بشكل طارئ، وإن بكيفية فولكلورية سطحية، ندرك معنى الزمان، ويصبح إحساسنا به حيا، حاضرا، نعد ونحصي اللحظات والدقائق والثواني، ونشرع في العد التنازلي إلى غاية أن يقف رقاص الساعة عند الساعة الثانية عشر ليلا وقليلا، فتنطلق الشهب النارية نحو عنان السماء، احتفالا بانتقالنا من زمن كمي إلى نوعي، ثم تبادل التهاني وتناول الأقداح والنخب… بعد ذلك، ومع تحول السنة المنقضية إلى مجرد أرشيف وذكرى ميتة، وبداية تحسس أولى خطوات العام الجديد، أقول، بالكاد وقد أدركنا ماهيتنا البشرية الجوهرية، على الأقل افتراضا، باعتبارنا كائنات زمانية، نترقب بعضا من بيولوجيا الزمان، فإننا سرعان ما نصاب بالنكوص، ونستعيد واقعيا حالتنا الأصلية؛ أي جذر تخلفنا الحضاري عن سياق العالم المتمدن. أقصد، باعتبارنا كائنات غير منخرطة كليا في الزمان، لا تأبه من قريب أو بعيد، بقيمته الحياتية بل هو قيمة القيم، وثروة الثروات ثم المجال الحيوي الأبقى والأمثل، الذي يشكل استثماره الايجابي أو هدره المجاني السبيل نحو ولوج بوابة التاريخ من عدمه، وبالتالي، إدراك المعنى الوجودي لمدى دقة توالي الدقائق والساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنوات والأجيال والقرون. كل اختيار، غير الإيمان بمصير علاقتنا بالزمان ومع الزمان وضمن جدليات الزمان، مثّل وسيمثل حتما نزولا من سفينة التاريخ ولعنة دائمة للجغرافيا، وما يعنيه الاختلال من الاستمرار التاريخي في ندب حظوظنا والاطمئنان إلى أفيون مقولة أن الأمم التي حسمت باكرا قضية الزمان "تداعت علينا نحن الأخيار، ظلما وعدوانا''، كما تكالبت الذئاب على الفريسة!! هكذا نعانق بّابّا نويل السنة الجديدة، وسيمكث معنا هذه المرة كي لا يشكل رحيله المفاجئ بداية سلسة أخرى من الهزائم والخيبات والفواجع، متهمين كالعادة مفعول الزمان وتلاعبه بأقدارنا، مع أننا أخرجنا ذواتنا من الأفق الطبيعي لمدارج تحققاته. فكيف نطالبه بالإنصاف؟ لقد استأنسنا بشعور أسطوري، أكثر منه عقلاني، ينهض على تعميم قاعدة "الضرورة" السيكولوجية المجتمعية المنسجمة، بإظهار الجميع أمام الجميع مشاعر التحلي بالتفاؤل عشية السنة الميلادية، والترديد اللغوي بصوت مرتفع وجهوري، على نحو ببغاوي استهلاكي، لسبل "جنان'' الأرض: الرضا، السعادة، الحب، الثروة، الصحة، السلطة، الرفاهية، التمكن، التموقع في السلم المجتمعي، إلخ، كل ما هو جميل في اتجاه واحد على حساب الآخر. أما إذا انتفى هذا المنحى، وتبلورت على النقيض مشاعر التشاؤم، بمعنى تقلص مَعين حجم الثقة صوب مدى جِدة المولود الجديد، فالتأويل بناء على السيكولوجية الميكانيكية الخاضعة لميكانيزمات موضة الاستهلاك الزاحفة، الفاصلة فصلا تاما بين مكونين ضمن مكونات عديدة لسيكولوجيا الفرد: التفاؤل والتشاؤم، وازعان يعملان معا ويلزمهما البقاء كذلك، فلا يأخذ أحدهما معناه إلا انطلاقا من محفزات الثاني، كي لا يكون التفاؤل وحده غباء، ولا التشاؤم بغير التفاؤل تعديما. الشخص السوي هو كل ذلك، طاقة وجودية مبدعة بشكل لانهائي، شريطة فسح المجال أمام تفاعل تعددية مداخل ومقاصد بنيته النفسية، حسب تبادل الأدوار بين التفاؤل والتشاؤم. لا شك أن هذا التبسيط الموغل في الابتذال؛ حيث: تفاءلْ ظنّا تتحقق أو تحقق وهما! تكرس مؤسساتيا في منطقتنا العربية، مع ترسخ المنظومة الشمولية على جميع الواجهات، ولازال الأمر كذلك، الرأي الواحد اقتضى السعي إلى إنتاج شخصية صنمية ذات بعد واحد (هربارت ماركوز)، تذوب بكل خصوصياتها وتفردها وتميزها وسط الجمهرة، يتحتم وفق السياق أن لا يميز أفرادها قطعا غير الانقطاع الأعمى لتلك الفكرة السائدة المهيمنة تماما، الشبيهة بالعصا السحرية التي تنبت في الحال، مخرجا سريعا لكل العوائق. هكذا، شرعن التاريخ الرسمي العربي المعاصر أدبياته، على الأقل منذ بداية تمثلي لها، بناء على قانون: كل شيء بخير وعلى خير، تفاءلوا تنالوا! المفارقة، ومع توالي سنوات تطلعنا المتفائل، تراكمت للأسف الشديد هزائمنا الواحدة تلو الأخرى، وتلاشت أقانيم تفاؤلنا؛ بحيث لم نعد نعرف لها بداية ولانهاية ولا وسط، تنهال علينا كالقذائف مع كل صبيحة. بالتالي أكاد أجزم ولا سنة واحدة داهمت تشاؤمنا طيلة أربعة عقود، ولو باليسير من نتاج التفاؤل، فقط ضياع للأوطان وتضييع لكل شيء جميل، دون أن يضيع إلى غير رجعة، هذا الضياع. لقد اقتنع الروائي الفلسطيني إميل حبيبي بهذه الحقيقة مبكرا، فتمرد على تلك الرؤية "الطاهرة'' للتسلح بالتفاؤل، مبلورا مفهوم "المتشائل''؛ يعني بين- بين. أضيف، ليس قدرا حتميا الاتصاف بالتفاؤل فقط، بل، وما دلالته بصيغة الجمع؟ أيضا لم يكن التطير خلال يوم من الأيام لعنة ولا روحا شريرة تعكر صفو السكينة. بالعكس، حين تأمل الموقف جيدا، سيبدو التشاؤم بمثابة أقصى درجات التفاؤل، يتجلى معه الحس الإنساني الخالص، حسب تناظر الحلم -الإرادة، والإرادة-الحلم. ثنائية خلاقة، غير قابلة للانفكاك بتاتا. إن معاناة شعوب المنطقة أكثر تعقيدا واستعصاء من استحضار عطاء الزمن الجديد، بتراكيب لغوية منشرحة تتناسل هنا وهناك، بين طيات مواقع التواصل الاجتماعي، حسب دائما حدي متفائل أو غير ذلك، مع دفن سنة "كرست تشاؤمنا'' والتطلع إلى ثانية ربما تستجيب بشكل من الأشكال لتفاؤلنا. مثلما أن التقويم والعلاج السيكولوجي، قصد انتشال هذه الشعوب من إحباطاتها الباعثة على التشاؤم، لن يجد ضالته عند مجرد إطلاق العنان إعلاميا لترياق وصفات رجال الدين الوهمية؛ بحيث يكفي ذاك المواطن المسحوق تلقيه مسحة دعاء هوائية على الأثير من الشيخ لكي ينهي بجرة قلم مآسيه الصحية والاقتصادية والاجتماعية، أو هؤلاء ''الكوتشات'' المنحدرين بالطب النفسي من منظومة علم رصين مهيب الجانب، إلى حكايات جد ضحلة وسخيفة، من قبيل: ''تنفس أيها المكابد والمحروم دقيقتين، تمشى دقيقتين، ثم قل أريد، وها أنت أعتى من نيتشه، ثم كل حاجياتك على طبق من ذهب، إيوا نوض أولدي بالصحة والراحة، على سلامتك ''… لقد استفحلت الاختلالات النفسية وتفاقمت معها أمراض القتل والرعب والإرهاب والانتحار؛ بمعنى تعضدت منظومة النزوعات التاناتوسية، حسب فرويد، بالتزامن مع انهيار مشاريع بناء الدولة الوطنية الحديثة بكل مقوماتها المادية والبشرية؛ لذلك لا يمكن تدارك مفعولات أزمات الأولى، سوى بالتئام الجميع من أجل تفعيل مقومات الثانية.