاد والاستفادة من الانترنيت من خلال دلهم على مواقع ثقافية وكتب مفيدة وفديوهات تعليمية وألعاب تفاعلية بعيدة عن العنف والإباحية .., وتنبيههم إلى خطر الوجه الآخر للأنترنيت. هذه بعض المقترحات للتصدي للآثار السلبية لوسائل الاتصال والمعلومات في مجال التعليم. فالتعليم هو صلب النهوض بالمجتمعات.. والاستعمال المدروس لوسائل التكنولوجيا الحديثة في تعليمنا حتما سيؤدي إلى الرفع من مردوديته.
