"هسبريس" تحل ضيفا على مقام صاحب النيافة "شمهروش".. قاضي قضاة الجان، الذي تفك عنده العقد ويتداول في بلاطه "حكماء" حول قضايا إنسيين تلبست بهم المخلوقات النارية. كما للإنسيين في هذا العالم محكمة "لاهاي" بهولندا، فإن لرفقائهم الجان أيضا على وجه الأرض "محكمة عليا"، تتعين في بلدة وسط جبال الأطلس الكبير. اللجوء إلى هذه "المؤسسة العدلية" التي لا يتخلف عن متابعة أطوار محاكماتها حتى "إبليس"، يستلزم المشي على الأقدام أو على ظهور البعير عبر طريق أفعوانية تمتد لنحو عشرة كيلومترات، وإذا كان زاد الرحلة يختلف حسب نية زوار المقام، فإن زمنها يمتد لنحو ساعتين عبر مسالك تتخلل جبالا شامخة سرعان ما تطأطئ قممها رويدا أمام "جبروت" جبل توبقال الذي ينتصب وعلى رأسه إكليل من السحاب. نحو "المحكمة العليا" عند منتصف الطريق، وبعد قطع واد جاف، صعودا نحو تيزي "أدج" كانت منازل بلدة إمليل تتلاشى وقد تركناها في الخلف، بينما تلقي "ف" التي التقيناها أثناء عبورنا الطريق نحو "شمهروش" بجسدها المترهل على ظهر بغلة تطوي الطريق الجبلية الضيقة أمامها بسلاسة، ويتقدمها عبد الله مالك الدابة، الذي يقتات من نقل حجاج سيدي "شمهروش" جيئة وذهابا من إمليل (تبعد عن مراكش بنحو 60 كيلومترا) نحو المقام القابع عند علو يبلغ 2500 مترا عن سطح البحر في كبد جبل توبقال. اللافت أن عبد الله ورفاقه في المهنة يعتمدون وحدة الجنس كوسائل للنقل، فهم يفضلون البغلات بدل البغال، لأنهن طيعات بشكل تنعدم معه "الزعرطة" التي تنتاب الذكور بين الفينة والأخرى، فيما ثمن الرحلة ذهابا وإيابا يكلف 110 درهما، على أن رحلة الذهاب وحدها من إمليل نحو "شمهروش" تكلف 70 درهما. أما "ف" التي كانت وهي راكبة تمسح بعينيها سفح جبل "أكلزيم" لم تنفك تغمغم بكلمات غير مفهومة، ثم تتوجه بالسؤال إلى عبد الله الذي كان يرد عليها باقتضاب وكأنه يغرد على "تويتر"، فالرجل بالكاد يتحدث العربية، ولا حيلة له مع أسئلة جرت عليه ثرثرة قد مل سماعها كلما حمل مريدي مقام سلطان الجان أمثال "ف". بعد حين وعقب لفة على اليسار بدت من بعيد "محكمة" ملك الجان "سيدي شمهروش"، الأمر يتعلق ببلدة رابية فوق واد يتدفق ماء عذبا، وهناك محلات مصطفة لبيع الأغذية والملابس، وأخرى متخصصة في مستلزمات الطقوس الخاصة بالزيارة كالشموع وماء الزهر والبخور، وعند أقصى البلدة صخرة مطلية بالجير الأبيض، تنتصب قربها صومعة مسجد تؤدي إليه قنطرة صغيرة بالقرب منها لافتة كتب عليها بالعربية وترجمة فرنسية "خاص بالمسلمين". هنا وتحت هذه الصخرة كان يقيم "سيدي شمهروش" ملك الجان "سيد" المخلوقات غير المرئية التي تقتسم والإنس أرض الله، بخلاف الشائع من أن الجلمود هو مكان لضريح "شمهروش" أو "شمهورش" كما هو معروف لدى البعض، فإن محمد الرحالي القيم على المقام المحيط بالصخرة قال ل"لمجلة هسبريس" إن هذا المكان هو خلوة كان يلجأ إليها هذا "الملك" للتعبد فيها بعيدا عن أعين الإنس والجن، إذ لا شيء غير صفير الرياح التي تلهو بين جبال الأطلس الكبير، وأسراب الغربان التي تجوب المنطقة طيرانا وهي لا تنفك تنعق ملء فيها. الولوج إلى داخل القبة، يتم عبر سرداب كتب عند آخره "ممنوع التصوير"، وفي هذا المكان تضفي أشعة الشمس التي تتسلل من "طاقات" صغيرة هالة من المهابة، فالمكان هو بلاط ملك الجن، أما الجدران فقد تم تزيينها بألواح كتبت عليها بعض الأدعية وآيات قرآنية، مهداة من قبل زوار سبق أن مرقوا من هنا. عرش "شمهروش" أشبه ما يكون بقبر صغير مغطى بإزار أبيض، لكنه في الحقيقة ليس إلا صندوقا حديديا في حفرة تحت الجلمود الكبير، يترنح فيها زوار بهم مس من الجن، وكل مصاب يفصح عما فيه بمجرد ولوج المقام، حيث يترنح "الملبوسون" بالجن، وتشرع أفواههم في ترديد كلمات مبهمة لا يفك طلاسمها غير "محمد الرحالي" الذي أشار إلى أن هؤلاء يرفعون بذلك تظلماتهم إلى "سيدي شمهروش" حتى يفصل بينهم وبين الجن الذي يلبسهم، أما الأحكام فتصدر في المحكمة العليا كل يوم خميس الذي يعتبر موعدا مقدسا لجان العالم المسلمين للمثول أمام الملك "شمهروش" ليأتمروا ب"أحكامه العادلة" إنصافا للإنس المشتكين إليه. ويزعم مريدو هذا المقام أن سبعة من ملوك الجن ينزلون بالمقام للفصل في القضايا، وكل يوم مخصص لملك منهم، إذ تقام جلسات جذبة أو حضرة كما يطلق عليها هاهنا وتقدم لهم ذبائح كقرابين كل حسب "قضيته"، وحين لا تجدي الطقوس أو القرابين نفعا، إذ ذاك يكون لزاما إخضاع الجنية أو الجني الذي لم يستجب لهكذا "تضرعات" إلى المحاكمة. "طقوس وجنس" لم تمر غير لحظات ونحن نتحدث إلى الرحالي داخل المقام، حتى علا صوت نسائي يناجي "سيدي شمهروش"، إنها "ف" التي وصلت لتوها إلى المكان بعدما كنا قد تركناها خلفنا وهي تساوم تاجرا في بلدة "شمهروش" حول عنزة سوداء اللون، وعلى حين غرة وكأنما لفظته الأرض هب شخص يرتدي ثيابا مهلهلة حمراء قانية ويخفي رأسه تحت وشاح أخضر وهو يتكئ على عصا رغم أن صحته تبدو جيدة، وراح يتمتم متقدما "ف" بعدما أمسك بحبل ملفوف حول رقبة العنزة. "ف" كانت ترتدي بذلة رياضية زرقاء اللون، وخلافا للقاء "هسبريس" معها في الطريق أصبح وجهها ممتقعا وكانت شفتاها ترتعشان رغم الدفء الذي يعم المكان، وبعد حديث "سري" جمع بين "ف" و"الرحالي" جرى اقتياد العنزة، التي كلفت 950 درهما، نحو مذبح عشوائي قرب المقام، حيث جرى سكب الحليب وقارورات من "ماء الزهر" على ظهرها قبل أن يجز المجذوب عنقها بمدية حادة. وكما "ف" تكون قد قدمت بذبحها العنزة قربانا ل"جني" يسكنها، ك"عربون" له أو "غرامة" استوجبها حكم أصدرته "المحكمة العليا" وبلغ علمها في مرة سابقة من لدن "الرحالي"، فإن أحكاما أخرى تستوجب على بعض المشتكين البقاء هاهنا في بلدة "شمهروش" إلى حين يتم إطلاق سراحهم بعفو أو بقضاء للعقوبة الملقاة عليهم بعد الاحتكام إلى سلطان الجان. وما هي "أمارات" انعقاد محاكمة للجان في هذا المقام؟ الإجابة تأتي بشكل تلقائي من فم الرحالي، فالرجل خبر أسئلة مثل هذه، والإجابة عنها أصبحت أسطوانة يرددها دائما "لما يدخل الممسوس بالجن إلى مقام "شمهروش" تصمت الخشبة ليتكلم بدلها الجني الذي يسكنها وحينما تنعقد محاكمة فإن "أماراتها" تتبدى في رعد مزمجر وبرق يومض في السماء حتى وإن كانت درجة الحرارة المسجلة في المنطقة تفوق الأربعين درجة مائوية". وفي جولة في ضيافة "شمهروش" بدت إحدى السيدات وهي ترنو إلى "ف" من على شرفة قريبة من المقام، وبعد لف وتلكؤ عن الكلام قالت هذه السيدة الخمسينية إنها تقيم هنا منذ نحو شهرين، لأن ضيافتها عند "الجواد لم تنقض بعد"، لكن الرحالي أفاد بأن قضية هذه السيدة تستلزم الكثير من الوقت حتى يتم الفصل نهائيا فيها ويصدر حكم بالإفراج عنها. هذه السيدة ليست سوى واحدة من مئات الزوار الذين حلوا بالمقام وأقاموا أياما بين ظهراني قاطني هذه البلدة التي بها 300 كانون (عائلة)، يشكلون خلال إقامتهم مورد دخل لأصحاب غرف تكترى لهم وأصحاب محلات تجارية صغيرة محاطة بأسيجة تحول بين سلعهم والماعز الذي ينط في المكان هنا، ثم الغربان التي تجوب سماء المكان في اعتقاد بأنها مسكونة بالأرواح الشريرة. وكما تتناسل حكايات عن كرامات في هذا المكان، فإن جدران غرف "الكراء" تختزن كذلك ذكريات أليمة لنسوة حللن بالمكان عازبات ثم أصبحن أمهات، وقد طال بهن الزمن في هذه البلدة التي تظل عصية على مراقبة السلطات بسبب مشقة الطريق الفاصلة بينها وبين إمليل المشرفة ترابيا عليها، فقد أفاد لحسن، وهو دليل يمتهن قيادة وفود السياح الأجانب الذين يمرون من البلدة في اتجاه قمة جبل توبقال، بأن وعورة التضاريس تفرض على السلطات تنفيذ "طلعات موسمية" على ظهور البغال، وهذا "ما يمنح وقتا كافيا أمام أصحاب النوايا السيئة من النساء والرجال الذين يشجعهم سكون المكان على الاختلاء ببعضهم البعض بعيدا عن الأعين". وفيما نقل لحسن رواية عن نساء يضطررن لممارسة الجنس بشكل غير شرعي تتميما لطقوس الشفاء من المس، نفى محمد إذ بلعيد حفيد باني المقام هذا الأمر، مشيرا إلى أن أبناء البلدة لا يسمحون بهكذا ممارسات، فإلى جانب أن مقام "سيدي شمهروش" هو طاهر، فإن هذه البلدة الجبلية تلتحف رداء محافظا. "حكاية جني ملك" الزمن: القرن الواحد والعشرون، والغريب أن ل"شمهروش" ومقامه الجبلي، حكاية تمتد من القرن الماضي يتناقلها مريدوه ويتلقفها زواره بكل لهفة، والتفاصيل: استقتها " هسبريس" كالتالي من لسان محمد، حفيد الحاج إذ بلعيد الذي شيد المقام عند الصخرة سنة 1929. ملك الجان يدعى "الشيخ أبا الوليد شمهروش"، وهو جني مسلم، يحكى أنه صحابي مازال حيا بعدما عايش الرسول محمد "صلعم" منذ ما ينيف عن 14 قرنا، وله من الأولاد عبد الرحمن والوليد والمجلجل والهمهل وداعوس وماكوس وشبراق وبرمهيون ومرجاع وكندش وكيموش، وله من البنات عائشة ورقية وهيلانة ومفوعة ونورية وسيافة وهمامة وحمامة. ويحكى أن سلطان الجان "شمهروش" تخلى عن العرش وترك الحكم لابنه عبد الرحمن من بعده وهو لا يحضر إلا أكابر المحاكمات بين الملوك. أما سبب معرفة مقامه هذا فيعود إلى أواخر عشرينات القرن الماضي، بعدما ظل الحاج إذ بلعيد، جد المتحدث إلى "هسبريس" الذي كان يقطن بدوار "أرمز" يرتاب من عرق كان يتصبب بغزارة من حصان له بعد صلاة فجر كل يوم، ولما كانت تلك السنوات مرحلة "النوايا" فإن الجد تربص بحصانه في إحدى المرات، قبل انبلاج الفجر، لمعرفة سبب الإجهاد الذي يتعرض له الجواد وهو في الإسطبل، لكنه لمح من بعيد نورا أبيض يمرق بجوار الأخير قبل أن يتبدى له رجل ذو بشرة براقة ولحية طويلة ويرتدي ثيابا بيضاء ناصعة، هذا الرجل لم يكن غير "سيدي شمهروش" الذي بادر الجد الذي كان مذهولا بالسلام ثم الشكر إياه بعدما أخبره أنه "شمهروش" ملك ملوك الجان، وأنه ظل يتوسل بالحصان ممتطيا إياه للوصول إلى "خلوة" يتعبد فيها، قبل أن يشير إلى مكانها وقد أثنى عليه بخدمته في تسخير الحصان له من أجل تشييد مقام على "خلوته" يكفل له العيش وما تبعه من خلف ينتسب إليه، بسبب استقبال مريدين إنسيين يلجؤون إليه للفصل بينهم والمخلوقات النارية. تم تشييد المقام وجرى الإعلان عنه كمكان يهوي إليه الجان من كل حدب وصوب تيمنا بمقام الملك "سيدي شمهروش"، وقد تحول مع مرور السنين إلى محكمة عليا لهذا "الجني الورع"، والألسن ها هنا تردد أن الصخرة الكبيرة هي بمثابة كرسي "شمهروش"، وعندما يأتي الناس للتداوي من عللهم الروحانية يتمرغون تحت الصخرة، فيبدأ الجني الذي يتلبسهم بسرد الأسباب التي جعلته يسكن "الخشبة"، وبعدها يكون الفصل بين الإنسي والجني بحكم بات من قاضي القضاة السبعة ممن يشاطرونه المشورة قبل إصدار الأحكام. وليس بعيدا عن مقر "المحكمة العليا" المختصة في نزاعات الإنس والجان، تتعدد "أقسام قضائية" هي في الحقيقة مقامات بعض من أفراد هيئة الحكم مثل "سيدي ميمون والباشا حمو، ولالة ميرا ولالة مليكة ثم لالة عيشة ابنة سلطان الجان". على أن طقوسا تقام في هذه المقامات لاستدرار عطف هؤلاء تستلزم وضع الشموع وصب ماء الزهر على المكان، مع تقديم قرابين للجنية أو الجني الذي يسكن "الخشبة" المشتكية.