ثمة تطورات مهمة، حصلت في الأيام القليلة الماضية، تؤشر على بداية العمليات الاستباقية لتلافي صناعة وضع اختلال ميزان قوى في منطقة الساحل جنوب الصحراء. فعقب زيارة وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب، رفقة وفد حكومي إلى موسكو في الأسبوع الثالث من شهر مايو، قام الجنرال دو ديفزيون المختار بول شعبان، قائد الأركان العامة للجيوش الموريتانية يوم 24 مايو بزيارة عمل إلى المغرب، أجرى فيها محادثات مع عبد اللطيف الوديي الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المغربية المكلف بإدارة الدفاع الوطني، كما قام الجنرال دوكوردارمي شيخ واد، قائد الأركان العامة للقوات السنغالية، بزيارة المغرب في نهاية شهر مايو، مرفوقا بوفد عسكري هام. المشترك في البلاغين الصادرين عن القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية، هو الحديث عن «ضرورة تعميق وتوسيع نطاق التعاون العسكري الثنائي في مجال الدفاع والأمن» و«تبادل الخبرات والتجارب بين القوات المسلحة في البلدين بهدف مواجهة التهديدات والتحديات الأمنية، ولا سيما مكافحة الهجرة غير الشرعية والتهريب». ثمة مشترك آخر مهم في زيارة هذين الجنرالين اللذين يمثلان هيئة الأركان والدفاع في كل من موريتانيا والسنغال، وهو استقبالهما من طرف الجنرال ولد شيخ قائد المنطقة الجنوبية، بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية بالرباط. وزير الخارجية المالي لم يخف خلفيات زيارته إلى موسكو، فقد جاء للعاصمة الروسية طلبا للدعم العسكري، وذلك عقب محاولة انقلاب فاشلة تعرضت لها بلاده في 11 و12 مايو، وتم اتهام جهات غربية بافتعالها (توجه مالي أصابع الاتهام لباريس). وزير الخارجية الروسي زار الجزائر يوم الحادي عشر من شهر مايو، وتركزت مباحثاته على نقطتين محورتين، أولهما ضمان التزام الجزائر بعقود الطاقة التي تم إبرامها، أي ضمان عدم إضرار الجزائر بالمصالح الاستراتيجية لروسيا، ثم الحديث عن وثيقة استراتيجية بين البلدين، لا يعلم بعد فحواها وحدودها، وربما يتم كشف جزء من محتواها في الزيارة المرتقبة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى موسكو للقاء الرئيس بوتين. تفسير العلاقة بين هذه التطورات ليس صعبا، فالاتجاه واضح، لكن، ما يعززه أكثر هو تطور آخر ملفت، ربما يجعل الصوة أكثر وضوحا، فقد أعلن حلف شمال الأطلسي «الناتو» في نهاية شهر مايو، عزمه اتخاذ إجراءات خلال أشهر لتعزيز وتكثيف التعاون مع موريتانيا، معتبرا نواكشوط شريكا رئيسيا للحلف، ودولة محورية في المنطقة. الأمين العام المساعد للشؤون السياسية والأمنية بالحلف، السيد خافيير كولومينا، كشف عن خلفيات مباحثاته مع الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، وأن الأمر يتعلق بالتنسيق والتعاون والوضعية الأمنية في منطقة الساحل. تركيب هذه المعطيات، يفيد أن لروسيا والجزائر تقاطع مصالح، وأن كل بلد يسعى لتوظيف علاقته الاستراتيجية مع الآخر بطريقة مختلفة. موسكو تسعى إلى توسيع نفوذها بمنطقة الساحل جنوب الصحراء، وتعتبر ذلك بوابة استراتيجية للامتداد في حدائق فرنسا الخلفية في غرب إفريقيا، وتعتبر أن الجزائر توفر لها الجغرافيا السياسية للتحرك، وتستغل في الوقت ذاته، موقف الغرب من السلطة في مالي، وحاجة هذه السلطة للاقتراب من موسكو لتحصين سلطتها. أما الجزائر، فعينها على هزم الدبلوماسية المغربية التي حققت انتصارات مهمة في قضية الصحراء، وتعتبر أن مالي باتت تشكل المدخل الأساسي لاستعادة المبادرة، وأن التنسيق الاستراتيجي الروسي الجزائري في المنطقة، سيفتح مروحة جديدة للخيارات والمناورات، لإحداث التوازن على مستوى قضية الصحراء. ما يوحد المغرب وموريتانيا، هو الخشية أن تكون الحدود، سواء في موريتانيا أو منطقة النزاع في الصحراء، جزءا من تكتيكات الجزائر في توظيف النفوذ الروسي في منطقة الساحل جنوب الصحراء، ولذلك، اتجها بشكل مبكر، وقبل أن يتحرك الناتو إلى التنسيق الاستراتيجي والأمني والعسكري على هذا المستوى إلى تنسيق الجهود الأمنية والعسكرية. البعض رأى في زيارة المسؤول العسكري الموريتاني للمغرب، بأن القضية تدخل ضمن تطور العلاقات التي كانت شبه باردة في السنوات الماضية، وأن وصولها إلى هذا الأفق (التنسيق العسكري) يدل على أن البلدين يمضيان نحو علاقات استراتيجية، وأن الجزائر بدأت تفقد رهانها على موريتانيا، لكن الواقع، يؤكد بأن ما يحرك الجانب الموريتاني، هو حساسية استعمال حدوده، لأنه يدرك أن هذه القضية جد حساسة، وأن الجزائر سبقت في أكثر من حادثة، أن اتهمت المغرب باستهداف مواطنيه داخل الأراضي الموريتانية، لإحراج نواكشوط، ودفعها للقطيعة مع المغرب، أو على الأقل، لصناعة توتر بين البلدين، وأن نواكشوط دائما ما كان تسارع لنفي وقوع هذه الأحداث في أراضيها. البعد الاستراتيجي في زيارة موريتانيا، يمكن تفسيره من جهة علاقة هذا البلد بالناتو لا من جهة علاقاته بالمغرب، فموريتانيا في تدبير علاقتها مع المغرب كانت دائما ما تحرص على أن تجعل القضايا الاقتصادية والتجارية بعيدة عن القضايا السياسية، بحكم أنها تقدر أن وضع الحياد في قضية الصحراء يخدمها، ويجعلها في منأى عن الدخول في توترات حدودية سواء مع المغرب أو الجزائر. تحليل هذه المتجهات، يفيد بوجود تقاطع مصالح بين الاعتبارات الاستراتيجية التي تحرك الحلف الأطلسي (التضييق على النفوذ العسكري الروسي في منطقة الساحل جنوب الصحراء ثم في منقطة غرب إفريقيا) وبين المصالح المغربية، التي ترى أن تعزيز العلاقة الاستراتيجية للجزائر وموسكو في هذه المنطقة، سيمس قضية وحدته الترابية، ويمس أيضا مصالحه في المنطقة، لاسيما في مالي. من المفيد في خضم هذه التطورات أن نشير إلى حدث مهم، يبرز كيف استفاد المغرب من الاعتبارات الاستراتيجية التي تحرك الحلف الأطلسي في منطقة الساحل جنوب الصحراء، ومن ثم في منطقة غرب إفريقيا برمتها، ففي خضم هذه الديناميات، صادقت منظمة الإيكواس (دول غرب إفريقيا) مع المجلس التنفيذي الفدرالي لنيجيريا على دخول شركة البترول الوطنية النيجيرية في اتفاقية من أجل بناء خط أنابيب الغاز بين نيجيريا والمغرب، وهو ما يعكس في الجوهر، نهاية التنافس المغربي الجزائري على هذا الأنبوب، وحسم الرباط لهذه الصفقة، بل وأكثر من ذلك، فإن هذه الخطوة، تبين الأدوار التي تقوم بها الصراعات الاستراتيجية في المنطقة، في تحويل اتجاهات الصفقات التجارية الحيوية، وصبها في مصلحة المغرب، أو للدقة، في المصلحة التي تعاكس المصالح الروسية والجزائرية في المنطقة.