"الأمر بالمعروف واجب على العالم، غير أنه ينبغي أن يخضع لشرطين: احتمال قبول ملائم واليقين من عدم إثارة الفتنة" الحسن اليوسي لا يمكن أن نرمي الصبي مع ماء الاستحمام، لكني أحس أن العديد من وزرائنا – مع موجة تطهير الإدارات العمومية من الفساد – يقومون بذلك، فيما يشبه الدعاية الإعلامية أكثر من الاقتناع بضرورة تطهير حدائق الدولة مما علق بها من فساد، الكل أصبح اليوم يتوفر على ملفات يهدد بفضح أصحابها.. الأمر جميل، فلن يقاوم الفساد إلا المستفيدون منه، هكذا يعتقد الوزراء الجدد في حكومة بن كيران عن سذاجة سياسية أو عن ثقة بحسن نيتهم في الذهاب إلى أبعد مدى لتطهير حدائق جورجياس! لكن عليهم التريث قليلا.. فمحاربة الفساد ليس نزهة رومانسية، ولا يكفي أن تكون على حق لتنتصر في معركة ترسيخ النزاهة والشفافية وتدعيم أسس الكفاءة واعتماد قيم الجودة والمردودية في مجال تدبير المرفق العمومي، ببساطة لأن الأمر لا يتعلق فقط بوجود قوى تغولت في أجهزة الدولة لأنها استفادت من غياب المحاسبة في ممارسة المسؤولية، ولا لوجود جيوب أخطبوطية لمقاومة التغيير انتشرت مثل السرطان في جسد الإدارة المغربية، وراكمت مصالحها في ظل اقتصاد الريع وغياب المراقبة وسياسة "مَيَّك عليا نميَّك عليك"! أخطر مقاومة للإصلاح، هي تلك التي تأتي من المستفيدين من تدابير الإصلاح، هذا هو الدرس الذي يجب أن يستوعبه "وزراء بونظيف" في حكومة بن كيران، أقصد خاصة الحسين الوردي وزير الصحة باعتبار حساسية الوزارة التي يدبرها وردود الفعل التي بدأت معالمها تطفو على السطح على إثر ما أعلنه من خطوات إصلاحية جريئة، لكنها في تقديري تفتقد للحس البيذاغوجي. وزير الصحة سيعاني الأمرين، ليس من النافذين الكبار الذين راكموا ثروات كبرى في العهود السابقة من الصفقات غير المشروعة أو من المسؤولين الذين حوَّلوا مؤسسات الصحة العمومية إلى محميات خاصة حيث كل شيء صالح للاتجار بما في ذلك الأعضاء البشرية والأدوات الطبية.. "هاذو حالهم ساهل". المقاومة الكبرى ستأتي من صنفين من أطر وزارة الصحة، أخطرهم صغار الموظفين، الذين يخدمهم الإصلاح ومحاربة الفساد، وهم أول المستفيدين منه، من هؤلاء من كانت حقوقه في الترقي وإعادة الاعتبار لكفاءته ومردوديته وتضحياته... مهضومة، غير أن بعض "المكتسبات" التافهة، التي حصلوا عليها زمن الفساد تم دوسها بعجلة الإصلاح، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن لوزير الصحة أن يصرخ: "رجاء، لا تطلقوا الرصاص على سيارات الإسعاف!" ببساطة لأنهم سيفهمون أنه يحاول أن يرمي الصبي (أي النظيفين من أطر وزارته) مع ماء الاستحمام، أي المفسدين الذين عاثوا في وزارة الصحة فساداً! لقد تحول "السليت" من العمل، ومغادرة المستشفى من طرف الأطباء والممرضين قبل الموعد القانوني، وأخذ رشوة حقيرة، وعمل الممرضات والممرضين- اقتداء بالأطباء- في مصحات خاصة حتى خلال ساعات عملهم بالمستشفيات العمومية، وعدم انضباط العديد من الأطباء لما يمليه عليهم الواجب المهني، وتحويل الكثير منهم لمكاتبه بالمستشفيات إلى عيادات خاصة ومصدراً للرزق بدون ضمير مهني ولا حياء في مهنة لها حرمة خاصة.. كل هذا تحول إلى "مكتسبات" و"حقوق" لا يمكن الدوس عليها، وهم مستعدون لبدل كل شيء لمقاومة الإصلاح، فاحترام ساعات العمل، والتشديد على الحضور ومراقبة أيام المداومة.. لن يعتبروه سوى "تزيار" و"حكرة" و"محاولة إبراز حنة اليدين في الحايط القصير".. يصعب وضع كل البيض الفاسد في سلة واحدة، لكن لم يعد أي شيء مستتراً بعد أن فاحت رائحة العبث والفوضى في مجال يحتك به المواطن بشكل مباشر ويومي... المفروض أن هؤلاء هم المستفيدون من أي إصلاح بوزارة الصحة، إنه اعتقاد ساذج، لذلك على السيد الحسين الوردي أن يستفيد من دروس البيولوجيا في علم التشريح وإصلاح أعطاب الجسد المريض، والمقاومات التي تبديها أعضاء الجسد التي تآلفت مع أنواع من الأمراض الخطيرة، وكيف تقاوم زرع أعضاء نظيفة وسليمة! ثمة حاجز سيكولوجي ارتفع بين مثل هؤلاء الموظفين الذين تُهضم حقوقهم يوميا، وظلوا لعقود مجرد منفذين لما يصدر عن رؤسائهم المباشرين، يتغير الوزراء ولا تتغير أحوالهم، ولا يعترف لا المواطن ولا الدولة بما يسدونه من خدمات، لذلك يفضل هؤلاء المستفيدون المباشرون من الإصلاح، ما يتوفرون عليه من "امتيازات" مهما بدت هزيلة، ومكتسبة ضدا على القانون ولا يؤمنون بها في عمقهم، ومهما بدت هامشية وغير مقبولة لمن يجلسون في الأرائك الفخمة والمكاتب المكيفة، فإنها بالنسبة لمن رأى بأم عينيه الفساد والعبث المنتشر في وزارة الصحة حتى قبل التحاقه بالعمل، يفضل "المكتسب" لديه على الإصلاح الموعود به الذي يبدو لأغلبيتهم كما لو أنه مجرد أضغاث أحلام، بحكم الخيبات التي ابتلوا بها في تدبير قطاع وزارة الصحة، التي هي مجرد نموذج حي في تحليلنا هذا، فصحة الفساد ليست معطوبة إلى هذا الحد لنحجز لها فقط سريراً في المستشفى! كل إصلاح غير مسند بتهييء سيكولوجي، وبخلفية تشاركية لتدبير القطاع، محكوم عليه بالموت، لذلك على وزير الصحة، كما باقي وزراء بونظيف في حكومة بن كيران، ألا يعتقدون بأن الإصلاح سهل، لقد ألف الناس أن الكلمات المذهبة غالباً ما تتلوها طلقات الرصاص، وعليهم أن يفتحوا أبوابهم لكل الفاعلين، وأن يورطوا ، بالمعنى النبيل للكلمة، كل المتدخلين في قطاعاتهم الحيوية من أجل حماية الإصلاح، فالفكر المنظم هو الذي يضمن لنفسه النجاح، وخوفي أن يجد وزير الصحة نفسه يوماً مجبراً على تقديم استقالته أو أن يدور 180 درجة، يأساً من أي إصلاح ومن وجع الرأس ويبحث عن "تدواز المانضة ديالو بسلام" وانتهى الأمر.. إذ نحن، وهؤلاء الصغار المقاومين للإصلاح، من سنجد في نفسنا غصة في القلب وجراحاً لا تندمل... على الوردي أن يفهم أن وردة واحدة لا تصنع الربيع، وإياك وخضراء الدمن، إياك والموظفين النزهاء الذين نبتوا في منابت السوء! واستعن بما قاله السابقون، عليك ممن ابتلوا بهوس الإصلاح وجنوا الخيبات لكنهم ما ضعفوا، وليس أقلهم الحسن اليوسي الذي قال يوما: "الأمر بالمعروف واجب على العالم، غير أنه ينبغي أن يخضع لشرطين: احتمال قبول ملائم والتيقن من عدم إثارة الفتنة"، وضع في حسبانك ردود أفعال هؤلاء المستفيدين من الإصلاح الذين سيكونون أول من يقاومه علانية، مع الانتهازيين الشرفاء من النقابيين والحزبيين من أطر الوزارة المستفيدين من وضعية العبث في العهود السابقة، وكل هؤلاء سيكونون مرتعا خصبا للعب كبار المفسدين الحقيقيين، خاصة ممن قلوبهم مع علي وسيوفهم مع معاوية، اللهم أشهد فإني قد بلغت.