من خلال تأمل مجريات الثورة المصرية نلاحظ أن المخزن السلطوي ليس مقصورا على المغرب، فللشقيقة مصر ولباقي الدول العربية مخزنها أيضا، فالجيش بجنرالاته الأقوياء ومعهم باقي الزعماء والسياسيين ورجال الأعمال والأمنيين والموظفين الفاسدين يشكلون مخزن هذه البلدان جميعا، وهي منظومة معقدة ومتجدرة لها امتدادها الشعبي الذي يتكون من عشرات الآلاف من المواطنين الفاسدين والمرتشين والانتهازيين، لذلك فمن المستحيل المراهنة على إسقاط هذه المنظومة الفاسدة بالثورة وحدها، إلا في حالة إقدام الثوار على إعدام قرابة ربع ساكنة البلاد أو الزج بها في السجن، إن استطاعوا ذلك طبعا، لذلك فعملية الإصلاح تحتاج إلى اعتماد مسارات عدة متوازية ومتكاملة تهدف إلى التفتيت التدريجي لعناصر قوة المنظومة السلطوية وإضعاف مجالات نفوذها وقوتها، ويمكن إجمال أهم هذه المسارات في: + العمل الاجتماعي عبر التأطير والتربية والتوعية والتثقيف والتخليق في أوساط المجتمع لكي يعرف أفراد الشعب حقوقهم وواجباتهم ويتعلمون الالتزام بها والنضال من أجلها والتعاون فيما بينهم لتكريسها على أرض الواقع. + العمل السياسي: وهو التدافع المستمر مع باقي القوى المخزنية والسياسية وغزوها داخل مواقعها ومعاقلها لفضح مخططاتها وإعاقتها وإفشالها وزحزحة عناصرها تدريجيا عن مواقع المسؤولية والقرار السياسي والإداري، بالإضافة إلى اكتساب ما يكفي من التجربة والخبرة السياسية. + العمل العلمي والمهني والثقافي: وذلك بتشجيع أفراد الجماعة على التنظير والإنتاج الفكري والتكوين المستمر والتفوق في مجالات العلوم والإدارة والمالية والاقتصاد بإعداد قيادات قادرة على تحمل مختلف المسؤوليات داخل إدارات الدولة للحد من الفساد واكتساب خبرات في التدبير والتسيير، وهو ما يسمى في السياسة انتشار بقعة الزيت ويقصد به تعويض الفاسد بالصالح تدريجيا في مختلف المجالات والمواقع حتى تنحصر بقعة الفساد في أضيق الزوايا، فيسهل عندئد القضاء عليها. +العمل الثوري النضالي: ويعتمد على تعبئة مختلف مكونات الشعب من أجل دعم الجبهة السياسية من خلال الحملات الإعلامية والوقفات والمظاهرات والمسيرات الحاشدة، التي تبقى أوراقا ضاغطة قد تتحول إلى ثورات إدا دعت الحاجة إلى ذلك. وقد اعتمدت أغلب الحركات الإسلامية في الدول العربية هذا المنهج رغم وجود المنظومة الفاسدة المسيطرة والمستبدة، بداية من حزب العدالة والتنمية التركي في ظل حكم العسكر، وحركة حماس في ظل حكم مفسدي حركة فتح، وحركة التوحيد والإصلاح في ظل حكم المخزن، وحركة الإخوان المسلمين تحت حكم مبارك سابقا وتحت حكم العسكر حاليا، وهذه الحركات لم تتوقف أبدا عن اعتماد هذه المسارات التلاث بما فيها العمل السياسي، وذلك بشكل متواز ومتكامل رغم المعيقات والصعوبات التي كانت تعترضها، لأن قادتها يعلمون جيدا أن الفراغ إذا لم يملأه الصلاح فحتما سيملؤه شئ آخر، وأن الإصلاح عملية مجاهدة مستمرة وصعبة طريقها مفروشة بالأشواك لا بالورود، وأن إمكانية نجاح الثورات تصبح أكثر سرعة وسهولة في حالة اختراق النظام الفاسد من طرف رواد الإصلاح. ويقابل هذا المنهج توجه آخر يرفض المشاركة السياسية للإسلاميين في ظل نظم فاسدة بدعوى أنها ستؤدي إلى تشويهها وتدجينها وانسلاخها عن الشعب وطردها إلى مزبلة التاريخ، إلا أن نظريتهم أتبتت فشلها حين اكتسح الإسلاميون المشاركون في العملية السياسية أولى الانتخابات بعد الربيع العربي،كما حصل مع جماعة الإخوان المسلمين التي حققت اكتساحا كبيرا رغم عشرات السنين من المشاركة السياسية، بما يعني أن المواطن له من الوعي ما يؤهله ليميز بين الصالح والطالح من بين القوى السياسية ولو كانت مشاركة في العمل السياسي، فتذرع بعض الجماعات والحركات بالتخوف من الاتساخ إدا دخلت مستنقع السياسة يشير إلى أنانية خفية تجعلها تفضل ترك المستنقع آسنا لعشرات السنين وانتظار الفرج من السماء مقابل الحفاظ على طهارة ونقاء الجماعة، مع العلم أن هذا الاعتقاد هو مجرد وهم، فلن يلومك أحد إن دخلت مستنقعا لتنظيفه وتطهيره، سيلومك فقط إذا بقيت متفرجا عليه أو شاركت في تلويثه. وهذه العقلية السلبية هي المسؤولة عن غزو وسيطرة مختلف التيارات العلمانية واليسارية والليبرالية والانتهازية على مختلف مرافق الدولة ومواقع القرار باستخدام جميع الوسائل والسبل في الوقت الذي ضلت فيها الحركة الإسلامية جامدة ومعزولة لسنوات ومعرضة للتنكيل والاضطهاد والإقصاء دون امتلاك أدنى قدرة على التأثير في مجريات الأمور، وهو ما وصفه بعضهم بالغباء السياسي الذي يفرض على الحركة الإسلامية أن تبقى مفعولا بها لسنوات بدلا من أن تكون الفاعل الأول. فما أحوجنا إلى حركات إسلامية لها من الحنكة العلمية والذكاء السياسي ما يجعلها تتفاعل بمهارة مع المجتمع وعناصر القوة فيه، تستفيد من الثغرات ونقاط الضعف، تهاجم تارة وتنسحب أخرى ، تفكر وتحلل وتخطط وتناور وتدافع، وما أحوج بلداننا إلى رجال ونساء كالشموع مستعدة للانصهار والذوبان لإنارة ظلمة ليلنا الدامس.