أعادت واقعة استعمال موظف شرطة يعمل بمنطقة أمن أنفا بالدارالبيضاء لسلاحه الوظيفي، متسببا في وفاة شخصين، خلال الساعات الأولى من فجر يوم الأحد المنصرم، (أعادت) فتح النقاش القديم حول الضوابط القانونية والمهنية المؤطرة لاستعمال السلاح الوظيفي، كما فتحت أيضا نقاشات جانبية حول إستراتيجية إدارة الأزمة التي لجأت المديرية العامة إلى تفعليها لمعالجة هذه القضية، والتي تجاوزت نطاق التحقيقات والأبحاث القضائية التقليدية إلى استغلال كافة آليات التواصل المستمر بخصوص هذه القضية. قراءة في كرونولوجيا الحادث منذ اللحظات الأولى التي تلت تسجيل الواقعة وما أعقبها من معاينات أولية وجمع للأدلة والقرائن التي خلفتها بمسرح الجريمة، كان واضحا تكثيف جهات التحقيق لأبحاثها الميدانية وتحرياتها الرامية إلى إماطة اللثام عن الملابسات والظروف الخفية التي قادت مفتش شرطة إلى إطلاق الرصاص من سلاحه الوظيفي، ما تسبب في وفاة شخصين على الفور، في واقعة استثنائية بمعايير المجتمع والواقع المغربي. استثنائية الحدث واكبها منذ اللحظات الأولى خروج المديرية العامة ببلاغ حرصت بشكل متعمد على صياغته باستخدام عبارات من قبيل: "فتحت المصلحة الولائية للشرطة القضائية بحثا لتحديد ظروف وملابسات.." أو "حسب المعلومات الأولية للبحث"، إدراكا منها ربما أن التحقيقات والأبحاث لازالت في مراحلها الأولى، وأن الخروج بأي استنتاجات أو جزم أي معطيات يمكن أن يكون سابقا لأوانه، وهي بالتالي لم تدن أو تبرئ أحدا، كما أنها لم تتبن أي رواية وتركت جميع الفرضيات مفتوحة أمام المحققين. مواصلة الأبحاث شملت- كما صرح بذلك لهسبريس مصدر أمني مطلع- تحصيل إفادات عدد من الشهود الذين حضروا الواقعة، أو على الأقل جزءا منها، والذين أجمعوا على واقعة العراك بين الشرطي وأربعة أشخاص في حالة سكر، من بينهم الضحيتان، دون أن يفيد أي منهم بشكل دقيق بملابسات إطلاق النار، فيما بقيت التصريحات متضاربة بينهم حول حيازة أحد الأطراف لسكين في مواجهة الشرطي. أما نقطة التحول في هذه القضية فقد كانت دون شك ظهور مقطع فيديو يوثق لجزء من هذه الواقعة، وبالضبط ذلك الذي أطلق فيه الشرطي النار من سلاحه الوظيفي على الضحية، ثم ظهور تناقضات صارخة بين تصريحات البعض من الشهود الذين تم تحصيل إفاداتهم، وهي المعطيات التي تم وضعها بشكل مستعجل على طاولة المدير العام للأمن الوطني، الذي قرر على الفور توقيف موظف الشرطة وتقديمه للعدالة، نظرا للتجاوزات المهنية والقانونية والخطيرة التي ظهرت في حقه، حسب تعبير البلاغ الثاني للمديرية العامة للأمن الوطني. السلاح الوظيفي .. ضرورة مهنية لا تلغيها فردية التجاوزات: من الثابت والمتفق عليه أن حمل موظفي الشرطة لأسلحتهم الوظيفية بمختلف أنواعها واستخداماتها ليس مجرد ترف أو كماليات زائدة، بل هو ضرورة قصوى تقتضيها طبيعة المهام والأخطار التي يقارعها الشرطي يوميا، لذا فاستعمال السلاح الوظيفي يستمد مشروعيته أولا من خلال النصوص القانونية المنظمة لمبادئ الدفاع الشرعي عن النفس، ثم من الضوابط المهنية والتنظيمية التي تحكم ممارسة موظفي المديرية العامة للأمن الوطني لمهامهم الوظيفية بالشارع العام. ومن هذا المنطلق، فاللجوء إلى استعمال السلاح يتم حصريا في حالات الدفاع الشرعي عن أمن وسلامة المواطنين وممتلكاتهم، أو عن السلامة الجسدية للشرطي المتدخل نفسه، وذلك شريطة توافر ظروف قانونية وواقعية، يخضع تقديرها لمراقبة السلطات القضائية المختصة، وذلك عندما يكون الاعتداء الذي يواجهه الشرطي حالا ووشيكا، ثم أن يكون هناك تناسب بين الاعتداء والدفاع. ومع تناسل التعليقات حول ملابسات إطلاق شرطي الدارالبيضاء النار من سلاحه الوظيفي، وما صاحبها من تساؤلات حول شرعية هذا الفعل، خرجت عدة أصوات تؤكد أن تصرف الشرطي خطير ومستهجن، ولكنه يبقى شاذا ومعزولا، مستدلة على ذلك بحجم التدخلات التي تتم يوميا باستعمال السلاح الوظيفي، والتي تتسم في مجملها بالموضوعية واحترام الضوابط المهنية، في مقابل تجاوز واحد تشير كل المعطيات المتوفرة إلى أنه مرتبط بسلوك شخصي صادر عن مفتش الشرطة المتابع قضائيا، أكثر منه بتدخل شرطي يدخل في إطار مهام جهاز الأمن الوطني. ولا بد من التذكير بأن استعمال السلاح الوظيفي، شأنه شأن باقي معدات التدخل والحماية التي تتوفر عليها أجهزة تطبيق القانون، لم ولن يكون في يوم من الأيام ترفا أو مجرد إكسسوار زائد، بل هو ضرورة قصوى وإجبارية، تقتضيها المخاطر المرتبطة بالجريمة والإرهاب، وهي التي لا يمكن حصرها في ساعات معينة أو في أمكنة محددة، ما يستدعي بالضرورة توفر موظفي الشرطة على أسلحة وظيفية بشكل دائم، ضمانا للجاهزية والقدرة على مواجهة المخاطر المحدقة بأمن الوطن والمواطنين. أما أي تجاوزات، وهي بالفعل قليلة إن لم نقل منعدمة، فمن المؤكد أن مصالح الأمن الوطني تتوفر على الإمكانيات التنظيمية ووسائل التقويم الكفيلة بتجاوزها، وذلك من قبيل تطوير وسائل التدريب الأساسي، وبرمجة دورات للتكوين المستمر لرصد أي مكامن للنقص، فضلا عن تفعيل آليات المواكبة النفسية والتتبع الصحي لموظفي الشرطة الذين قد تظهر عليهم علامات مرضية وسلوكية تفقدهم القدرة على تحمل مسؤولية حمل واستعمال السلاح الناري. إدارة الأزمة..كيف فعلت المديرية آليات التواصل المؤسساتي منذ الساعات الأولى للواقعة، أكدت المديرية العامة للأمن الوطني أنها حريصة على تحمل مسؤوليتها في تنوير الرأي العام والتواصل معه بخصوص هذه القضية، التي استأثرت بتتبع وسائل الإعلام المحلية والوطنية، ثم الرأي العام الوطني كافة، فكانت النتيجة ثلاثة بلاغات تناولت بين سطورها كافة اللحظات الحاسمة والفارقة في مسار هذه القضية. فالبلاغ الأول، وكما شرح مصدر أمني مطلع، لم يتبن رواية أو استنتاجا جازما، وإنما كان الهدف الوحيد منه تنوير الرأي العام حول المعطيات الأولية التي تم تحصيلها بمسرح الجريمة، مع ترك الباب مفتوحا أمام التحقيقات التي وحدها من ستحدد الظروف والملابسات الحقيقية للواقعة؛ علما أن المعطيات التي جاءت فيه تم تحصيلها فعلا من شهود حضروا أطوار الواقعة، قبل أن يتبين لاحقا تناقض بعضها ويتم إخضاع اثنين منهم لبحث قضائي من أجل تضليل العدالة وإهانة الضابطة القضائية من خلال الإدلاء بمعطيات كاذبة..يشرح المصدر الأمني نفسه. المصدر نفسه أكد أن المديرية العامة للأمن الوطني تتبنى إستراتيجية للتواصل مبنية على الشفافية بخصوص أكثر المواضيع حساسية داخل الجهاز الأمني، لذا جاء البلاغ الثاني ثم الأخير، مؤكدين على تسجيل مخالفات وأخطاء مهنية وقانونية خطيرة في حق مفتش الشرطة، وهو ما اقتضى في مرحلة أولى توقيفه عن العمل ثم اعتقاله ووضعه رهن إشارة البحث الذي تشرف عليه النيابة العامة المختصة. هذه المعطيات أكدت مرة أخرى مسار الانفتاح الذي تنهجه مصالح الأمن الوطني، وهي التي لم تمتنع يوما عن إخبار الرأي العام برصد وتسجيل مخالفات وأخطاء مهنية في حق موظفيها، مع ترتيب الجزاءات التأديبية والقانونية في حقهم، بقدر حرصها على تحفيز الأكثر كفاءة ومهنية من بينهم، وهي أيضا من استقبل مديرها العام سائق دراجة ثلاثية العجلات واعتذر منه بعد تعرضه لتعامل مهين للكرامة من قبل شرطي بالدارالبيضاء. وفي المقابل، لا يمكن لأحد أن ينكر على المديرية العامة للأمن إستراتيجيتها التواصلية الفعالة، التي أكدت في كل مرة أنها تعكس خيار الإصلاح وترسيخ مبادئ الحكامة الأمنية الجيدة، كما تنسجم مع المبادئ الدستورية والمفاهيم الشرطية المستجدة، خاصة تلك المتعلقة بمأسسة وتدعيم التواصل الأمني مع المواطن بخصوص كل القضايا المرتبطة بالأمن، وهذه المسألة يتم تدبيرها من خلال مهام الإخبار بواسطة البلاغات والروبورتاجات والبرامج، أو من خلال مهام الرد والتصويب عبر بيانات الحقيقة. دروس وخلاصات لا شك أن رصاص شرطي الدارالبيضاء شكل حدثا استثنائيا في تاريخ العمل الشرطي بالمغرب، لكنه أيضا كان مناسبة لاستخلاص مجموعة من العبر والدروس، أهمها أن الأمر يتعلق بإطلاق "شرطي"، وليس "الشرطة"، النار باستعمال سلاحه الوظيفي خارج الضوابط القانونية والتنظيمية، وهو الفعل الإجرامي الذي تعاطت معه المديرية العامة للأمن الوطني في البداية بحذر شديد نتيجة تناقض المعطيات وانتظار نتيجة التحقيقات المعمقة، قبل أن تتخذ موقفا حازما لحظة تبين لها مكمن الخلل والتقصير. أما المعطى الثاني فهو مرتبط بالأساس بضرورة الحرص على استمرارية لجوء موظفي الشرطة لاستعمال أسلحتهم الوظيفية متى توافرت الظروف القانونية والتنظيمية التي تشرع هذا الفعل، وألا يكون لهذه الواقعة تأثير يردع رجال الشرطة عن حماية أنفسهم وحماية أمن المواطنين وممتلكاتهم بغض النظر عن تداعيات أي سلوك فردي أو شخصي. الخلاصة الأخيرة والمهمة وهي ضرورة تحصين المكتسبات التي راكمتها الأجهزة الأمنية المغربية في مجال التواصل المؤسساتي والانفتاح على الرأي العام، ومواصلة إستراتيجية الإخبار والتفاعل مع كل ما يرتبط بعمل المرفق العام الشرطي، بحيث تكون بذلك هذه الواقعة امتحانا حقيقيا تخرج منه مصالح الأمن أكثر إصرارا على مواصلة مسار الإصلاح والشفافية واحترام مبادئ الحكامة الأمنية ضمن دولة الحق والقانون.