ينطلق الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricœur في مبحثه الفلسفي حول الشر ودلالته الأنطولوجية من الحقيقة الوجودية التي يجب الاعتراف بها: هو أن الشر واقع بشري وقد تجلى في تأثيره في كل مراحل التواجد الإنساني. وعليه فإن كان الشر حقيقة لا مفر منها، فلماذا الشر؟ وهل الحكمة من وجوده في العالم البشري حتمية لتأسيس المعيار الأخلاقي؟ هل الشر طبيعة تكوينية في الإنسان أم أنه ذو طبيعة خارجة عنه؟ وإن كان كذلك فمن المسؤول عن وجوده؟ هل للإنسان قدرة على التخلص من الشر، أم أنه يكتفي بالتعايش معه وقبوله كحقيقة أنطولوجية ملازمة لوجوده؟ إن الشر في معناه لدى بول ريكور "ليس حقيقة نظرية بقدر ما هو تجسيد للفعل الإنساني؛ فلا يمكن فهم الشر والنفاذ إلى عمقه إلا بواسطة الفعل أو الممارسة التي تصدر عن الإنسان. وهو طبعا قرار ناتج عن اختيار وحرية ووعي، باعتباره لصيقا بإرادة الإنسان ومن اختياره، دون الاختباء وراء الطبيعة لتبريره. لأن ضعف النفس البشرية يجعل الشر ممكن الحدوث، فأي انفلات لقوة العقل هو نقطة البداية لدخول امبراطورية الشر. فالسبب كامن في النفس الإنسانية ذاتها، حيث يبدأ الظهور مع الشعور بالنقص واضطرابات الشخصية وتعدي الذات على الآخر بمختلف أساليب القهر والتعذيب، مما يؤدي إلى توليد العنف والسلطة الظالمة"1..". فالإنسان لا يمكنه أن يخترع سوى الفوضى والشرور الإنسانية كذلك، لأن الكلام هو قدرة قد يتجلى عبرها الشر. إن اللاعصمة Infaillibilité لدى الإنسان كما تناولها ''ريكور'' كمفهوم، هي شرط تواجد الشر، لأنه لو افترضنا وجود مثال الإنسان المعصوم، فإنه علينا الاعتراف النهائي بتواجد الخير دون نقيض له في هذا العالم. غير أن الحقيقة المنطقية تفرض علينا الاعتراف بتلك الهشاشة، وذلك الضعف الإنساني الذي يلاحق قراراته وأفعاله لحظة بعد لحظة؛ فارتباط الشر بالإرادة الإنسانية يجعل من الحرية شرطا من شروط وجوده واتساع نطاقه. فالشر إذن يتولد من صميم الحرية، مما يؤدي إلى تحمل الإنسان للمسؤولية، وهذا هو الأساس في حضور معنى الأخلاق لكبح الشر وتلجيمه. إن هشاشة الإنسان تعني أنه يعيش في تصارع الأهواء والرغبات، حيث ينكشف ضعفه من خلال عدم قدرته على إشباع كل ما يرغب فيه، لأنه محدود بقدرات وفرص توفرها حالة الظروف الخارجية. فسعْي الإنسان الدؤوب لتحقيق مطالبه النفسية دليل على أن السعادة هي هدفه الأساسي. يرى ريكور أن "اللاتناسب القائم يبن اللذة والسعادة يكشف بدوره عن هشاشة الإنسان العاطفية، وعن الإمكانية الأساسية للصراع. والشعور وحده كان بإمكانه أن يكشف هذه الهشاشة" .(2)فضعف النفس أمام مطالبها ولذاتها وشعورها بالعجز يعد فرصة من فرص الوقوع في الشر، ولذلك يلجأ الإنسان إلى تغطية هذا العجز والنقص من الناحية العملية إلى التسلط، ومن ثمة نشوب الحروب والاستغلال. إن محدودية الإنسان تلك هي التي تجعل الشر ممكنا، واللاعصمة تمثل حالة ارتكاب الخطأ، كنقطة الضعف تبرز عدم قدرة الإنسان على المقاومة، لأنه يجمع مختلف الأضداد. ومهما تجلت قدرته في الفعل والتغيير والتحرر من مختلف حتميات الواقع، إلا أنه ضعيف أمام نفسه، فهو غير قادر على إحداث ذلك التناسب المطلوب بينه وبين ذاته، وبينه وبين العالم الخارجي. ومن ثم ف "القول بأن الإنسان خطاء، يعني أن المحدودية النوعية الخاصة بالكائن الذي لا يتطابق مع ذاته هي الضعف الأصلي الذي ينبثق منه الشر. ومع ذلك فالشر لا ينبثق من هذا الضعف إلا لأنه يتموضع" (3). فوقوع الإنسان في الخطأ ناتج عن ضعفه ومحدوديته، أي أنه نسبي في تقدير أحكامه، والشر يتواجد أينما يتواجد الإنسان. لكن إذا كان الشر كيانا يلاحق الإنسان رغما عن إرادته واختياره، فما الذي يسببه الشر للإنسان؟ وما مدى تحديه لمطلب السعادة التي تمثل أقصى غاية بشرية؟ إن الإجابة عن مثل هذا السؤال تدفعنا حتما إلى الحديث عن الوعي الإنساني بالخطأ ومدى اعترافه به. وهذا الاعتراف مبني عن اختيار ومسؤولية الإرادة لدى الإنسان التي تدفع به إلى الفعل وتجسيده في الواقع. مما يشكل لدى ''بول ريكور'' تجاوزا للمقاربة الطبيعية التي تعتبر الشر والعنف من مظاهر الطبيعة البشرية كما ورد ذلك مع ''سيحموند فرويد'' خصوصا. وعليه فكيف يستطيع الإنسان إذن أن يتجاوز مستوى الحزن و المأساة والتراجيديا التي ترسمها له الحياة بعيدا عن حريته؟ يجيب ' ريكور: "إن الخطيئة، التألم والموت، تعبر جميعها بكيفيات مختلفة عن الواقع الإنساني في وحدته العميقة" (4)، مع ما يستدعي ذلك من تبني فكرة مقاومة الحزن، وذلك بالفعل بالممارسة وتجاوز هاجس الألم والموت التي تسيطر على فكر الإنسان. إن الحكمة الفلسفية تدعونا إلى تجاوز أفق المأساة عبر تطويع الشر؛ فإذا كان الإنسان لا يستطيع مهما حاول أن يستأصل الشر من وجوده، فانه بإمكانه أن يتعايش معه وفقا لظروف ومعطيات يوفرها الإنسان لنفسه وغيره، كي يؤكد جوهره وفطرته الخيرة، وذلك بالتخلي عن اللذات والشهوات التي تقوده نحو الخطيئة، وتوجيه حياته وفقا للقيم الأخلاقية والإنسانية الكونية. **** 1- بول ريكور: الإنسان الخطاء: فلسفة الإرادة، ترجمة عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2003. ص16* 2- عدنان نجيب الدين: مسألة الشر في فلسفة بول ريكور، دار الفكر اللبناني، الطبعة الأولى، 2008، ص 148 3- بول ريكور: صراع التأويلات: دراسات هرمنيوطيقية، ترجمة د. منذر عياشي، مراجعة د.جورج زيناني، دار الكتاب الجديدةالمتحدة،الطبعة الأولى ،2005 ، ص .35 4- بول ريكور: الإنسان الخطاء: فلسفة الإرادة، ترجمة:عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2003، ص222. *باحث وكاتب