من يتابع المشهد السياسي بالمغرب، عليه أن يكون مصابا بالحَوَل، كي تتّضح لديه الرؤية بشكل جيّد ويفهم ما يجري. لقد توالت التعليقات والتحليلات هذه الأيام حول تشكيلة منتخب الحكومة الجديد، حيث اعتبرها الكثيرون أنها "خَرْدولة" سياسية غير منسجمة، في حين أن المجتمع المغربي، كما وصفه يوما السوسيولوجي المغربي بول باسكون، هو "مجتمع مركّب" أنتج ثقافة سياسية بملامح غامضة، فما الغريب مثلا، في أن نرى الشيوعي نبيل بنعبد الله يضع يده في يد الإسلامي عبد الإله بنكيران؟ سياسيونا منطقيون جدّا مع أنفسهم وواضحون بشكل كبير معنا، لأنهم يعتبروننا شعبا أحوَل، وعندما يضعون أمامنا عظمة و"لفْتَة" في طبق واحد، فهم متأكدون بأننا سنُحسن الاختيار. كل هذه العقود التي قضاها يساريو البريكولاج في البرلمان والحكومة، كانوا أوفياء لفكرهم العمّالي، لذلك كنا نراهم يحملون مطارقهم ومناجلهم، مثل بنّائي وفلّاحي الطبقة الكادحة، لترميم الشقوق وحَشّ النباتات الطفيلية في مؤسساتنا. هم معذورون، فقد خَدَجتْهم الأم موسكو وولد بعضهم مشوّه الخِلْقة، وسقط طوب جدار برلين على رؤوسهم، ومن نجا منهم اليوم هرول إلى البرلمان عوض اللجوء إلى دار الأيتام والعجزة. الأحزاب اليسارية الحقيقية في المغرب توجد في المقاهي، فجُلّ مناضليها الشرفاء يقضون تقاعدهم السياسي خارج المقرات المركزية، وقد حُكم عليهم بالتيه الإيديولوجي، وهم أغراب في أحزابهم، بعد أن استحوذت عليها لوبيات الأعيان والمصالح وأفرغتها من دورها الجماهيري، وما يستطيعون فعله اليوم هو الاكتفاء بالتفرّج على اللاعبين المحترفين وهم يمرّرون الكرة من رِجْل إلى أخرى بحنكة عالية. الحوار الصريح الذي أجرته جريدة "الشروق" مؤخرا مع سعيد السعدي، القيادي بحزب التقدم والاشتراكية، يمنحنا صورة واضحة عن هؤلاء اليساريين الأغراب الذين لا حول ولا قوة لهم، وهم يرون القرارات الحاسمة والتاريخية لبلدهم ولأحزابهم تُتخّذ بعيدا عنهم، وليس بمقدورهم سوى أن يندبوا حظهم العثر، لأن التاريخ لم ينصفهم، وهم مطالبون الآن بأن يريحوا ضمائرهم ويجهروا بالحقيقة، فإن كانوا بحسن نية قد التجئوا إلى الصمت في الماضي لاعتقادهم بأنه صوت العقل والحكمة لدرء الانفجار، فإنه اليوم لن يُقبل منهم، فالفأس وقع في الرأس، وما دُمّر قد دمّر، ولا يمكنهم في آخر المطاف أن يصنعوا تاريخا مشرّفا داخل قبر جماعي. محنة اليسار في العالم أنه كان يبشّر بأفول الرأسمالية، لكن نجمته الحمراء باعها اليسار الإصلاحي في سوق الحكومات المتعاقبة، ورّوضته الرأسمالية ترويضا وتمكّنت من مسخه إلى فصيلة من الرخويات، وتمّ تمريغ المسكين غرامشي في وحل سياساتها المتَبَرْجِزة، أما اليسار الراديكالي الذي لم يدخل اللعبة، فقد حوّل الأدبيات الماركسية إلى عقيدة أصولية، وعندما حاول تحصين ذاته من الاختراق، عزل نفسه بنفسه، وأصبح يطلّ على جماهيره من أعلى قلاعه الوهمية، وأصبحت شعاراته طلاسم لا يفهمها أحد، وتحتاج إلى الشيخ الدمياطي لتفهمها شعوب غارقة في الأمية. من المضحك الآن، أن نصف نبيل بنعبد الله بالشيوعي، إلا إذا كانت هذه الشيوعية تعني مشاعية الحقائب الوزارية، وهو ما نجح هو وبعض رفاقه الأشاوس في تحقيقه. فبعد أن كانت الاشتراكية تُفزع الرأسمالية وتتصارع لإسقاطها، أصبحت الآن شقيقتها في مراكمة رأسمال، ومن الطبيعي أن يتحالف إسلاميو السوق الذين يبشّرون بالأبناك الإسلامية وتحتفي بهم أمريكا أيما احتفاء بصعودهم، مع شيوعيي الشائعات لبناء صرح النيو-ليبرالية، وتحريض الرأسمالية المتوحشة لغرز أنيابها أكثر في لحم الشعوب. لقد تعوّدنا رؤية مشاهد قلب المعاطف السياسية والإيديولوجية، وعندما قرأنا رسالة محمد الحبابي الموجّهة لحزب الاتحاد الاشتراكي، ويقول فيها بالحرف: "بلادنا في حاجة ماسة إلى خلق صحوة دينية، وانبعاث فكري مدعوم بقيم المعاصرة"، نفهم لماذا أن بعض المحسوبين على اليسار رموا "اختيارهم الثوري"، وبإمكانهم أن يعوّضوه بسهولة باختيار غيبي، ولأننا مصابون بالحوَل فإننا سنصدّقهم، فهؤلاء لا يتوقّفون عن تذكيرنا، نحن الساهون، بالمصلحة العليا للوطن، مشجبهم الذي يعلّقون عليه تفاهاتهم التاريخية التي صنعت كل هذا الخراب. شلل اليسار في العالم اليوم، أمام الأزمة الاقتصادية الكاسحة تحتاج يسارا حقيقيا ومبتكرا ونظيفا وهو ما أسماه بيير بوريدو"يسار اليسار"، رغم أن اليساري الوحيد في العالم اليوم هو اللاعب البارصاوي "ميسّي".