في انتظار أن يتم الإفراج عن الحكومة المقبلة، التي قد يفرض مخاضها عملية قيصرية، من المفيد جدا التمعن في مضمون البيان الصادر عن رئيس بعثة خبراء صندوق النقد الدولي الذين أنهوا زيارة عمل إلى بلادنا امتدت أسبوعين نهاية نونبر الأخير. البيان يدعو إلى تكثيف الإصلاحات الموجهة لتعزيز الكفاءة والعدالة في النظام الضريبي ويذكر السلطات العمومية أن أداة هذا التعزيز تكمن في توسيع القاعدة الضريبية ومكافحة التهرب الضريبي، ويؤكد أن جهودا من هذا القبيل كفيلة بدعم الاستثمار في البنية التحتية والصحة والتعليم والحماية الاجتماعية وتخفيض الدين العام. معنى كل هذا الكلام أنه أيا كانت مكونات وطبيعة الحكومة التي استعصى تشكيلها، فإن صندوق النقد الدولي، الخبير في مجال التوصيات والإملاءات، يسجل على (دفتر المستعجلات) أولويات تفرض نفسها بإلحاح شديد. وإذا كان الصندوق على لسان بعثة خبرائه لا يخفي ترحيبه بإصلاح نظام التقاعد العام وتحسينات المالية العامة المدرجة في مشروع موازنة 2017 المعلق على مشجب البرلمان الموجود في قاعة الانتظار، فإنه يطرح تساؤلا عريضا جديرا بالاهتمام بشأن فعالية النفقات العامة، وعلى رأسها التباين الصارخ بين المخصصات المرصدة برسم الاستثمار في قطاع التعليم ومحدودية النتائج المسجلة، وتفاقم البطالة، وخاصة بين الشباب. إن المردودية الاجتماعية والاقتصادية لقطاع التربية والتعليم تفترض وجوبا العناية بتحسين جودة النظام، وتأهيل الكفاءات المناسبة لسوق العمل، ومضاعفة الجهود لتوفير الشروط الملائمة لمناخ الأعمال. إن التوقعات الاقتصادية التي كان قد استحضرها تقرير المرصد الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ربيع سنة 2016، تعتمد في المدى المتوسط على اتباع سياسات سليمة في الاقتصاد الكلي وتسريع وتيرة الإصلاحات الهيكلية؛ حيث توقع التقرير أن ظهور محددات جديدة للنمو في صناعات التصدير ذات القيمة المضافة الأعلى وتوسع الشركات المغربية في غرب إفريقيا من المحتمل أن يهيئ الظروف التي تتيح للمغرب التحول إلى مركز للتجارة والاستثمار بين أوروبا وإفريقيا وتعزيز مكانته في سلاسل القيمة المضافة العالمية. غير أن كل هذه التوقعات المتفائلة تظل رهينة التنفيذ الكامل لبرنامج الإصلاحات الشاملة عقب الانتخابات التشريعية التي جرت في السابع من أكتوبر الماضي. والمؤسف أن "الفرملة" التي تكبح منذ شهرين تشكيل السلطة التنفيذية التي تقع على عاتقها مسؤولية صياغة تفاصيل برنامج هذه الإصلاحات والالتزام به، تعرقل في الواقع إمكانيات تسارع وتيرة النمو الاقتصادي، وتستهين بعامل الزمن الذي تتوقف عليه مواجهة الانعكاسات السلبية التي شهدتها السنة الجارية جراء انخفاض إنتاج الحبوب والارتفاع المحدود في إجمالي الناتج المحلي غير الزراعي وموجة جفاف (خريف 2015). إن التقارير الصادرة عن مؤسسات الرصد الدولية تؤكد أن التحديات الرئيسية لاقتصادنا الوطني تشمل التوجه الهيكلي نحو الأنشطة غير التجارية، مثل الأنشطة الزراعية المهددة بالتقلبات وضعف المردودية، والحاجة إلى الإنتاجية والقدرة التنافسية عن طريق إصلاحات شاملة لفائدة مؤسسات السوق تنصب على قوانين المنافسة والشغل والاستثمار، وترسيخ سيادة القانون وإصلاح الإدارة، والانكباب بالخصوص بحزم وفعالية على تحسين جودة وتأهيل العنصر البشري من خلال معالجة عميقة لأنظمة التعليم بكل أطواره. كل هذه التحديات والأولويات ينبغي أن تظهر بصماتها في البرنامج الذي تعتزم تطبيقه الحكومة القادمة، والتي يوجب الدستور، في فصله 88، على رئيسها أن يعرضه أمام مجلسي البرلمان، و"يجب أن يتضمن الخطوط الرئيسية للعمل الذي تنوي الحكومة القيام به في مختلف مجالات النشاط الوطني وبالأخص في ميادين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية والخارجية". إن هذا البرنامج يكون موضوع تصويت في مجلس النواب، ولا تعتبر الحكومة منصبة دون الحصول على ثقة هذا المجلس. أما الفصل 89 فينص على أن الحكومة تمارس السلطة التنفيذية، وأنها تعمل على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين، والإدارة موضوعة تحت تصرفها، وأنها تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية. إننا نستحضر كل هذه المقتضيات للتذكير بأن الدستور واضح وحاسم ويتيح الآليات الضرورية، من مؤسسات منتخبة ترابية، ومجالس تشاورية، وهيئات إدارية، لحسن التدبير الديمقراطي للشأن العام بالشفافية والفعالية اللازمة، وكل معاكسة لهذا المسار فيه تعطيل لإرساء دولة الحق والقانون، وتأخير لكسب رهانات النمو الاقتصادي والاجتماعي، وتبخيس هجين لدور المؤسسات في بناء صرح الديمقراطية وإنجاز الإصلاحات الهيكلية التي تحتاجها البلاد.